نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب أحمد نظيف، تناول فيه عدة ملاحظات على الهجوم الإرهابى الذى تم يوم 22 مارس شمال غرب موسكو، والتداعيات المحتملة لهذا الهجوم الفترة المقبلة... نعرض من المقال ما يلى:
بعد ساعات من بدء إطلاق النار داخل قاعة للحفلات الموسيقية، فى منطقة كروكوس سيتى هول شمال غرب موسكو يوم 22 مارس 2024، أعلن الفرع الأفغانى لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش ــ خراسان)، مسئوليته عن الهجوم الإرهابى، الذى خلف ما لا يقل عن 115 قتيلا و121 جريحا. ويتراوح العدد الدقيق للمهاجمين المتورطين، بحسب المصادر الأمنية الروسية، بين ثلاثة وخمسة. فيما نجحت السلطات، على نحو سريع، فى اعتقال عدد من المتورطين بشكل مباشر فى العملية.
أما الأجهزة الأمنية الروسية، فقد كشفت عن أن المشتبه بهم كانت لهم «اتصالات» فى أوكرانيا، دون توجيه تهم مباشرة لسلطات كييف. وقال جهاز الأمن الفدرالى، نقلا عن وكالة «تاس»: «بعد ارتكاب الهجوم الإرهابى، كان المجرمون يعتزمون عبور الحدود الروسية الأوكرانية». ووفقا لوسائل الإعلام الروسية، والنائب ألكسندر كينشتاين، فإن بعض المشتبه بهم المعتقلين من طاجيكستان. فيما ردت السلطات الطاجيكية بالقول إنها «لم تتلق تأكيدا من السلطات الروسية بشأن المعلومات المتداولة حاليا حول تورط مواطنين طاجيك». فى المقابل، حظى الهجوم بإدانة واسعة من المجتمع الدولى، بما فى ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وفرنسا والمملكة المتحدة.
هناك عدد من الملاحظات والرسائل الرئيسية التى انطوى عليها هجوم موسكو الإرهابى، ومنها الآتى:
1ــ هجوم دام: يأتى هجوم موسكو فى وقت تخوض فيه روسيا حربا فى أوكرانيا منذ أكثر من عامين؛ إذ تمت تعبئة كل مقدرات الدولة الأمنية والعسكرية والمعلوماتية للصراع فى أوكرانيا. وعلى الرغم من أن البلاد فى حالة طوارئ منذ بدء الحرب، فإن المهاجمين تمكنوا من اختراق جميع الحواجز الأمنية ووصلوا إلى العاصمة موسكو ونفذوا هجوما إرهابيا هو الأكبر، والأكثر دموية منذ عام 2002. فهذا الهجوم يعيد إلى الأذهان عشرية العمليات الإرهابية الدامية، التى عاشتها روسيا بين نهاية التسعينيات وعام 2011.
2ــ رسالة ذات مضمون سياسى: جرى هجوم موسكو بعد أيام قليلة من إعادة انتخاب الرئيس، فلاديمير بوتين، لولاية رئاسية جديدة. فالرئيس بوتين قد أسس شعبيته على فكرة «الرجل القوى»، بوصفه ينحدر من جهاز المخابرات السوفيتى، وما يمثله من خيال شعبى يتصل بالقوة والسيطرة والتحصين الأمنى. لذلك فإن هذا الهجوم قد يخدش هذه الصورة؛ إذ نجح المهاجمون فى الوصول إلى قلب البلاد وأوقعوا هذا العدد الكبير من الضحايا.
3ــ المواجهة مع تنظيم داعش: تتعلق هذه الملاحظة بالجهة التى تبنت الهجوم؛ وهى تنظيم «داعش ــ خراسان» الإرهابى؛ إذ تبدو العملية على أنها تذكير من التنظيم للعالم بأنه ما زال قويا وقادرا على ضرب خصومه، بالرغم من تراجعه خلال السنوات الأخيرة وهزائمه فى سوريا وليبيا والعراق، وتفكك خلاياه النائمة فى أوروبا.
4ــ تطابق التوقعات الأمنية الأمريكية مع الواقع: حذرت السفارة الأمريكية فى موسكو، فى 7 مارس الحالى، أى قبل أيام قليلة، من هجوم وشيك من قبل «متطرفين يستهدف التجمعات الكبيرة فى موسكو، بما فى ذلك الحفلات الموسيقية» ونصحت مواطنيها بتجنب التجمعات الكبيرة. وقالت أدريان واتسون، المتحدثة باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى: «فى وقت سابق من هذا الشهر، حصلت الحكومة الأمريكية على معلومات حول هجوم إرهابى مخطط له فى موسكو، يحتمل أن يستهدف تجمعات كبيرة، بما فى ذلك الحفلات الموسيقية، وشاركت واشنطن هذه المعلومات مع السلطات الروسية»، مشيرة إلى أن إدارة جو بايدن تنفذ منذ فترة طويلة سياسة «واجب التنبيه» الذى بموجبه تحذر الولايات المتحدة الدول المستهدفة عندما تتلقى معلومات استخباراتية حول تهديدات محددة بالاختطاف أو الاغتيالات.
منذ الساعات الأولى للهجوم الإرهابى فى موسكو، برزت فرضيتان حول المنفذ وصاحب المصلحة، هما كالتالى:
1ــ الفرضية الأولى: تتعلق بتنظيم داعش، الذى أعلن صراحة تبنيه للهجوم. وتقوم هذه الفرضية على أن داعش هو المخطط والمنفذ وصاحب المصلحة فى الهجوم، ولها ما يدعمها فى الواقع وفى المنطق السياسى والتاريخى للعلاقة بين الطرفين، خاصة أن التنظيم قد ركز فى دعايته خلال السنوات الماضية على ما يسميه بـ«العدو الروسى». وبالرغم من أن إعلانات التبنى التى يصدرها التنظيم لم تكن دائما دقيقة، وكان بعضها يقع ضمن خانة الاستعراض الإعلامى، للإيحاء بأنه ما زال قويا وفاعلا. ومع ذلك فقد قال مسئول أمريكى لشبكة «سى بى إس نيوز» إن الولايات المتحدة لديها معلومات استخباراتية تؤكد ما أعلنه تنظيم داعش عن مسئوليته عن الهجوم، وأنه ليس لديهم أى سبب للشك فى ذلك.
2ــ الفرضة الثانية: ما تحدث عنه الجانب الروسى على نحو ضمنى، وهو تورط أوكرانيا ومن ورائها الدول الغربية فى دعم ذلك الهجوم. وهذه الفرضية تقوم على درجتين من التورط، الأولى، وهى المنفذ المباشر للهجوم، ويمكن أن يكون تنظيم داعش أو أى جماعة إسلامية أو انفصالية ناشطة داخل الاتحاد الروسى، ولاسيما فى القوقاز: الشيشان وداغستان وإنغوشيا. والدرجة الثانية، هى المخطط والداعم وصاحب المصلحة الحقيقى، وهنا يبدو الجانب الروسى ميالا إلى اتهام كييف وحلفائها الغربيين.
وعلى الرغم من أنه من السابق لأوانه القطع بطبيعة الجهة المنفذة والمخططة وأصحاب المصلحة فى هجوم موسكو، فإن الشكوك الروسية حول مدى تورط تنظيم داعش فى تقاطع مع المصالح الأوكرانية والغربية، ربما لها ما يدعمها من شواهد فى التجربة التاريخية، لنشاط الجماعات الإسلامية الإرهابية؛ إذ إن جزءا مهما من تاريخ هذا النشاط ارتبط على نحو وثيق بسياسات التوظيف الغربية لهذه المجموعات، بداية من حملة الجهاد الأفغانى انطلاقا من عام 1979 حتى بداية التسعينيات، والتى كانت تستهدف الاتحاد السوفيتى السابق والنظام الأفغانى الشيوعى المتحالف معه آنذاك. وكذلك فى التجربة اليوغسلافية، عندما تقاطعت مصالح القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة مع الجماعات الإسلامية الجهادية لإسقاط نظام سلوبودان ميلوشيفيتش وتقسيم البلاد إلى كيانات عرقية ودينية. وخاصة أن الحرب التى تخوضها روسيا ضد أوكرانيا، ذات طبيعة هجينة، وتستعمل فيها جميع الأسلحة الاقتصادية والديموغرافية والمعلوماتية وتوظف فيها الكيانات العسكرية غير النظامية والميليشيات والجماعات المسلحة العرقية والدينية.
هناك تداعيات محتملة لهجوم موسكو الإرهابى خلال الفترة المقبلة، لعل أبرزها ما يلى:
1ــ إعادة تنظيم الأجهزة الأمنية الروسية: لا شك فى أن تداعيات هذا الهجوم ستكون أساسا على الجانب الروسى وما يتعلق بتنظيم الأجهزة الأمنية والمخابرات؛ إذ إن أسبقية الجانب الأمريكى فى الوصول إلى معلومات تفيد بإمكانية وقوع هجمات، تكشف عن تقدم أمنى مخابراتى أمريكى وغربى فى مواجهة روسيا. لذا من المحتمل أن يدشن الرئيس بوتين ولايته الجديدة بتغييرات جذرية على مستوى القيادات الأمنية والاستخباراتية. وكذلك على مستوى النهج الأمنى، الذى استحوذت الحرب الأوكرانية على جزء واسع من عمله.
2ــ الانتقام من أوكرانيا: ستكون التداعيات أشد خطورة على أوكرانيا فى حالة استقرت القيادة الروسية على اتهام واضح للجانب الأوكرانى فى دعم الهجوم أو التخطيط له. وضمن هذا السيناريو، من الممكن أن يكون الرد الروسى فى شكل هجوم عسكرى قوى، أو هجمات متلاحقة، تعيد الاعتبار للأجهزة الروسية وترمم صورة بوتين، التى ربما خدشها الهجوم.
3ــ استئناف الحرب الروسية على الإرهاب داخل البلاد: من المتوقع أن يعيد بوتين نشر قوات خاصة فى القوقاز وعلى الحدود مع دول وسط آسيا، وربما تنفذ السلطات عمليات أمنية خاصة خارج حدود البلاد؛ إذ توجد معاقل تنظيم «داعش ــ خراسان»، فى وسط وجنوب آسيا، ولاسيما فى أفغانستان وباكستان. وهذا التوجه يمكن أن يقوى التحالف الروسى الإيرانى فى مجال مكافحة التنظيم؛ إذ تعانى إيران من تهديدات دائمة له. فقبل أشهر، وتحديدا فى 3 يناير 2024، فجر انتحاريان ينتميان للتنظيم نفسيهما على الطريق التذكارى لاغتيال الجنرال، قاسم سليمانى فى مدينة كرمان، مما أسفر عن مقتل 84 شخصا وإصابة 284 آخرين، فى هجوم هو الأكثر دموية فى البلاد منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
أحمد نظيف*
باحث تونسي