قام الرئيس السوري، بشار الأسد، بزيارة مفاجئة إلى العاصمة الروسية موسكو، أُعلن عنها يوم 14 سبتمبر الجاري، والتقى خلالها الرئيس فلاديمير بوتين، وعقدا جلسة مغلقة استمرت 90 دقيقة، وانضم إليهما بعد ذلك وزير الدفاع الروسي ووزير الخارجية السوري في اجتماع آخر استمر حوالي 45 دقيقة أخرى. أي أن اجتماعات القمة تجاوزت ساعتين وربع الساعة، وهو ما يشير إلى أنها تناولت قضايا عديدة، وجرت خلالها حوارات مكثفة استغرقت هذه المدة. وتأتي زيارة الأسد موسكو بعد عام من زيارته السابقة ولقائه الرئيس بوتين.
وأشار البيان الصحفي الصادر إثر الزيارة الأخيرة إلى أن ملفات التعاون الاقتصادي، وقدرة الحكومة السورية على مواجهة المشكلات التي تعرضت لها خلال الفترة الأخيرة، وعملية تأهيل قطاعات الخدمات لاسيما الكهرباء، كانت على طاولة المباحثات.
تطورات متزامنة:
يمكن القول إن زيارة الرئيس الأسد موسكو كانت استراتيجية، وفقاً للموضوعات التي طُرحت بين الجانبين؛ حيث تضمنت قضايا عسكرية وسياسية واقتصادية. ويُتوقع أن هذه الزيارة ستكون محطة مهمة جداً في مسار العلاقات السورية – الروسية، والأهم من ذلك أنها ستكون تحركاً استراتيجياً فيما يتعلق بحلحلة الصراع السوري، في ضوء الجمود الذي عاناه خلال السنوات الأخيرة.
ومما يزيد أهمية تلك الزيارة هو توقيتها، والذي تزامن مع أحداث وتطورات شهدتها الأزمة السورية بشكل عام، ما يؤكد أهميتها، ويُنتظر أن تكون لها تداعيات على عدة مستويات، ويمكن الإشارة إلى هذه التطورات كما يلي:
1- حسم السيطرة على درعا: شهدت الأزمة السورية عدة تطورات عسكرية مؤخراً، كان أبرزها تلك الحادثة في مدينة درعا، والتي نجح الروس في التفاهم خلالها مع المجموعات العسكرية الموجودة هناك على الانسحاب إلى الشمال، من خلال تفاهمات مع العشائر السورية وتمركز قوات روسية بالمنطقة كقوات فصل بين الطرفين، وإتاحة الفرصة للقوات السورية لاستهداف المجموعات الرافضة لتلك التفاهمات.
وقد انتهى الأمر بعودة الحكومة السورية وقواتها العسكرية إلى حدود درعا، التي كانت خارج سيطرتها لنحو 10 سنوات، وهو إنجاز يُحسب لروسيا والحكومة السورية. وقد أصرت موسكو على الإبقاء على شرطتها العسكرية بجانب القوات السورية هناك؛ لإحكام السيطرة عليها، وتأمين الحدود السورية المشتركة مع إسرائيل والأردن.
والنقطة المهمة في هذا السياق، أن هذه المنطقة شهدت تصاعداً وتمدداً لنشاط أجهزة استخبارات أجنبية، أمريكية وإسرائيلية وإقليمية؛ بهدف تحويل درعا إلى النمط ذاته الذي صارت عليه إدلب، وأن تصبح محافظة مستقلة عن سيطرة النظام السوري، في محاولة لإعادة إنتاج سيناريو إدلب، أي أن تقوم المجموعات المسيطرة على إدلب بإغلاق أحد ممرات الصادرات والواردات بالشمال، وتعطيل الحركة الاقتصادية وحركة المسافرين بطريق اللاذقية – دمشق.
وكانت الخطة المستهدفة تقضي بانتزاع درعا من سيطرة النظام السوري بصورة كاملة، واعتبارها منطقة آمنة، وألا تكون مجالاً لدخول الحكومة السورية أو قواتها، وتتولى المعارضة المسلحة عملية فتح المنافذ للأردن، وبالتالي تتحكم في حركة التجارة منها وإليها.
ولذا، فإن ما تحقق في درعا لا يعتبر إنجازاً عسكرياً فقط، وإنما إنجاز استراتيجي يتعلق بالأزمة السورية في مجملها، وهو ما أعاد التأكيد على مركزية الدور الروسي في هذه الأزمة.
2- التصعيد العسكري في إدلب: كان التطور العسكري الثاني هو قيام القوات العسكرية الروسية بتوجيه ضربات قوية للمجموعات والفصائل الإرهابية في إدلب بصورة غير مسبوقة خلال العام الماضي؛ وذلك بهدف إبعاد العناصر المسلحة عن طريق اللاذقية – حلب، طبقاً للاتفاقات التي أُبرمت مع تركيا بالسابق وتراجعت عنها، والتي كانت تهدف في مجملها إلى محاولة فصل الفصائل المعتدلة عن تلك المصنفة إرهابية.
وتزامن ذلك مع توجيه ضربات بمنطقة شمال حلب للفصائل التي أُبعدت من هناك، والتي كانت تشن هجمات على تمركزات وقوات الجيش السوري المنتشرة في تلك المنطقة. وكان الموقف الروسي لافتاً في شدته وقوته لإحكام السيطرة وضبط الأوضاع، ومساعدة القوات السورية في مواجهة تلك الفصائل.
3- تأمين روسيا نفط سوريا: أنشأ الجيش الروسي قاعدة عسكرية جديدة في منطقة السخنة، تبعد 230 كم شرق حمص وسط سوريا، وتمركز هناك نحو 300 عنصر بآليات متعددة ودبابات، في حضور روسي لافت بمساندة قوات الفيلق الخامس الموالي لروسيا هناك.
وتمركزت هذه القوات في تلك المنطقة القريبة من دير الزور؛ لحماية آبار البترول التابعة للحكومة السورية والتي تتولى روسيا حمايتها، ومواجهة خطر تنظيم داعش ومحاولات تسلل عناصره عبر الحدود السورية – العراقية، وقد استهدف التنظيم قافلة عسكرية روسية أثناء تسيير دورية استطلاعية الأسبوع الماضي، ما أدى إلى مقتل أحد الجنود الروس.
ومما يشير إلى أهمية هذا التمركز الروسي وأهمية المنطقة بالنسبة للانتشار العسكري، سواء الروسي أو السوري، فيها أن القوات الجوية للبلدين قامتا في الأسبوع الثاني من سبتمبر الجاري بتدريبات عسكرية جوية تعد الأضخم من نوعها في منطقة تدمر وصولاً إلى بادية السخنة شرق حمص، حيث شاركت فيها مروحيات متعددة وطائرات.
وكان هدف هذه التدريبات هو مساعدة القوات السورية على استخدام الطائرات المروحية في هذه المنطقة لقصف الأهداف التي يُعتقد أنها تابعة لتنظيم داعش ومتابعة البيئة الحاضنة والعناصر المتمركز بوسط البادية السورية، بدءاً من بادية حمص وبادية دير الزور والرقة والتي تتصل ببعضها البعض، وتمتد للحدود العراقية – السورية التي تتسلل منها تلك العناصر، في محاولة لتأكيد أن روسيا والقوات السورية تواجه داعش وتقوم بدور كبير في مكافحة الإرهاب.
كما تزامن الانتشار العسكري الروسي في تلك المنطقة، مع انتشار عسكري آخر في مناطق قريبة، حيث تمركزت وحدات عسكرية روسية في منطقتي الشولة وكباجب في بادية دير الزور؛ لتأمين الطرق البرية من هجمات تنظيم داعش، كما قامت القوات الجوية الروسية بتوجيه ضربات في تلك المنطقة ضد مجموعات أكدت أنها تابعة لداعش.
4- تنشيط الاقتصاد السوري: كان التعاون الاقتصادي أحد الملفات الحيوية المطروحة في مناقشات قمة الأسد وبوتين، وتزامن ذلك مع انعقاد اللجنة العليا المشتركة للبلدين. ودار النقاش حول الدعم الروسي لسوريا ومساعدتها في تعافي الاقتصاد ومواجهة العقوبات المفروضة عليها، خاصة قانون قيصر الأمريكي.
ومن المُرجح أن يكون هناك اتفاق على تقديم روسيا صفقات قمح؛ كون محصول القمح السوري، وفقاً للتقارير السورية، لن يغطي أكثر من 50% من احتياجات دمشق، وفي ظل العقوبات المفروضة عليها لن تكون هناك وسيلة لتغطية هذا العجز سوى عبر ورادات موسكو.
كما أن هناك موافقة روسية خلال زيارة الأسد، وما سبقها من اجتماعات للجنة العليا المشتركة، على إعادة تأهيل شبكة الكهرباء السورية وخطوط الغاز الطبيعي، المقرر تمرير الغاز المصري إلى لبنان عبرها، بالإضافة إلى دعم القدرات الاقتصادية السورية لتعزيز شرعية النظام المتضررة بسبب الافتقاد للخدمات.
مناقشة الأدوار الإسرائيلية والإيرانية:
جاءت زيارة بشار الأسد إلى روسيا بعد نحو أسبوع من زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، موسكو، حيث كان الملف السوري مطروحاً للنقاش خلال زيارة لابيد، كما يُتوقع أن تكون قد تمت مناقشة الدور الإيراني كذلك، وهو ما يمكن توضيحه في التالي:
1- مطالب إسرائيلية بإبعاد إيران: كان التمركز الإيراني في دوائر قريبة من الحدود الإسرائيلية، بل أن تل أبيب تتحفظ على أي تمركز عسكري لطهران على اتساع الأراضي السورية، وتعتبره تهديداً لأمنها القومي، وترفض إعادة تمركز الفصائل التابعة لإيران داخل سوريا، خاصة حزب الله وبعض فصائل الحشد الشعبي، وقيامها بعمليات تجميع أسلحة ترد إليها من إيران، ولن تتوقف إسرائيل عن ضرب تلك التمركزات.
2- استهداف إسرائيل مصانع السلاح السورية: سعت إيران للاستفادة من المصانع العسكرية السورية؛ لتجميع صواريخ وطائرات مُسيّرة وتأهيل وتطوير قدرات عسكرية، وأكدت إسرائيل لروسيا أنها ستوجه ضربات لهذه المنشآت. وكان هناك نوع من التوافق على عدم استهداف إسرائيل المواقع والمنشآت والقوات التابعة للجيش السوري.
وحاولت تل أبيب الاتفاق مع موسكو على أنه في حال رصد وجود عسكري إيراني داخل سوريا سيتم استهدافه، ما تطلب نوعاً من التوافق، خاصة أن روسيا قد اعترضت في السابق على بعض العمليات العسكرية الإسرائيلية التي طالت مواقع الجيش السوري، والتي دفعت موسكو لتفعيل منظومات دفاعها الجوي في سوريا، ما حال دون تحقيق أهداف تلك الضربات. وكان هذا مؤشراً على تصاعد الموقف بين موسكو وتل أبيب، وتطلب أن يكون هناك حوار بين البلدين.
3- بحث حدود الدور الإيراني في سوريا: كان ملف الدور الإيراني في سوريا على طاولة المفاوضات بين بوتين والأسد. ويُعتقد أنه قضية حيوية تهم روسيا بالدرجة الأولى والولايات المتحدة الأمريكية وكذلك إسرائيل.
ولعل إجراء بوتين اتصالاً تلفونياً مع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في أعقاب تلك الزيارة، يعني أن ثمة قضايا استراتيجية بُحثت بين الرئيس السوري والروسي، كان من بينها ملف الوجود الإيراني، وأن هناك تحركاً استراتيجياً قادماً في الأزمة السورية.
ويعني ما سبق أن الفترة القادمة قد تشهد تقديم تنازلات إيرانية في سوريا لتهدئة الصراع، وهو ما يتطلب حواراً روسياً – إيرانياً، كما أن هناك تفاهمات تمت بين روسيا وإسرائيل فيما يتعلق بالتمركز الإيراني في سوريا، وهو أمر يتطلب كذلك الحوار مع طهران لضمان عدم تدهور الأوضاع، وأن يستمر المخطط الروسي لتهدئة الأوضاع وتسوية الأزمة في المسار الذي تخطط له موسكو.
في الختام، يمكن القول إن زيارة الرئيس السوري، بشار الأسد، موسكو، على هذا النحو، وبالنظر للملفات التي تناولتها والقضايا التي طُرحت فيها، سواء بشأن سوريا أو التعامل مع إسرائيل وإيران، أو فيما يتعلق بخلق تفاهمات مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ يمكن أن تكفل ضماناً لاستقرار النظام السوري وزيادة شعبيته داخلياً، وتوفير فرص تعايش خارجية، بما يُرجح أن تشهد المرحلة القادمة إعادة العديد من دول المنطقة علاقاتها مع سوريا، في ضوء تلك التطورات التي تبدو إيجابية، والتي يُتوقع أن يقدم خلالها نظام الأسد تنازلات على المستوى السياسي والذهاب لمؤتمر جنيف، وبالتالي تحصين النظام من كل التهديدات التي يواجهها.