أفادت وسائل إعلام إيرانية، في 4 نوفمبر الجاري، أن شاباً بلغ من العمر 38 عاماً، يُدعى روح الله بارازيده، قد أقدم على إشعال النار في نفسه أمام مؤسسة محلية تساعد قدامى المحاربين وعائلاتهم، بعد طلب المساعدة منها للحصول على عمل. ويلقي هذا الحادث الضوء على الاستياء والغضب العام جراء الظروف المعيشية للمواطنين الإيرانيين، خاصة في ظل اندلاع تظاهرات جديدة بسبب المياه في محافظة أصفهان في 26 نوفمبر.
احتقان داخلي متزايد
يمكن الوقوف على بعض المؤشرات التي تكشف عن ارتفاع حجم الاحتقان الداخلي في إيران، وذلك على النحو التالي:
1- تزايد حدة الإحباط لدى الإيرانيين: أدى تدهور الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع معدلات البطالة وتصاعد أسعار المواد الغذائية، نتيجة للعقوبات المفروضة على القطاعات الرئيسية للاقتصاد الإيراني، بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018، فضلاً عمّا خلفته جائحة كورونا من تداعيات سلبية على الأوضاع الاقتصادية، إلى تصاعد حالة الإحباط والغضب العام لدى الإيرانيين.
وعلى الرغم من الوعود التي أطلقها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، منذ خطابه الأول بعد إعلان فوزه، في يونيو الماضي، بالتركيز على تحسين الأوضاع المعيشية، باعتبارها أولوية بالنسبة له، فإن تلك الأوضاع قد تفاقمت سوءاً.
وتُشير الإحصاءات إلى ارتفاع معدل التخضم في إيران إلى 45%، وانخفاض الريال بنسبة 11% منذ تولي رئيسي الحكم، كما فقد حوالي مليون إيراني وظائفهم في الوقت الذي ارتفع فيه معدل البطالة إلى 10%، وهو معدل يقارب الضعف بين الشباب. ويضاف إلى ما سبق وجود ما يقرب من 40 مليون (أي نصف سكان إيران تقريباً) تحت خط الفقر، وفقاً لما أشار إليه حميد رضا حاجبابائي، رئيس لجنة الموازنة البرلمانية.
وأدت تلك الظروف الصعبة إلى تزايد معدلات الانتحار بين الإيرانيين، لاسيما من فئة الشباب، والتي زادت بنسبة 4% منذ بداية الجائحة، وكانت وزارة الصحة الإيرانية قد أعلنت، في سبتمبر الماضي، تسجيل نحو 100 ألف محاولة للانتحار، على الأقل، داخل البلاد، خلال الفترة من مارس 2018 إلى مارس 2019.
ويتزامن تصاعد الاستياء الشعبي وتزايد الاحتجاجات في إيران، من اقتراب موعد استئناف المفاوضات النووية مع مجموعة (4 + 1) بمشاركة غير مباشرة من الولايات المتحدة، بفيينا، والتي يٌفترض أن تبدأ أولى جولاتها في 29 نوفمبر الجاري.
ويُدلل ذلك على مدى ما يواجهه النظام الإيراني من أزمات داخلية قبيل استئناف الجولة السابعة، والتي من المُتوقع أن تكون الجولة الأخيرة من مسار فيينا التفاوضي، لذا فإن هذه التحديات تكشف عن عدم تماسك جبهتها الداخلية، وهو ما يمثل عامل ضغط عليها قد يُضعف من موقفها بتلك المفاوضات، خاصة إذا ما تطور الأمر إلى احتجاجات شعبية على غرار فترات مضت.
2- تواصل الاحتجاجات بسبب نقص المياه: توسعت رقعة الاحتجاجات في إيران، على خلفية أزمة المياه في عدد من المحافظات، حيث تجمع مئات المزارعين، منذ مطلع نوفمبر الجاري، في أصفهان، احتجاجاً على جفاف نهر "زاينده رود"، وهو النهر الرئيسي بالمحافظة، نتيجة لنقل مياهه إلى محافظة يزد المجاورة لها، والتي تضم مساحات صحرواية واسعة.
وترتب على ما سبق تزايد حدة الاحتجاجات التي ردد فيها المتظاهرون في أصفهان شعار "لن نعود الى المنزل طالما لم تعد المياه إلى النهر"، بل وتحطيم التجهيزات المخصصة لنقل المياه. ووصلت الهتافات إلى حد المطالبة برحيل "خامنئي".
وعلى الرغم من كون أصفهان هي مركز الاحتجاجات على أزمة المياه، فإن مدن أخرى في إيران، في محافظة جهارمحال وبختياري جنوب غرب إيران، قد شهدت احتجاجات مماثلة أيضاً، على السياسات المائية التمييزية للحكومة الإيرانية.
واتهم المتظاهرون السلطات بسرقة المياه، ونقلها إلى مدن أخرى من أجل دعم مشاريع يعود بعضها للحرس الثوري الإيراني، وقد هتف المتظاهرون ضد سياسات النظام ومشاريعه المائية قائلين "الموت لمافيا المياه"، و"هنا جهارمحال، وأخذ المياه محال".
وتستمر التظاهرات منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع، رغم التعامل الأمني العنيف ضد المتظاهرين، في حين أن التظاهرات السابقة عادة ما كان يتم السيطرة عليها أمنياً في أيام معدودة، وهو ما يؤشر على إخفاق السياسات القمعية في التعامل مع المحتجين، وأن على الحكومة الإيرانية أن تسلك مسلكاً آخر، إذا ما أرادت استيعاب الغضب الشعبي.
سياسات مواجهة الاستياء الشعبي
يدرك رئيسي جيداً حجم الاحتقان لدى الشعب الإيراني من تردي الأوضاع الاقتصادية، وهو ما يتضح من خلال جولاته في شوارع إيران، والتي يلتقي فيها بمواطنين عاديين، ويؤكد خلالها على سعيه لتحسين أحوالهم المعيشية، غير أن السياسات التي تتبعها الحكومة الإيرانية لاتزال قاصرة عن تحقيق ذلك، وهو ما يتضح من مراجعة السياسات التالية:
1- قمع المحتجين: تستمر الحكومة الإيرانية في تبني السياسات القمعية نفسها في التعامل مع الاحتجاجات المتصاعدة في أصفهان وغيرها من المحافظات، إذ تحاول السلطات إخماد الاحتجاجات، عبر مهاجمة قوات الأمن للمعتصمين، واستخدام الغاز المسيل للدموع لتفريقهم، فضلاً عن قطع خدمات الإنترنت، وتعدي "البلطجية" على خيام المعتصمين، وفقاً لمقاطع فيديو تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي.
أما على المستوى الإعلامي، فقد وجه النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر، خطاباً متلفزاً إلى سكان المحافظة، وعدهم فيه بحل للأزمة. ولا يتوقع أن تقدم الحكومة الإيرانية على حل الأزمة، خاصة مع تخوين النظام تلك التظاهرات، والتمليح بوقوف "الأعداء" وراء تظاهرات المياه في البلاد، وفقاً لوزير الداخلية الإيراني، أحمد وحيدي، ويؤشر ما سبق على أن السياسة المائية لإيران لن تتغير.
2- التحذير من مخططات الأعداء: تبدي الحكومة الإيرانية حساسية من الحديث عن أي فساد داخلها، حتى لا ينتقص هذا من شرعيتها. ففي أعقاب تسريبات إعلامية في إيران تحدثت عن توظيف بعض الوزراء والمسؤولين أقربائهم في بعض الدوائر الحكومية، اعتبر رئيسي أن هذه "الادعاءات الكاذبة" تهدف لزعزعة ثقة المواطنين بالحكومة. وطالب الوزراء بتفنيد هذه الادعاءات، حتى "لا يتم التلاعب بالرأي العام وتحويل آراء المجتمع بصورة سلبية" عن الحكومة.
3- محاولة تبني سياسات تنموية: أعلنت منظمة "المستضعفين"، وهي ثاني كيان اقتصادي في إيران بعد شركة النفط الوطنية الإيرانية، وأحد أكبر ثلاث مؤسسات مالية عملاقة يسيطر عليها المرشد الإيراني، في21 نوفمبر الجاري، تدشين 2550 مشروعاً تنموياً في المناطق الفقيرة في إيران، وبناء 40 ألف وحدة سكنية، وذلك بحضور النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر، ورئيس منظمة المستضعفين غلام رضا سليماني.
وتغطي هذه المشروعات مجالات الإسكان ومياه الشرب والزراعة والكهرباء والبنية التحتية والمجمعات الثقافية والتعليمية وغيرها، في دلالة على إدراك المرشد حجم تردي الأوضاع الاقتصادية، والحاجة إلى تبني سياسات لاستيعاب الغضب الشعبي، غير أنه من غير الواضح المدى الزمني لتنفيذ هذه المشاريع، ومن ثم مدى قدرتها على تخفيف من مدى تردي الأوضاع الاقتصادية عن المواطنين الإيرانيين.
سيناريوهات محتملة:
تتمثل المشاهد المستقبلية لتفاقم الغضب الشعبي والسياسات الحكومية تجاهها في التالي:
1- احتجاجات شعبية واسعة: يقوم هذ السيناريو على أساس استمرار حالة الاستياء والرفض الشعبي مع عجز الحكومة عن تبني سياسات تنموية حقيقية، بما يعنيه ذلك من مواصلة تدهور الاقتصاد الإيراني وتزايد معاناة المواطنين، وهو الأمر الذي يُنذر باندلاع احتجاجات واسعة في إيران على غرار فترات مضت. ولاشك أن فرص هذا سيناريو سوف تزداد في حالة إبداء إيران تعنتاً في المفاوضات القادمة، ومن ثم استمرار فرض العقوبات الاقتصادية.
2- استيعاب الغضب الشعبي: يستند هذا السيناريو إلى افتراض تمكن الحكومة الإيرانية من احتواء مطالب المحتجين، وذلك عبر تنشيط الاقتصاد الإيراني، من خلال رفع العقوبات المفروضة عليه، وتخفيف معدلات البطالة والتضخم، والتوصل لحل عادل لمشكلات المياه في عدد من المحافظات الإيرانية.
إلا أن هذا السيناريو يواجه بتحديات غير هينة، إذ أن رفع العقوبات عن القطاعات الاقتصادية في إيران، مسألة لم تُحسم بعد، كما أن الاقتصاد الإيراني يعاني خللاً هيكلياً ومشكلات عدة، أبرزها تنامي سيطرة المؤسسات التابعة للمرشد الأعلى والحرس الثوري على مفاصله، كما أن إيران أقدمت خلال في أعقاب توقيع الاتفاق النووي الأول في عام 2015 إلى توظيف الأموال التي حصلت عليها لصالح تعزيز تدخلاتها الخارجية، وليس تنمية الاقتصاد الإيراني المتهالك وقتها.
3- قمع متواصل للاحتجاجات: يتوقع هذا السيناريو استمرار حالة الاستياء الشعبي والاحتجاجات في إيران، بالتوازي مع اعتماد النظام للسياسات القمعية نفسها، لضمان بقاء ذلك التذمر في نطاق محدد، وعدم اكتسابه دعماً شعبياً أوسع. ولاشك أن مثل هذه الأوضاع قد تنتج استقراراً ظاهرياً لا تتوفر له مقوماته، وهو ما قد ينذر باندلاع احتجاجات شعبية غاضبة في أي وقت.
وفي التقدير، فإن استمرار سياسة القمع واعتماد المقاربة الأمنية في مواجهتها، تنذر بتصاعد حدة الاستياء والتذمر الشعبي، والذي قد يتحول إلى تظاهرات واسعة ضد النظام، تمثل تهديداً كبيراً له، وذلك ما لم تقدم الحكومة الإيرانية على تبني سياسات اقتصادية توقف التدهور في أوضاع الاقتصاد الإيراني.