في إطار سلسلة "الكتب المترجمة" التي أطلقها مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، صدر عن المركز، وفقاً لاتفاق خاص مع دار نشر جامعة ييل، كتاب بعنوان "كل شيء كسلاح: دليل ميداني للحرب في القرن الحادي والعشرين" للكاتب البريطاني مارك غاليوتي، وترجمة دينا عبدالمنصف.
ويقدم الكتاب، الصادر في عام 2022، نظرة عامة وواضحة، على نحو مثير للإعجاب، لأشكال الصراع الغامضة والعصية على الفهم. إذ توصف هذه المساحة بالحروب الهجينة أو حروب المنطقة الرمادية أو الحروب منخفضة الكثافة؛ وهي المنطقة غير المحددة بين العلاقات السلمية والحرب المعلنة.
فقد أضحت الصراعات التقليدية، التي يُخاض فيها القتال بالبنادق والمدافع والطائرات المُسيَّرة، أكثر تكلفة ولا تحظى بالشعبية في الداخل وتستعصي على الإدارة. وفي العصر الذي تهدد فيه الولايات المتحدة دول أخرى بالعقوبات، وتنفق الصين المليارات لشراء النفوذ في الخارج، يتجه العالم نحو عصر جديد من الصراعات الدائمة منخفضة الكثافة، غير الملحوظة وغير المعلنة وغير المنتهية في أغلب الأحوال.
ومع عودة الصراعات إلى أوروبا مرة أخرى في ظل الصراع في شرق أوروبا وأوكرانيا، يقدم غاليوتي مسحاً شاملاً وجديداً لأدوات الحرب الجديدة، من خلال إلقاء نظرة فاحصة على مختلف مناطق العالم، وكذلك الحقب التاريخية من العالم القديم حتى عصرنا الحالي. ويوضح الطرق التي تُخاض بها صراعات العالم، حيث يُستخدم كل شيء كسلاح، بدايةً من عمليات التضليل والتجسس والجريمة والتخريب، ما يؤدي إلى نشر الاضطرابات داخل الدول. وبدلاً من التعويل على العودة إلى ما فات من "عالم مستقر ومعروف ويقيني"، يشرح غاليوتي طرق البقاء والتكيف، بل واستغلال الفرص التي يقدمها الواقع الجديد.
ويقول غاليوتي إن هذا الكتاب ليس تنبؤاً بالمستقبل، بل مقدمة لمسار مستقبلي مُحتمل، حيث نبهتنا جائحة "كورونا" إلى أننا في الحياة نصطدم بأمواج غير متوقعة قد تغير العالم بأكمله. وقد يكون من السهل اعتبار المستقبل المقصود هنا واقعاً مريراً الصراع فيه أبدي، ويمكن استخدام كل شيء فيه من أعمال خيرية إلى القانون كسلاح.
ولا يعني هذا أن صراعات المستقبل ستكون دون إراقة دماء، حيث يموت الناس جراء العقوبات الاقتصادية، والمعلومات المضللة المناهضة للقاحات، والفساد في ميزانية الصحة أيضاً؛ ولكنها أقل دموية، إذ تصبح الحروب المباشرة بين دولة وأخرى خروجاً عن السائد. وقد يكون عالماً يستطيع فيه الأخيار استخدام الأدوات نفسها بفاعلية كما يفعل الأشرار إن وحدوا جهودهم. ففي التفاعلات الجيوسياسية، كلُ يخدم مصالحه الخاصة، ونادراً ما يكون أحد خيراً أو شريراً كلياً؛ بل يتنوع القبح بين الناس.
ويهدف الكتاب، كما يذكر غاليوتي، إلى تعزيز القدرات التكيفية للمجتمعات الغربية على حروب المستقبل التي تشمل كل شيء تقريباً. وبدلاً من التعويل على عودة العالم اليقيني والمعروف والمستقر، ثمة طرق للبقاء والتكيف وتعزيز فرص الاستفادة من طرق الحرب الجديدة. وتشمل وسائل التكيف، ضرورة سعي الحكومات الغربية لمحو أمية وسائل الإعلام الجديدة والمنصات التي تشيع من خلالها وسائل التضليل والمعلومات الزائفة. كذلك، من المهم قطع الطريق على الجماعات الإجرامية الصغيرة التي تستغل احتياجات بعض التجمعات والمجتمعات الصغيرة وتكون من خلالها شبكات الإجرام والإرهاب والتهريب والتزييف وغيرها من سُبل تقويض الاستقرار. ويشير غاليوتي أيضاً إلى أنه لا مفر من تعزيز الديمقراطيات الغربية وإعادة بث الثقة في مكوناتها الرئيسية، وإعادة تشكيل "الشرعية الشعبية" التي تقوم عليها هذه الديمقراطيات.
ويؤكد غاليوتي أنه بعيداً عن الصراعات العسكرية الصريحة، أصبح الفارق بين الحرب والسلام، والنصر والهزيمة، ضبابياً. فثمة انتصارات وليس نصراً واحداً، وهناك تصعيد للتنافس وتخفيف من التصعيد من حيث المستوى والجدية. وثمة تعريفات جديدة تماماً للقوة، حيث تعتمد القوة في أي نوع من الصراعات على استخدام الأدوات المناسبة والإصرار على توظيفها. وإذا أصبحت الصراعات المتزايدة هي صراعات على النفوذ والعلاقات واستعراض القوى الاقتصادية والتلاعب السري، فإن هناك مؤشرات قوة جديدة أكثر أهمية.
الجدير بالذكر أن مؤلف الكتاب غاليوتي هو باحث ومؤرخ بريطاني متخصص في الشؤون الأمنية الروسية والجريمة العابرة للحدود. ويدير شركة "مايك للاستخبارات"، وهو أستاذ شرفي بكلية الدراسات السلافية ودراسات شرق أوروبا بجامعة لندن، كما أنه زميل للمعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن، ومعهد الشرق الأوسط في واشنطن. وصدرت له العديد من الكتب والدراسات حول تاريخ روسيا والنظام السياسي الروسي والجريمة المنظمة.