غادر الرئيس أشرف غني أفغانستان في 15 أغسطس، وذلك بالتزامن مع وصول طالبان إلى مشارف العاصمة، في وقت أكد مصدر مقرب من طالبان أن الطرفين توصلا إلى اتفاق على ترك غني منصبه وتسليم السلطة إلى حكومة انتقالية.
وفي حين قد تتجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى توظيف سلاح العقوبات ضد طالبان، إذا لم تلتزم الأخيرة بعدم التعرض للرعايا الأمريكيين والأوروبيين المغادرين أفغانستان، فإنه من الملحوظ أن أغلب الدول المجاورة لأفغانستان كانت تتوقع انهيار الحكومة الأفغانية، وإن ليس بهذه السرعة، وشرعت في الانفتاح على طالبان.
انسحاب أمريكي بلا رجعة:
دافعت الولايات المتحدة عن قرار انسحابها من أفغانستان، في وجه الانتقادات الداخلية والخارجية، مؤكدة أنها أمضت في هذا البلد ضعف المدة التي قضاها الاتحاد السوفييتي، بينما أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن "ببساطة ليس من مصلحتنا البقاء في أفغانستان"، مضيفاً أن "الولايات المتحدة نجحت في مهمة وقف الهجمات عليها". وسوف يترك الانسحاب تداعيات واسعة على المستويين الإقليمي والدولي.
وكشفت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، أن الإدارة الأمريكية لا تتحمل "الشعور بخيبة الأمل" من تراجع الأداء العسكري للجيش الأفغاني، وهي كلها مؤشرات على أن واشنطن تلقي باللوم على الحكومة الأفغانية، وهو المعنى نفسه الذي أكده بلينكن، إذ أشار إلى أن "الفكرة القائلة بأنه كان من الممكن الحفاظ على الوضع الراهن من خلال إبقاء قواتنا هناك خاطئة".
ويلاحظ هنا أن القادة العسكريين الأمريكيين كانوا يتوقعون سقوط الحكومة الأفغانية، نظراً لأن القوات الأفغانية كانت تعاني مشكلات مزمنة لم يتم أبداً علاجها، مثل الفساد العميق، وإخفاق كابول في دفع رواتب الجنود وضباط الشرطة لأشهر، بالإضافة إلى انشقاق القوات التي يتم إرسالها على الجبهة، نظراً لأنه لا يتم توفير طعام، أو ماء كافٍ، ناهيك عن الأسلحة. وفي ظل هذه الظروف أدرك بايدن أن بقاء القوات الأمريكية لسنوات إضافية لن يحل مشكلة انهيار القوات الأفغانية، لذا، رأى أن أفضل الخيارات هو سحب القوات الأمريكية.
وتجدر الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة ترامب قد وقعت اتفاق سلام مع حركة طالبان في فبراير 2020 في قطر، والذي تضمن مغادرة القوات الأمريكية للبلاد، في حال إيفاء حركة طالبان بالتزاماتها، والتي تتضمن عدم تحويل أفغانستان إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، غير أن إدارة بايدن تجاهلت هذا الشرط، وعمدت للانسحاب مهما كانت النتائج، حيث أكدت الأمم المتحدة أن أفغانستان تعد الآن ملاذاً آمناً لحوالي عشرة آلاف إرهابي موزعين على القاعدة وداعش، وغيرها من التنظيمات الإرهابية.
قلق أوروبي من ملف الهجرة:
تتمثل الهواجس الأوروبية من أفغانستان في بعدين أساسيين، وهما الإرهاب، واللاجئين. وتمثل القضية الثانية التهديد الأكبر، بالنظر إلى تدفق اللاجئين الأفغان بالفعل على دول الجوار، خاصة إيران، في محاولة للوصول إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.
ويلاحظ أن ملف الهجرة أحد القضايا التي تثير انقسامات حادة بين الدول الأعضاء، ففي حين علّقت بعض الدول ترحيل المهاجرين الأفغان الذين رفضت طلبات لجوئهم، مثل فرنسا وألمانيا وهولندا، تصر دول أخرى على ترحيلهم، حتى لا يرسل ذلك رسالة خاطئة للاجئين الأفغان بإمكانية استيعابهم.
ولا تمتلك أوروبا من أدوات كافية للتأثير على طالبان، خاصة بعد رحيل الولايات المتحدة، ولذا، فإنها سوف تسعى لإدارة هذا الملف بالتعاون مع تركيا، عبر تقديم حزمة مساعدات اقتصادية بهدف استيعاب اللاجئين داخل حدودها، ومنعهم من الانتقال إلى الدول الأوروبية.
كما يتوقع أن تتجه الدول الأوروبية إلى توظيف سلاح العقوبات، فقد حذر منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في بيان "إذا تم الاستيلاء على السلطة بالقوة وإعادة تأسيس إمارة إسلامية، فإن طالبان ستواجه عدم الاعتراف والعزلة وتراجع الدعم الدولي". وعلى الرغم من هذا التهديد، فإنه، حتى في حالة تنفيذه، لن يمثل تهديداً خطيراً على حركة طالبان بصورة تدفعها للتجاوب مع المطالب الأوروبية.
تأكيد المكاسب الباكستانية:
كانت إسلام آباد الداعم الرئيسي لحركة طالبان في أعقاب الانسحاب السوفييتي في أواخر الثمانينيات والحرب الأهلية في أوائل التسعينيات من القرن العشرين. كما وفرت باكستان المأوى لمجلس قيادة طالبان، الذي لا يزال يتخذ من باكستان مقراً له. ولا تزال عائلات العديد من قادة ومقاتلي طالبان تعيش في المحافظات الغربية لباكستان.
وكانت باكستان إحدى ثلاث دول اعترفت بنظام طالبان عندما سيطرت على كابول في عام 1996، بل وعززت العلاقات مع الحركة لمواجهة النفوذ الهندي في المنطقة. وامتد الدور الباكستاني المحوري لإقناع طالبان بالمشاركة في المحادثات مع الإدارة الأمريكية السابقة في عام 2020.
ومع التقدم السريع لحركة طالبان في الاستيلاء على عواصم الأقاليم، زعم الرئيس الأفغاني أن باكستان قد سمحت بعبور أكثر من 10 آلاف جهادي عبر الحدود لمساعدة طالبان، بالإضافة إلى اتهامه إسلام آباد بعدم ممارسة ضغوط كافية على الحركة للقبول بمسار التسوية السلمية. وبطبيعة الحال، فقد أنكرت باكستان هذا الدعم. غير أن تقرير الأمم المتحدة، السابقة الإشارة إليه، والذي أكد دعم عناصر من طالبان باكستان لنظيرتها الأفغانية، يضفي مصداقية على اتهامات كابول.
ومن جانب آخر، فقد رفضت باكستان السماح لواشنطن باستخدام قواعدها العسكرية لتوجيه المقاتلات الأمريكية ضربات إلى طالبان، عقب انسحاب الجيش الأمريكي من هناك، وهو ما يمثل دعماً باكستانياً غير مباشر لحركة طالبان.
ويلاحظ أن باكستان سوف تتجه إلى تعزيز مكاسبها الاستراتيجية في حال تمكنت طالبان من السيطرة على كامل أفغانستان، فإلى جانب وجود حكومة موالية لها في كابول، فإن باكستان سوف تمتلك القدرة على دعم حركات المقاومة الكشميرية، والتي كان بعضها يتخذ من أفغانستان مقراً لها، وهو ما يكسب باكستان أدوات ضغط إضافية في مواجهة الهند.
وإلى جانب الحسابات الاستراتجية والأمنية، فإن هناك حسابات جيواقتصادية، إذ إن سيطرة طالبان على أفغانستان سوف يعصف بخطط الهند الرامية إلى ربطها بمحور الشمال – الجنوب، والذي يهدف إلى ربط آسيا الوسطى بميناء مومباي مروراً بإيران، بل إن باكستان بالتعاون مع الصين سوف يتمكنان من ربط أفغانستان بمشروع "الحزام والطريق" الصيني.
تعاون صيني محتمل:
يتوقع أن تتجه الصين للاعتراف بطالبان فور سيطرتها على كامل أفغانستان، وزار فد من طالبان الصين في 28 يوليو الماضي، حيث أكد الوفد لبكين أن أفغانستان لن تكون قاعدة لشن هجمات ضد الصين، إذ تمتد الحدود المشتركة بطول 76 كيلومتراً، وهي عبارة عن مرتفعات شاهقة لا تتخللها أي معابر حدودية.
وينبع مصدر قلق بكين من امتداد الحدود بمحاذاة منطقة شينجيانج ذات الاغلبية المسلمة، وتتخوف الصين من استخدام الانفصاليين الأويجور أفغانستان كنقطة انطلاق لشن هجمات. وتعهّد المسؤولون الصينيون بدورهم بعدم التدخل في الشؤون الأفغانية.
وتمتد جذور العلاقة بين الجانبين إلى سنوات عدة، وذلك عبر باكستان. ووفقاً لحسابات الصين، فإن إقامة علاقات جيدة مع طالبان، التي تحظى بدعم باكستان، حليف بكين، سوف تمهد الطريق أمام توسيع "مبادرة حزام وطريق" في أفغانستان وعبر جمهوريات آسيا الوسطى. من جانبها، ترى طالبان في الصين مصدراً بالغ الأهمية للاستثمار والدعم الاقتصادي، إما مباشرة أو من خلال باكستان.
تأقلم هندي مع طالبان:
كانت الهند من القوى الإقليمية، التي أعلنت دعمها حكومة أشرف غني، ومع ذلك، فإنها اتجهت لفتح قنوات اتصال رسمية مع طالبان لأول مرة في يوليو 2021 للتحوط من احتمال انهيار الحكومة الأفغانية، وذلك على الرغم من أن نيودلهي كانت من الدول التي رحبت بإطاحة واشنطن بحكم طالبان في عام 2001.
وتسعى الهند حالياً إلى التنسيق مع إيران في مواجهة تطورات الصراع الأفغاني، خاصة في ضوء تشارك الدولتين مخاوف بشأن سيطرة طالبان على كابول. لذلك كثفت نيودلهي بالفعل مشاوراتها مع طهران في الفترة الأخيرة.
تعاون روسي حذر:
تعمل موسكو على تقديم نفسها باعتبارها الضامن الأمني لدول آسيا الوسطى بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ولذلك اتجه الجيش الروسي لتعزيز وجوده في قاعدته العسكرية في طاجيكستان، بالإضافة إلى إجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع طاجيكستان وأوزبكستان لتأمين الدولتين في مواجهة أي تهديدات أمنية محتملة نابعة من التنظيمات الإرهابية المتمركزة في أفغانستان.
وعلى الرغم من المخاوف الروسية بشأن تصاعد مخاطر الإرهاب من أفغانستان، فإن روسيا تعمل على مد أواصر التعاون مع حركة طالبان، التي وصفها وزير الخارجية سيرجي لافروف بـ "الأشخاص العقلاء"، في مؤشر على حرص الحركة على تقديم نفسها كطرف قادر على حكم أفغانستان، والتوصل لتفاهمات مع الدول المجاورة تضمن أمنهم.
بحث تركي عن أوراق للمساومة:
أجرت تركيا مع الولايات المتحدة مفاوضات مكثفة، حيث عرضت أنقرة القيام بلعب دور في تأمين مطار كابول بعد انسحاب القوات الأمريكية، وذلك بصورة تساعد في تأمين البعثات الدبلوماسية الأمريكية والغربية في كابول، فضلاً عن تأمين عناصر الاستخبارات والقادة العسكريين الأمريكيين أثناء زيارتهم كابول لتقديم الدعم العسكري لها في مواجهة طالبان.
وعرضت أنقرة لعب هذا الدور مقابل الحصول على الدعم الدبلوماسي واللوجستي والمالي للجانب التركي، وفقاً لما أشار إليه الرئيس التركي نفسه. وتستند تركيا في ذلك إلى عدد من العوامل أبرزها تمتعها بعلاقات جيدة مع بعض أمراء الحرب السابقين، مثل قلب الدين حكمتيار، وزعيم الحزب الإسلامي، والذراع السياسية للإخوان المسلمين، وكذلك عبد الرشيد دوستم، قائد حركة "جنبيش"، والذي يتمتع بنفوذ قوي في المجتمع الأوزبكي.
وإلى جانب هؤلاء، فإن أنقرة تعول على دعم إسلام أباد، وهو ما وضح من زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إلى إسلام آباد، في 11 أغسطس، حيث طالب بأن تقوم الأخيرة بالضغط على طالبان، لدفعها للقبول بالدور التركي في تأمين مطار كابول، كما أعلن أردوغان استعداده للقاء زعيم حركة طالبان هبة الله أخوند زادة في محاولة لإرساء السلام في أفغانستان. ورفضت طالبان مقابلة أردوغان، وجددت تأكيدها رفضها السماح لأي "قوات أجنبية" بالبقاء في أفغانستان، في إشارة إلى القوات التركية.
كما أنه في ضوء إمكانية نجاح الحركة في السيطرة على كامل أفغانستان في غضون ثلاثة أشهر على أقصى تقدير، وفقاً لتقييمات الاستخبارات المركزية الأمريكية، فإنه لن يكون بمقدور أنقرة لعب دور في أفغانستان.
إدارة إيرانية لتطورات الصراع الأفغاني:
تبنت طهران مستويين للتعامل مع تطورات الوضع في أفغانستان، وهما المستوى الدبلوماسي والعسكري. فقد التقى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عدداً من قادة طالبان في طهران عدة مرات من قبل.
ووصف أحمد نادري، عضو البرلمان الإيراني، طالبان بـ"الحركة الأصلية". وأكدت وزارة الخارجية الإيرانية غداة سيطرة طالبان على هرات في 13 أغسطس أن طالبان "ملتزمة بالأمن الكامل للقنصلية العامة ودبلوماسييها وموظفيها" في مزار شريف.
وسبق وأن تورطت إيران في تقديم الدعم العسكري لحركة طالبان، وذلك بهدف وضع الوجود الأمريكي في أفغانستان تحت ضغط. وعلى الجانب الآخر، أسست طهران عدداً من الميليشيات الشيعية المسلحة من أبناء إثنية الهزارة الشيعية، مثل ميليشيات "فدائي بابا مزاري"، الذين يقدر عددهم بخمسة آلاف، وفقاً لوزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف.
كما سبق وأن شكلت إيران لواء فاطميون من الشيعة الأفغان ونشرتهم للقتال في سوريا، وقد زار القائد العسكري لفيلق القدس من الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، منطقة البوكمال السورية عدة مرات في الآونة الأخيرة، حيث ينتشرون، وترجح بعض التقديرات إلى أن سبب هذه الزيارات هو تفكير إيران في نقلهم إلى أفغانستان.