شنت القوات الأذرية، في 19 سبتمبر 2023، حملة عسكرية جديدة ضد إقليم ناغورنو كاراباخ الانفصالي، بدعوى مكافحة الإرهاب بعد مقتل عدد من جنودها هناك، وهو ما أثار تخوفات من احتمالية الانزلاق في حرب شاملة جديدة في جنوب القوقاز، قبل أن تعلن باكو عن سيطرتها الكاملة على الإقليم بعد يوم واحد من إطلاقها لعمليتها العسكرية، الأمر الذي طرح كثيراً من الإرهاصات بشأن الانعكاسات المحتملة على التوازن الجيوسياسي في هذه المنطقة.
حرب خاطفة:
عادت منطقة جنوب القوقاز لتتصدر المشهد مرةً أخرى بعد تجدد التوترات بين أذربيجان وأرمينيا خلال الأيام الأخيرة، ويمكن استعراض أبرز أبعاد هذا التصعيد على النحو التالي:
1- تجدد الصراع: ارتبط تجدد الصراع الأخير في ناغورنو كاراباخ بسياقات الحرب السابقة بين باكو ويريفان عام 2020، حيث نصت الهدنة آنذاك على قيام القوات الروسية بمراقبة ممر "لاتشين"، والذي يسمح للأرمن بالتنقل بين إقليم ناغورنو كاراباخ الذي يتمتع بالحكم الذاتي ويقع جغرافياً بشكل كلي داخل أذربيجان إلى أرمينيا، بيد أن الحظر الذي فرضته أذربيجان على هذا الخط منذ ديسمبر 2022 أدى إلى نقص حاد في المواد الغذائية والسلع الأساسية للسكان في الإقليم، بينما لم تتدخل قوات حفظ السلام الروسية لفك هذا الحصار.
وفي هذا السياق، شنت أذربيجان عملية عسكرية، في 19 سبتمبر 2023، ضد إقليم ناغورنو كاراباخ الانفصالي (يعرفه الأرمن باسم "آرتساخ")، استهدفت خلالها عاصمة الإقليم، ستيبانكيرت، وبعض المستوطنات الأخرى هناك، بدعوى مكافحة الإرهاب، مما أسفر عن مقتل نحو 200 شخص فضلاً عن إصابة أكثر من 400 آخرين، وأكدت الرئاسة الأذرية تمسكها بنزع السلاح وضمان انسحاب التشكيلات العسكرية للقوات الأرمينية من ناغورنو كاراباخ.
وكانت الأسابيع الأخيرة قد شهدت تحشيدات ضخمة للقوات الأذرية على طول الحدود مع إقليم ناغورنو كاراباخ وأرمينيا، بالتزامن مع الحصار الذي فرضته باكو على الإقليم، ورغم مساعي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا التوسط للحيلولة دون اندلاع حرب جديدة في المنطقة، فإنه يبدو أن هذه المساعي لم تنجح في هذا الأمر، حيث أعلنت باكو رسمياً إطلاق عملية عسكرية، بعدما زعمت أن هناك عناصر من الأرمن متورطة في انفجار ألغام أرضية أسفرت عن مقتل أربعة جنود وعنصرين مدنيين من أذربيجان.
2- اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة روسية: بعد يوم واحد من إطلاق أذربيجان لعمليتها العسكرية في إقليم ناغورنو كاراباخ، أعلنت وزارة الدفاع الروسية، في 20 سبتمبر 2023، التوصل لاتفاق بين باكو والأرمن في الإقليم الانفصالي، حيث تضمنت الصفقة الجديدة تعهدات من حكومة ناغورنو كاراباخ بتفكيك وحدات الجيش وتسليم المعدات العسكرية قبل البدء في محادثات إعادة الدمج مع أذربيجان.
ومن جانبها، أعلنت أذربيجان سيطرتها الكاملة على إقليم ناغورنو كاراباخ، بعدما وافقت القوات الأرمينية في الإقليم على إلقاء أسلحتها والاستسلام الكامل لباكو، لتضع بذلك حداً لمشروع الأرمن في كاراباخ للانفصال عن أذربيجان منذ عدة عقود، ومن المتوقع أن يتمخض عن هذا الاتفاق نزوح آلاف السكان الأرمن إلى يريفان، فضلاً عن تخوفات من حدوث إبادة جماعية ضد الأرمن في الإقليم، خاصةً في ظل تمسك الحكومة في أذربيجان بعدم منح الأرمن في ناغورنو كاراباخ أية حقوق خاصة أو ضمانات أمنية. وقد أجرت أذربيجان مُباحثات مع حكومة إقليم ناغورنو كاراباخ الانفصالي، في 21 سبتمبر 2023، في منطقة "يفلاخ"، غرب العاصمة باكو، بيد أن هذه المشاورات لم تسفر حتى الآن عن أية اتفاقيات نهائية بين الطرفين.
3- دعوات دولية للتهدئة: أدان الاتحاد الأوروبي ووزاراتي خارجيتي فرنسا وألمانيا، العمل العسكري الذي قامت به أذربيجان في إقليم ناغورنو كاراباخ، ودعت باريس إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن، لافتةً إلى أن العملية التي تقوم بها باكو في منطقة "ناغورنو كاراباخ" غير قانونية. فيما طالب الأمين العام للأمم المتحدة بضرورة الوقف الفوري للقتال. كما وجه وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، دعوة إلى الرئيس الأذري، إلهام علييف، بضرورة الوقف الفوري للأعمال العدائية في ناغورنو كاراباخ، مؤكداً دعم واشنطن لسيادة أرمينيا ووحدة أراضيها. ومن جانبها، دعت روسيا إلى الهدوء وضبط النفس من الطرفين والوقف الفوري للأعمال العدائية.
تقاطعات إقليمية ودولية:
يمثل الدور الخارجي أحد المحددات المُغذية للصراع الجاري بين أذربيجان وأرمينيا، فهناك شبكة مُعقدة من التحالفات المتغيرة للقوى الإقليمية والدولية المُنخرطة في هذه الأزمة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- علاقات مُتأرجحة مع روسيا: لطالما كانت أرمينيا أحد أبرز حلفاء روسيا، وهي عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، كما تستضيف يريفان قاعدة عسكرية روسية، بيد أن العلاقات بين البلدين بدأت تأخذ منحى آخر خلال السنوات الأخيرة، وذلك منذ الثورة التي شهدتها يريفان عام 2018، والتي أفرزت حكومة رئيس الوزراء الحالي، نيكول باشينيان، حيث بدأ الأخير في انتهاج مقاربة جديدة لبلاده، تستهدف التقارب مع الغرب على حساب العلاقات التقليدية مع موسكو، وقد انتقد باشينيان بشكل متكرر ومتزايد الدور الروسي في المنطقة، ملوحاً بضرورة اتجاه بلاده للتقارب أكثر مع الغرب لضمان أمنها.
كما رفضت يريفان مؤخراً السماح بإجراء تدريبات على أرضها من قبل منظمة الأمن الجماعي، في المقابل عمدت أرمينيا إلى إجراء تدريبات مع القوات الأمريكية خلال سبتمبر 2023، بل إن الحكومة الأرمينية عمدت قبل أسبوع واحد إلى تقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا، فضلاً عن تحركات يريفان الراهنة للتصديق على اتفاقية روما المُنشئة للمحكمة الجنائية الدولية.
وفي هذا الإطار، لم تتدخل قوات حفظ السلام الروسية الموجودة في المنطقة لمنع الهجمات التي شنتها القوات الأذرية، رغم مطالبات يريفان لهذه القوات بالتدخل، وهو ما اعتبرته بعض التقديرات رداً على الموقف الأرميني الراهن الذي يسعى للتقارب مع الغرب، وهو ما دفع رئيس الوزراء الأرميني إلى تحميل القوات الروسية في ناغورنو كاراباخ الفشل في صد هجمات القوات الأذرية. في المقابل ألمحت موسكو إلى أن باشينيان اعترف مؤخراً بسيادة أذربيجان على الإقليم الانفصالي، ما يجعل العملية العسكرية الأخيرة لباكو تمثل شأناً داخلياً خاصاً بأذربيجان.
وقد اعتبرت بعض التقارير الغربية أن هذا التحول في موقف أرمينيا إزاء موسكو يعكس هشاشة الدور الروسي في جنوب القوقاز، ولاسيما في ظل الانشغال الروسي بالحرب الجارية في أوكرانيا، بيد أن هناك طرحاً آخر يرى بأن الموقف الراهن لحكومة رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، لا يعكس تحولاً حقيقياً ليريفان بعيداً عن موسكو، في ظل العلاقات الاقتصادية والسياسية الوثيقة بين البلدين، وهو ما يعزز حالة التأرجح واستمرار التحالفات المتغيرة في هذه المنطقة.
2- تركيا وترسيخ استراتيجية "أمّة واحدة ودولتين": تتبنى أذربيجان استراتيجية "أمة واحدة ودولتين" في علاقتها مع تركيا، حيث ترتبط الدولتان بعلاقات وثيقة، ثقافياً وتاريخياً ولغوياً، وتبدو تركيا، وكذا إيران، أكثر نشاطاً في محاولة تشكيل الديناميكيات الجارية بين أرمينيا وأذربيجان. وتحصل تركيا على الغاز الطبيعي والنفط الخام من باكو، في المقابل تقدم أنقرة الدعم العسكري والدبلوماسي لأذربيجان في صراعها ضد أرمينيا، وقد أثبت هذا الدعم فاعليته في حرب 2020.
في المقابل، تتسم علاقة تركيا مع أرمينيا بتوترات تاريخية وعميقة، سواءً بسبب الإرث القديم المنبثق عن اتهام يريفان لأنقرة بارتكاب إبادة جماعية ضد الأرمن عام 1915، أم بسبب الصراع في كاراباخ ودعم أنقرة لباكو، ورغم الخطوات التي شهدتها السنوات الأخيرة لمحاولة تطبيع العلاقات بين أرمينيا وتركيا، وإعادة فتح الحدود المغلقة بين البلدين، فإن التوترات تصاعدت مجدداً منذ مايو الماضي، على خلفية ملف الإبادة الجماعية. وتُعد تركيا من أبرز الأطراف الرابحة جراء التطورات الأخيرة في منطقة ناغورنو كاراباخ، عبر زيادة الضغط على أرمينيا ودفعها نحو مسار تطبيع العلاقات، فضلاً عن ترسيخ النفوذ التركي في منطقة جنوب القوقاز، وتعزيز الاتصال المباشر مع أذربيجان، الأمر الذي سيزيد الأهمية الجيوستراتيجية لأنقرة في ملف الطاقة.
3- مأزق الموقف الإيراني: تشكل إيران أحد أبرز الداعمين التقليديين لأرمينيا، على الرغم من تداخلها العرقي مع أذربيجان، ولطالما تمسكت طهران بالحدود القائمة لمنطقة جنوب القوقاز، بيد أن ثمة تقديرات ألمحت إلى أن الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى إيران، مطلع سبتمبر 2023، تمخضت عن بعض الضمانات المشتركة التي تمهد الطريق أمام إحداث بعض التغييرات في التوازنات القائمة، وهو ما يضع طهران في مأزق كبير.
فبينما تسعى طهران لتجنب الانخراط المباشر في الصراع الخاص بناغورنو كاراباخ لدعم حليفتها أرمينيا، للحيلولة دون الدخول في مواجهات مباشرة مع تركيا وإسرائيل، والتي تتهمها إيران بالوجود العسكري في أذربيجان بما يهدد أمنها، إلا أن طهران تبدو حريصة على ضمان أمن جنوب أرمينيا، لتوفير طريق نقل بديل لها إلى روسيا عبر جنوب أرمينيا، والحيلولة دون تطويقها من الجهة الشمالية، خاصةً في ظل تخوفات طهران من انعكاسات التوسع الأذري على تعزيز النزعات الانفصالية للقومية الأذرية في الشمال الإيراني.
من ناحية أخرى، أشارت بعض التقارير الألمانية إلى أن أذربيجان قدمت عرضاً لروسيا وإيران بموجبه حصلت باكو على الضوء الأخضر من موسكو وطهران لضم ناغورنو كاراباخ، ويتعلق العرض الأذري بتمكين ممر نقل لروسيا إلى إيران عبر أراضي أذربيجان، فضلاً عن جملة من الصفقات الأخرى المتعلقة بالنفط والغاز.
4- تنامي الحضور الأمريكي: أشار تقرير صادر عن مجلة فورين بوليسي الأمريكية، إلى أن الولايات المتحدة تعمل حالياً على توسيع انخراطها في منطقة القوقاز، من خلال توظيف الخلافات المتنامية بين أرمينيا وروسيا، واستقطاب يريفان بعيداً عن موسكو. ويتسق ذلك مع التقرير الصادر عن نيويورك تايمز، والذي أكد وجود مساعٍ أمريكية مُكثّفة لاستغلال التراجع الملحوظ للنفوذ الروسي في منطقة جنوب القوقاز، لمحاولة التمدد في هذه المنطقة الجيوستراتيجية.
دلالات مُهمة:
عكست التطورات الأخيرة التي شهدها إقليم ناغورنو كاراباخ جملة من الدلالات المُهمة المتعلقة بالتحولات الجيوسياسية الراهنة في منطقة جنوب القوقاز والسياق الدولي الأشمل، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تنازلات واسعة من باشينيان: لطالما نظرت روسيا إلى رئيس الحكومة الأرمينية الحالي، نيكول باشينيان، باعتباره أحد الموالين للولايات المتحدة والغرب، وقد ألمحت بعض التقارير الغربية إلى أن باشينيان قدم سلسلة غير مسبوقة من التنازلات لأذربيجان، وذلك خلال المباحثات التي جرت خلال الأشهر الأخيرة في واشنطن وبروكسل، بما في ذلك الاعتراف بسيادة أذربيجان على ناغورنو كاراباخ، في محاولة للحصول على مزيد من الدعم من قبل الولايات المتحدة والغرب.
2- سياقات إقليمية ودولية مضطربة: تسعى أذربيجان إلى توظيف التحولات الراهنة في النسق الدولي والإقليمي من أجل تغيير خريطة التوازنات القائمة وإحكام سيطرتها على كامل إقليم ناغورنو كاراباخ، فضلاً عن الحصول على اتصال جغرافي مباشر إلى تركيا عبر منطقة ناختشيفان، التي تتمتع بالحكم الذاتي وتقع جغرافياً في أرمينيا، وذلك في ظل عدم اقتناعها بالمكتسبات التي حققتها في حرب 2020، حيث ترى باكو أنها تستحق السيطرة الكاملة على ناغورنو كاراباخ.
وقد استغلت أذربيجان الانشغال الروسي في أوكرانيا، فضلاً عن توتر العلاقات بين موسكو ويريفان، وعمدت إلى التصعيد لاستعادة كامل السيطرة على الإقليم، ويبدو أن ثمّة قبولاً ضمنياً من قبل الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، بالتحركات الأخيرة لأذربيجان لضم ناغورنو كاراباخ بشكل كامل، وهو ما ينعكس في موقف القوى الغربية إزاء تحركات باكو الأخيرة، حيث اكتفت هذه القوى بالإدانات الروتينية فقط.
3- تنافس دولي حاد في آسيا الوسطى: ربطت بعض التقديرات بين التطورات الجارية في جنوب القوقاز والتحولات الراهنة الي تشهدها منطقة آسيا الوسطى، حيث تشهد هذه المنطقة تنافساً حاداً بين الولايات المتحدة من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى. وفي هذا الإطار، عقد الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في 20 سبتمبر 2023، أول قمّة أمريكية مع رؤساء دول آسيا الوسطى الخمس، كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وقيرغيزستان، وذلك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، وهي المرة الأولى التي يشارك فيها الرئيس الأمريكي في اجتماعات مجموعة (C5 + 1)، منذ إنشائها عام 2015.
في المقابل، ثمّة ترتيبات جارية بالفعل بين الصين وروسيا بشأن مصالحهما المشتركة في منطقة آسيا الوسطى، فقد توسعت الصين، اقتصادياً، في هذه المنطقة بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وباتت تشكل أكبر شريك تجاري واستثماري لدول المنطقة، وذلك بالتنسيق مع موسكو، من خلال احتفاظ الأخيرة بدورها كفاعل أمني مهيمن في هذه المنطقة.
توازنات جديدة:
هناك جملة من الانعكاسات المُحتملة التي ربما تتمخض عن التطورات الأخيرة في ناغورنو كاراباخ، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- إعادة هيكلة التوازن الجيوسياسي في جنوب القوقاز: يرجح أن تؤدي عودة ناغورنو كاراباخ إلى السيادة الأذرية إلى إحداث تغيير في الديناميكيات السياسية بمنطقة جنوب القوقاز، التي تشكل مفترق الطرق للمصالح الجيوسياسية لكثير من القوى الإقليمية والدولية، إذ يمكن أن تؤدي التطورات الأخيرة في ناغورنو كاراباخ إلى مزيد من التراجع للنفوذ الروسي في القوقاز، خاصةً في ظل تشتت الدور الروسي في الوقت الراهن.
2- ضغوط مُتزايدة على حكومة باشينيان: زادت التطورات الأخيرة التي طرأت على إقليم ناغورنو كاراباخ من حالة الاستياء في الداخل الأرميني إزاء حكومة رئيس الوزراء، نيكول باشينيان، وهو ما انعكس في التظاهرات المتزايدة التي تطالب بإقالة الحكومة، ولم تستبعد بعض التقارير الغربية احتمالية تأجيج الأوضاع في يريفان والانزلاق نحو مزيد من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها المحتجون في يريفان للدور الروسي، فإن ثمة تقارير غربية كشفت عن وجود تحركات راهنة من قبل القوى السياسية المؤيدة لروسيا في أرمينيا لدفع البلاد بعيداً عن الغرب، حيث طالبت هذه الأحزاب بضرورة تشكيل حكومة جديدة في البلاد لإدارة الأزمة الراهنة مع أذربيجان، وهو ما يزيد من الضغوط على الحكومة الأرمينية الحالية.
3- شكوك بشأن قدرة أوروبا على ملء الفراغ في جنوب القوقاز: أثارت بعض التقارير الغربية تساؤلات تتعلق بمدى قدرة أوروبا على ملء أي فراغ مُحتمل في جنوب القوقاز في ظل تراجع الدور الروسي هناك، ولاسيما وأن موسكو لديها نحو 10 آلاف جندي يتمركزون في أرمينيا، بالإضافة إلى ألفيْن آخرين عند ممر "لاتشين"، وتُشير هذه التقارير إلى أنه رغم إرسال الاتحاد الأوروبي لبعثة مراقبين مدنيين إلى أرمينيا بداية العام الجاري، فإن هناك شكوكاً لا تزال قائمة فيما يتعلق بقدرة بروكسل على ملء الفراغ المُحتمل في هذه المنطقة، خاصةً في ظل التصدعات الراهنة داخل الكتلة الأوروبية، وتقلص الدور الأوروبي الموحد إزاء الملفات الحيوية، وهو ما انعكس في غياب دور أوروبي حقيقي فيما يتعلق بالتوترات بين أذربيجان وأرمينيا. لكن في المقابل، على الرغم من أن موسكو لا يتوقع أن تقدم على سحب قواتها من جنوب القوقاز، بل ستعمل على إبقاء قواتها لتجنب تداعيات أي انكماش مفاجئ لحضورها العسكري في المنطقة، فإن هناك عدة تقارير غربية ألمحت إلى أن الولايات المتحدة ستعمل خلال الفترة المقبلة لتوسيع دورها في المنطقة بشكل مكثف.
وفي التقدير، تبدو خريطة التوازنات الجيوسياسية في منطقة جنوب القوقاز في مرحلة انتقالية، تتأثر بشكل كبير بالتحولات الراهنة في هيكل النظام الدولي الراهن، وتصاعد حدة التنافس بين القوى الدولية الكبرى، مع تنامٍ ملحوظ لدور القوى الوسيطة، ورغم أن سيطرة أذربيجان ربما تشكل نهاية للصراع التقليدي في منطقة ناغورنو كاراباخ، فإن إرث الحروب الماضية قد يكون من الصعب تجاوزه، ما يعني عدم استبعاد اندلاع اشتباكات جديدة بين باكو ويريفان في هذه المنطقة، كما يُتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تنامياً ملحوظاً في وتيرة الانخراط الدولي والإقليمي في منطقة جنوب القوقاز، وتصاعد حدة التنافس بين القوى الرئيسة الفاعلة هناك، وهو ما سيكون له تداعيات مباشرة على السياقات الأمنية والسياسية والاقتصادية للنطاق الإقليمي الأوسع الذي يضم آسيا الوسطى.