إعداد: باسم راشد- باحث في العلوم السياسية
منذ 11 سبتمبر 2001، حظيت الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول باهتمام ومناقشات متزايدة من العلماء وصُنَّاع السياسات والجيوش، خاصة داخل الولايات المتحدة نظرًا لحروبها الواسعة في العراق وأفغانستان. وقد تمحورت هذه النقاشات بالأساس حول أساليب حروب الفاعلين من غير الدول وكيفية مواجهتها، انطلاقًا من افتراض أساسي مفاده أن الدول والجهات الفاعلة من غير الدول تقاتل بشكل مختلف تمامًا عن بعضها.
في هذا السياق، نشر "ستيفن بيدل" أستاذ الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا وزميل أول مساعد لسياسة الدفاع في مجلس العلاقات الخارجية، كتابه الجديد في أبريل 2021 بعنوان: "حروب الفاعلين من غير الدول: الأساليب العسكرية لحرب العصابات وأمراء الحرب والمليشيات"، الذي يدحض فيه هذا الافتراض، بحجة أنه لا يوجد في الواقع أي شيء جوهري يفصل بين السلوك العسكري للدول أو الفاعلين من غير الدول، مؤكدًا أن العديد من هؤلاء الفاعلين يقاتلون الآن بشكل "تقليدي" أكثر من العديد من جيوش الدول نفسها، وأن السياسات الداخلية لهذه الجهات تحدد تكتيكات واستراتيجيات الحرب، خاصة مع تزايد نضجها المؤسسي في زمن الحرب، فضلًا عن تطور أسلحتها المادية ومعداتها القتالية.
افتراض خاطئ
عادةً ما يُنظر إلى الحرب بين الدول على أنها قتال تقليدي عالي الكثافة؛ حيث تقوم تشكيلات كبيرة ذات زي رسمي ومدرعات كبيرة بالمناورة في ساحات معارك بعيدة بشكل كبير عن المدنيين الأبرياء، وتستخدم قوة نيران حاشدة لتدمير بعضها بعضًا كوسيلة للحصول على الأراضي واحتلالها. فيما على النقيض من ذلك، يُتوقع على نطاق واسع من الجهات الفاعلة من غير الدول أن تشن حربًا غير نظامية باستخدام وسائل "غير متكافئة" مميتة ولكنها غير معقدة عسكريًا مثل "السترات الانتحارية" والقنابل التي تُزرع على جوانب الطرق والقناصة والاغتيالات وتفجير السيارات، ودمج هذه التكتيكات مع استراتيجيات المعلومات المعقدة باستخدام الإنترنت وشبكات الأخبار عبر الوطنية للتأثير على الرأي العالمي والإقليمي بدلًا من اتخاذ موقف أو السعي إلى معركة حاسمة.
بيد أن "بيدل" يدحض -في كتابه- هذا الافتراض واسع الانتشار، مؤكدًا أنه افتراض مبالغ فيه؛ إذ بينما يقاتل بعض الفاعلين من غير الدول بالطريقة التي يصفها الافتراض الأساسي، فإن البعض الآخر لا يفعل ذلك. وقد استدل على ذلك بعدة شواهد؛ ففي عام 2006، على سبيل المثال، واجهت مليشيا حزب الله الشيعية هجومًا إسرائيليًا بدفاع تقليدي بشكل ملحوظ في جنوب لبنان، مسلحة بأسلحة حديثة وموجهة بدقة مضادة للدبابات الإسرائيلية وموزعة في العمق بين نظام من القرى المحصنة على جانبي خطوط الاتصالات الحاسمة، وهو ما كلَّف إسرائيل خسائر فادحة وغير متوقعة، وكانت أشبه بهزيمة للجيش الإسرائيلي من جانب مليشيا مسلحة تسليحًا جيدًا.
كما استخدم مقاتلو تنظيم القاعدة في الفترة من 2001-2002 في وادي شاه كوت في أفغانستان أساليب تقليدية بشكل مدهش بمهارة كبيرة، كما فعل رجال المليشيات الشيشانية في غروزني في 1994-1995، والانفصاليون الكروات في البلقان في 1991، والمتمردون الروانديون في عام 1994. وقد مكنت هذه الأساليب التقليدية الجهات الفاعلة غير الحكومية إما من هزيمة جيوش الدولة غير المؤهلة (مثل الروس في الحرب الشيشانية الأولى) أو التضحية بحياتهم في هذا القتال ضد جيوش الدولة المُجهزة (مثل الجيش الأمريكي عام 2002). ومن ثم يؤكد "بيدل" أنه حتى إذا لم تكن كل الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول قادرة على الحرب بالطرق التقليدية، فإن بعضها بالفعل قادر على ذلك، والبعض الآخر سيكون كذلك.
من ناحية أخرى، يؤكد "بيدل" أن بعض الدول تعتمد على هذه المليشيات أيضًا في حروبها. ففي عام 2003، عزز الجيش العراقي قواته النظامية الآلية بمجموعة متنوعة من مليشيات "الفدائيين"، الذين استخدموا مزيجًا من القذائف الصاروخية والأسلحة الصغيرة والسيارات المدنية أو الدراجات النارية لمهاجمة القوات البرية الأمريكية المدرعة بشدة في ضواحي المدن العراقية.
وفي عام 2011، سرعان ما أدرك الزعيم الليبي "معمر القذافي" أن جيش الدولة لا يمكنه مواجهة القوة الجوية لحلف الناتو باستخدام تشكيلات مركزة من الدبابات والمدفعية في العراء، وبدلًا من ذلك تخلى عن مثل هذه الأساليب التقليدية للعمليات واعتمد على تشكيلات غير نظامية، في ظل مشاركة كبيرة من المرتزقة الأجانب المستأجرين. وفي شبه جزيرة القرم عام 2014، نشرت روسيا جنودًا مشاة يرتدون زيًا أخضر غير مميز كان من المفترض أن يطمس الخط الفاصل بين القوات النظامية وغير النظامية. فيما تجمع قوات الأمن الحكومية الإيرانية اليوم بين التشكيلات الآلية المنتظمة مع المليشيات شبه العسكرية غير النظامية.
نموذج تفسيري
نظرًا لغياب البحث المستمر في أساليب الحرب غير النظامية، تعتمد توقعات غالبية المحللين لسلوك الفاعلين من غير الدول عادةً على افتراضات ضمنية وغير مفحوصة إلى حد كبير حول السبب والنتيجة، وفقًا لـ"بيدل". لذا فإن معظم الجدل الدائر حاليًا حول أسباب هذه الحروب يندرج تحت رأيين عريضين؛ يرى الأول أن تفضيل الحرب غير النظامية ناتج عن عدم التناسق والتكافؤ بين القدرات مع الجيوش النظامية، ووفقًا لهذا الرأي فإن الدول كبيرة جدًا وقوية جدًا بحيث يتعذر على الجهات الفاعلة الأصغر والأضعف وغير الحكومية التغلب عليها في الحروب التقليدية، وبالتالي فإن اللجوء الضعيف إلى الأساليب غير النظامية يمثل استجابة عقلانية لهذا التباين.
أما الرأي الثاني فيرى أن صنع الحرب غير النظامية هو انعكاس للاختلافات الثقافية غير المادية؛ حيث يؤكد هذا الرأي عادةً على القبلية كمصدر للدوافع الثقافية التي قد تشجع الحرب غير النظامية وتجعل القتال التقليدي غريبًا جدًا عن إمكانية تبنيها بشكل فعَّال من قبل بعض الجهات الفاعلة من غير الدول.
ويؤكد "بيدل" في هذا الإطار أن كلتا المدرستين تتوقعان طرقًا غير نظامية لمعظم الفاعلين من غير الدول اليوم، لكن الاختلاف في افتراضاتهما الأساسية حول السبب والنتيجة مهم؛ فبرغم أنهما قد تسفران عن نفس التوقعات اليوم، لكنهما تنطويان على تنبؤات مختلفة جدًا للمستقبل.
لذلك يقدِّم "بيدل" في كتابه نموذجًا تفسيريًا جديدًا ينصب على تحليل السلوك العسكري للفاعلين من غير الدول، يبدأ برفض الافتراض السائد بأن الحرب "التقليدية" و"حرب العصابات" أو "غير النظامية" تشكل فئات مستقلة وحصرية للسلوك العسكري المتميز، برغم وجود اختلافات طفيفة بينها، وذلك لأن هذا الفصل يعزز سوء الفهم؛ إذ يبالغ في الظواهر السطحية، ويخفي القواسم المشتركة الكامنة بينها، ويعيق التنظير وإلقاء الضوء على التغيير الحقيقي التدريجي الجاري الآن في جميع أساليب الفاعلين سواء الدول أو من غير الدول.
ومن ثم يعتمد "بيدل" في نموذجه التفسيري على محدد مختلف هو طبيعة السياسة الداخلية للفاعلين من غير الدول ومدى تأثيرها على تطور سلوكهم العسكري وانخراطهم في الحروب التقليدية أو غير النظامية. إذ يؤكد هذا النموذج على التطور المؤسسي للمقاتلين والرهانات المتصورة في الحرب، وكلاهما يختلف اختلافًا كبيرًا بين الجهات الفاعلة من غير الدول.
فوفقًا لـ"بيدل"، قد يلجأ بعض الفاعلين إلى الحرب غير النظامية برغم تطور عتادهم العسكري والتكنولوجيا التي يعتمدون عليها، وذلك لكون حصتهم النهائية من هذه الحرب محدودة على سبيل المثال، وهنا يظهر تأثير السياسة الداخلية على طبيعة السلوك العسكري. كذلك ليس لدى الفاعلين الذين يعانون من الإرهاق المادي والعتاد العسكري الحديث أي خيار سوى تبني المزيد من القتال غير النظامي، بالإضافة إلى أن الثقافة القبلية، من ناحية أخرى، يمكن أن تعيق التطور المؤسسي داخل الجهات الفاعلة من غير الدول برغم تطورهم العسكري والتكنولوجي، ومن ثم فإن سياسات الفاعلين، وليس عتادهم، تمثل بشكل متزايد قيدًا ملزمًا على أساليبهم العسكرية.
طبيعة الحرب المستقبلية
من واقع ما سبق، يؤكد "بيدل" أن نموذجه الجديد له آثار كبيرة؛ فهو يتنبأ، على سبيل المثال، بتغيير أسرع للعديد من الفاعلين مما يتوقعه ثقافيو القبائل، ولكن ليس نطاق التقارب الذي يتوقعه العديد من منظري الحرب الهجينة أو الجيل الرابع. فبرغم أن التكنولوجيا تنتشر بسرعة، لكن السياسات الداخلية للجهات الفاعلة تختلف وستستمر في ذلك. ونظرًا لأن السياسة تشكل قيدًا مهمًا على الأساليب العسكرية للجهات الفاعلة؛ فإن هذا يعني أنه من غير المرجح أن تتقارب أساليب القتال بالحرب بالسرعة التي تتقارب بها التكنولوجيا، وأن هذه التكنولوجيا ستكون مؤشرًا ضعيفًا على سلوك الجهات الفاعلة من غير الدول.
فالمقاتلون من غير الدول الذين لديهم سياسات داخلية متساهلة سيكونون قادرين على استغلال الأسلحة الحديثة لشن حرب متوسطة شبيهة بالدولة بشكل متزايد، لكن الآخرين لن يفعلوا ذلك، بغض النظر عن مدى حداثة أو فتك معداتهم. وبالتالي، من المرجح أن تكون النتيجة النهائية هي زيادة التباين. ومن ثم فإن فهم ديناميكيات السياسة الداخلية للفاعلين من غير الدول، سيصبح ذا أهمية أكبر من المهمة العسكرية التقليدية لعد الأسلحة أو تقييم تكنولوجيا العدو، وهو ما سيساهم بشكل كبير في توقع أساليب الخصوم في المستقبل.
ويؤكد "بيدل" أن هذه التوقعات لخصوم المستقبل بدورها تفرض تداعيات على سياسة الدفاع الأمريكية؛ فوفقًا لنموذجه التفسيري الجديد، لا يحتاج الجيش الأمريكي في المستقبل إلى إحداث تحولات جذرية في عتاده العسكري أو درجة اعتماده على التكنولوجيا أو على الأسلحة الفتاكة والنيران لمواجهة الخصوم المحتملين في المستقبل، سواء كانوا دولًا أو فاعلين من غير الدول. ويفسر "بيدل" ذلك بأن القوى ذات التقنية العالية والدقة في المواجهة تعمل بشكل جيد ضد الأعداء المحتشدين والمكشوفين، ولكنها تعمل بشكل سيئ ضد الأعداء المختبئين بشكل جيد، وهو ما تتوقع النظرية الجديدة زيادتهم في السنوات المقبلة على عكس تراجع الأعداء المكشوفين.
ومن ثم يؤكد "بيدل" أن من المفارقات أن القوة الأنسب للمستقبل قد تكون تلك التي تشبه -إلى حد كبير- القوات الأمريكية في الماضي، بحيث تصبح قوة مثالية ومتوسطة الوزن مع عدد من المشاة وفي الوقت ذاته لديها قوة ذات تقنية متوسطة مثالية. وعلى النقيض من ذلك، فإن البديل المستقبلي ذا التقنية العالية والمطروح في النقاش الدائر حاليًا هو الأمثل لمحاربة نوع من الأعداء الذي من المرجح أن يصبح أقل شيوعًا في المستقبل.
ختامًا، برغم أن النظرية الجديدة التي يطرحها "بيدل" تمثل إضافة هامة لدراسات الحرب مع الفاعلين من غير الدول؛ إلا أنها قد تطرح مزيدًا من التساؤلات حول حدود تأثير السياسات الداخلية لهؤلاء الفاعلين على سلوكهم العسكري، وإلى أي مدى يمكن لهذه السياسات أن تعرقل التطور في ظل التحديات التي يواجهونها، سواء ضد غيرهم من الفاعلين من غير الدول أو من الجيوش النظامية للدول الكبرى مثل الولايات المتحدة أو جيوش الدول الصغرى التي ينشطون بها.
المصدر:
Stephen Biddle, Nonstate Warfare: The Military Methods of Guerillas, Warlords, and Militias, Princeton University Press, 2021.