إعداد: إسراء أحمد إسماعيل
تثير احتمالات قرب التوصل لاتفاق نووي بين الغرب وإيران جدلاً واسعاً حول ما إذا كان مثل هذا الاتفاق قد يُولِّد فرصاً للتعاون الأمريكي ـ الإيراني في مجموعة أخرى من القضايا، حيث توجد العديد من مصادر التوتر التي تتسبب في تعثر العلاقات بين البلدين.
ولا يمنع تأكيد إدارة أوباما، وكذلك تصريحات المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي، على أن أي اتفاق بشأن "الملف النووي" يبقى مستقلاً ومتميزاً عن القضايا الأخرى بين البلدين، أن الولايات المتحدة وإيران قد نسقتا فيما بينهما مسبقاً بشأن أفغانستان وعراق ما بعد الاحتلال الأمريكي في عام 2003، كما أن بين الدولتين ما يشبه التنسيق الضمني، خصوصاً فيما يخص ملف الحرب ضد داعش في الأراضي العراقية.
في هذا الإطار، نشر "مركز الأمن الأمريكي الجديد"Center for a New American Security، دراسة تحت عنوان: "ذوبان الجليد البطيء.. اختبار إمكانيات التعاون مع إيران بعد الاتفاق النووي"، والتي أعدها ثلاثة من الباحثين في المركز، وهم: "إيلان جولدنبرج" Ilan Goldenberg، و"جاكوب ستوكس" Jacob Stokes، و"نيكولاس هراس" Nicholas A. Heras، تناولوا خلالها أبرز الافتراضات المحتملة حول الاتفاق النووي مع إيران، والعقبات التي تعترض التعاون بين واشنطن وطهران، والفرص المحتملة للتعاون بين البلدين، وأبرز توصيات الدراسة لدعم هذا التعاون.
الملف النووي الإيراني والعقوبات
قدمت الدراسة عدداً من الافتراضات حول الملامح المحتملة للاتفاق النووي بين إيران والغرب، وهي كالتالي:
1 ـ قد تتمكن إيران و"مجموعة 5+ 1" من التوصل إلى اتفاق نووي شامل يضع قيوداً على برامج تخصيب اليورانيوم لإيران، ولكنه لا يفرض تفكيك البنية التحتية النووية تماماً. ونتيجة لذلك، لن تتمكن طهران من تطوير أسلحة نووية، لكنها ستحتفظ بقدرة كامنة للقيام بذلك.
2 ـ من المفترض أن تكون القيود والإجراءات الخاصة بالاتفاق النووي النهائي صارمة بما يكفي لضمان عدم تمكن إيران من تطوير سلاح نووي سراً، وهذه الترتيبات ستكون محدودة الوقت، بمعنى أنه قد يتقرر أن تنقضي بعد عام 2025، وحينئذ سيتم التعامل مع إيران كطرف عادي في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT).
3 ـ من المرجح أن يتم تعليق أو رفع العقوبات المالية أو المرتبطة بالطاقة، والمفروضة على إيران، على مراحل متدرجة.
تجدر الإشارة إلى أنه في حالة انهيار المحادثات، فإن ذلك بالتأكيد سيمنع التعاون بين واشنطن وطهران حول القضايا الأخرى خارج إطار الملف النووي.
ما بعد الاتفاق.. عقبات التعاون الأمريكي ـ الإيراني
تؤكد الدراسة على أنه حتى في حالة التوصل إلى اتفاق نووي، يظل هناك عدد من العقبات التي تعيق تطور التعاون بين الولايات المتحدة وإيران، وتتمثل فيما يلي:
1 ـ استمرار مجالات الخلاف:
لدى كل من واشنطن وطهران قضايا خلافية كبيرة، خصوصاً ما يتعلق بدعم إيران للإرهاب في المنطقة، مثل: دعم حزب الله في لبنان، ونظام الأسد في سوريا، والميليشيات الشيعية في العراق، وجماعات المعارضة الشيعية في البحرين، والمتمردين الحوثيين في اليمن.
وتشير الدراسة إلى أنه ليس من الواضح إن كان التوصل لاتفاق نووي من شأنه أن يغير من دعم إيران لهذه الجهات، كما أن تعليق أو رفع العقوبات المفروضة على طهران قد يؤدي إلى تقديمها لأموال إضافية للجهات المذكورة أعلاه. وتضيف الدراسة أن "العقوبات الأمريكية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في إيران، ودعمها للإرهاب، وبرنامج الصواريخ الباليستية، ستظل قضايا سارية حتى بعد التوصل لاتفاق نووي".
2 ـ سياسة إيران الداخلية:
تشير الدراسة إلى أنه في حال التوصل إلى اتفاق نووي، وإعادة الإدماج الدبلوماسي لإيران في المجتمع الدولي، وحدوث تحسن في اقتصاد البلاد، فإن هذا يمكن أن يُقدم زخماً كبيراً للسياسة البرجماتية للرئيس "حسن روحاني"، ولكن سيكون على "خامنئي" التعامل مع رد الفعل العنيف من قبل مُعارضي المفاوضات النووية، فضلاً عن مخاوفه المتعلقة بزيادة النفوذ الأمريكي داخل إيران، أو ما يُطلق عليه "Westoxification" والذي يعني آثار التطبيع الاقتصادي والسياسي مع الولايات المتحدة والغرب على إيران، والتي قد تتسبب على المدى البعيد في تدمير القيم الأساسية التي تقوم عليها الثورة الإيرانية والشرعية الأيديولوجية للنظام، ولذلك فإن النتيجة النهائية المرجحة أن تصبح السياسة الخارجية الإيرانية مفككة وغير متسقة مع توجهات "روحاني"، في حين سيواصل المتشددون الدفع بسياستهم للأمام.
جدير بالذكر أن الرئيس "روحاني" ووزير خارجيته "محمد جواد ظريف" يسعيان إلى تحسين العلاقات مع السعودية ودول الخليج الأخرى وتركيا، وفي حالة التمكن من إبرام اتفاق نووي فقد يستطيع "روحاني" و"ظريف" إقناع "خامنئي" بمنحهم استقلالية أكبر. ولكن حتى لو تحقق ذلك، فإنه من المهم إدراك أن حدوث تحول في بعض توجهات السياسة الخارجية الإيرانية لن ينهي المنافسة أو الخصومة بين إيران والولايات المتحدة وحلفائها. ولذلك يبقى فتح وتحسين خطوط الاتصالات مع واشنطن ودول المنطقة أمراً ضرورياً ليسمح للتوصل إلى توافقات تؤدي لصيغة فوز الجميع "win win"، بحيث يمكن تأمين المصالح الجوهرية لإيران، مع تخفيض مستوى العداء الدولي تجاهها.
3 ـ قلق الشركاء الإقليميين:
في حال تمكنت إيران والغرب من التوصل لاتفاق نووي، فإن أي جهود تبذلها الولايات المتحدة للتعاون مع إيران بعد ذلك سوف تثير قلق شركاء واشنطن في الشرق الأوسط، والذي يعد التعاون معهم أمراً أساسياً لتحقيق أهداف واشنطن في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وضمان تدفق موارد الطاقة. ويفرض هذا الأمر قيوداً على واشنطن، ويدفع صنًاع القرار إلى محاولة موازنة الأمور واستشارة الشركاء الإقليميين.
بالنسبة لإسرائيل، فإنها تعتبر البرنامج النووي الإيراني تهديداً وجودياً لها، ومن المرجح أن يتسبب التوصل لاتفاق نووي في تأجيج مخاوفها من قيام الولايات المتحدة بالانسحاب عسكرياً من المنطقة. وبالنسبة للسعودية، فقد أصبح التنافس بينها وبين إيران أكثر حدة، خاصةً مع تصاعد الصراعات بينهما في سوريا والعراق ولبنان واليمن.
ولذلك فمن المرجح أن يؤدي التوصل لاتفاق نووي إلى تأجيج مخاوف الرياض بشأن طموحات الهيمنة الإيرانية، وقد رفضت المملكة حتى الآن العروض الإيرانية المبدئية للتباحث حيث لا تراها مقرونة بأفعال، وذلك في الوقت الذي تدهورت فيه ثقة السعودية في الضمانات الأمنية الأمريكية.
الفرص المحتملة للتعاون الأمريكي مع إيران
على الرغم من التحديات السابقة التي تعيق توسيع أطر التعاون بين طهران وواشنطن، فإنه توجد بعض المساحات التي تتقاطع فيها مصالح البلدين، والتي يمكن أن تكون سبباً في زيادة التعاون بينهما، وتستعرض الدراسة أكثر المجالات الواعدة للتعاون، كما يلي:
1 ـ الأمن البحري ومكافحة القرصنة:
لدى كل من إيران والولايات المتحدة مصالح مشتركة في تجنب وقوع الحوادث البحرية والتصعيد غير المقصود في منطقة الخليج. ومن أجل إدارة الأزمات في المستقبل، يمكن للبلدين التفاوض على اتفاق حول الحوادث التي تقع في البحر agreement Incidents at Sea، أو على الأقل إنشاء خط ساخن بين الجانبين للاتصال في حالة وقوع حادث أو أزمة. ولعل أكبر تحدٍ لهذا النهج هو أن المنطقة التي تعد أكثر احتمالاً لوقوع الحوادث في مياه الخليج تسيطر عليها القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني.
2 ـ أفغانستان:
تعد أفغانستان المثال الأكثر بروزاً للتعاون بين إيران والولايات المتحدة بعد عام 2001، عندما ساعدت طهران واشنطن في إسقاط حكومة طالبان، وعقب إعلان الرئيس السابق جورج دبليو بوش عن "محور الشر" وما أعقبه من غزو العراق، تغير هذا التعاون، واتبعت إيران استراتيجية حذرة، حاولت من خلالها الحفاظ على نفوذها عبر دعم الجماعات المختلفة داخل أفغانستان.
وعلاوة على ما سبق، يتمثل أحد التحديات في أن الحكومة الإيرانية كانت من أشد منتقدي اتفاقية وضع القوات (SOFA) مع الحكومة الأفغانية، حيث تعتبرها بمثابة تهديد محتمل في حال وقوع نزاع مسلح مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، وبالنظر إلى الخطط الحالية للانسحاب من أفغانستان، فإنه من المرجح ألا يتسبب هذا الأمر في حدوث توترات كبيرة بين واشنطن وطهران، خاصة إذا تسببت هذه الاتفاقية في حدوث استقرار في أفغانستان ومنع تدفق اللاجئين إلى إيران، والذين بلغ عددهم حوالي 2 مليون لاجئ.
3 ـ العراق:
أدى ظهور تنظيم "داعش" وما حققه من تقدم في العراق وسوريا، إلى إيجاد مصلحة مشتركة بين طهران وواشنطن، تتمثل في منع تفكك العراق، والعمل على هزيمة هذا التنظيم. ومع ذلك، فمن المرجح أن يؤدي اختلاف الرؤى بين البلدين تجاه العراق إلى تفاقم الخلافات بينهما على المدى البعيد، حيث تعتقد الولايات المتحدة أن أفضل أسلوب لتحقيق الاستقرار يعتمد على تمثيل جميع التيارات العراقية، مع توفير درجة من الحكم الذاتي للمناطق التي تضم كل منهم، بينما تنظر إيران للعراق منذ فترة طويلة باعتبارها مجالاً للحرب الطائفية بالوكالة. وبالتالي، فإن تعاون البلدين في العراق سيعتمد على رؤية إيران، حيث تواجه الاختيار إما بين دولة مستقرة تتمتع بالتعددية، أو دولة مُقسمة تكون مرتعاً للجماعات "الجهادية" السنية المتطرفة.
وثمة تحدٍ آخر للتعاون الأمريكي الإيراني في العراق في المستقبل المنظور، يتعلق بفيلق القدس بقيادة "قاسم سليماني"، والذي يستمر في الهيمنة على السياسة الإيرانية في العراق، إذ من المستبعد جداً حتى في أعقاب التوصل لاتفاق نووي، أن يتمكن "روحاني" و"ظريف" من انتزاع السيطرة من سليماني.
4 ـ سوريا:
تمثل سوريا التحدي الأكبر للتعاون، حيث كانت إيران والولايات المتحدة على طرفي نقيض تجاه الموقف في سوريا. فقبل ظهور تنظيم "داعش" كانت سوريا موقعاً لحرب بالوكالة بين إيران وبين شركاء الولايات المتحدة من الدول السنية في المنطقة. وقد أصبح "داعش "يشكل تهديداً لمصالح جميع الأطراف، ومن ثم فهو يعد فرصة لوقف التصعيد، وربما للتعاون بينهم.
وقد ترى إيران مصلحة في تحقيق هذا المستوى من التعاون نظراً لارتفاع تكلفة دعم نظام "الأسد"، حيث فقدت طهران ما لا يقل عن ستة من كبار ضباط "فيلق القدس"، ونحو 60 جندياً في الصراع السوري حتى الآن. ومن المرجح أن يتردد "سليماني" في سحب الدعم من نظام "الأسد" دون ضمانات أمنية كبيرة من الولايات المتحدة وشركائها الإقليميين.
أبرز التوصيات
ختاماً، تؤكد الدراسة ضرورة التركيز على الملف النووي، لأن ذلك سيوضح لصناع القرار الإيراني أن القضايا الأخرى لن تؤثر على مطالب مجموعة الدول الست الكبرى "5 + 1" بشأن التوصل لاتفاق نووي، وستحفز القادة الإيرانيين لتقديم التنازلات اللازمة لعقد الاتفاق.
كما يوصي معدو الدراسة بالحفاظ على قنوات الاتصالات التي أُنشئت خلال المحادثات النووية، والبدء بالتعاون في القضايا التي تشهد توافقاً في المصالح الأمريكية والإيرانية، والتركيز على القضايا التي من المرجح أن يديرها ويتحكم في سياستها المعتدلون والتكنوقراط في كلا الجانبين، فضلاً عن تجنب التعجيل بالتعاون مع إيران ضد تنظيم "داعش"، بالنظر إلى احتمال استمرار "فيلق القدس" في السيطرة على هذه الساحة. وأخيراً تشدد الدراسة على أهمية الالتزام بالشفافية والتشاور مع الشركاء الإقليميين حول جهود الولايات المتحدة لتحسين التعاون مع إيران.
* عرض مُوجز لدراسة تحت عنوان: "ذوبان الجليد البطيء.. اختبار إمكانيات التعاون مع إيران بعد الاتفاق النووي"، والصادرة في يناير 2015 عن "مركز الأمن الأمريكي الجديد"، وهو مؤسسة بحثية أمريكية مستقلة تهدف إلى تطوير سياسات قوية وعملية في مجال الدفاع والأمن القومي.
المصدر:
Ilan Goldenberg, Jacob Stokes and Nicholas A. Heras, Slow Thaw Testing Possibilities for Cooperation with Iran After a Nuclear Deal (Washington, Center for a New American Security, January 2015).