سبق أن تحفظت على وجهة النظر القائلة بأن ثمة تغييراً جذرياً سوف يطرأ على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في ظل رئاسة جو بايدن، مُفرقاً بين إعادته الأمور إلى طبيعتها في قضايا كالمناخ والعلاقة بمنظمة الصحة العالمية وبالحلفاء الأوربيين، وكلها قضايا اشتط فيها ترامب بخروجه على مألوف السياسة الأميركية، وبين القضايا الكبرى التي تنبع فيها المواقف من المصالح الوطنية المتفق عليها. وكان على رأس هذه القضايا الخصومة والتنافس مع الصين وروسيا، وقد كيفها بايدن في إطار دفاع الشعب الأميركي عن القيم الديمقراطية، مع أن تكييفها يأتي في إطار دفاع الولايات المتحدة عن قيادتها للعالم، والتي اكتسبت طابعاً أحادياً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي إلى حين. فقد واصلت الصين تقدمها إلى موقع الصدارة في النظام العالمي، واستعادت روسيا مكانة القوة الكبرى منذ ولاية بوتين في عام 2000. وكان بايدن حريصاً في أول حديث له في وزارة الخارجية على أن يوضح أن الخصومة لا تعني القطيعة، وإنما سيتم التعامل مع القوتين عندما يتسق مع المصالح الأميركية، بدليل موافقته على تجديد العمل بمعاهدة ستارت الجديدة للسنوات الخمس القادمة، ولذلك فإن التدهور الحاد الأخير في علاقات الولايات المتحدة بكل من روسيا والصين بدا مفاجئاً إلى حدٍ ما.
ولم تكمن المفاجأة في التدهور بحد ذاته وإنما في حدّته، فقد تعودنا على الاتهامات الأميركية لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية منذ 2016، وكذلك باختراق الفضاء الإلكتروني الأميركي، ناهيك بالإدانة الشديدة لممارسات روسيا في مجال حقوق الإنسان، لكن المفاجأة تمثلت في لهجة التلاسن غير المألوفة التي بدت في وصف بايدن لبوتين بأنه قاتل ورد بوتين بأن القاتل هو من يصف الآخرين بذلك. ويبدو وصف بايدن لبوتين خارجاً على مألوف الدبلوماسية التي بشر بأنها سوف تكون أداته الرئيسية في تنفيذ سياسته الخارجية. ولم تقتصر مؤشرات التدهور على روسيا بطبيعة الحال، وعلى سبيل المثال فقد ساد التوتر أول اجتماع رفيع المستوى في 19 مارس الجاري بين الولايات المتحدة والصين في ظل إدارة بايدن، حيث اتهم بلينكن الصين في كلمته بالجلسة الافتتاحية بقمع الديمقراطية واتباع سياسة عدائية تجاه الدول الأخرى، وسرد التصرفات الصينية بحق الأقليات، ووصف هذه السياسة بأنها تهديد للنظام العالمي وأن الولايات المتحدة مصممة على التصدي لها. ومن ناحيته وصف رئيس الوفد الصيني الموقف الأميركي بالتعالي، وذكر بأن كلتا الدولتين دولة رئيسية في العالم، وأكد على أن الصين لن تسمح للولايات المتحدة بخنقها، ووصف السلوك الأميركي بالنفاق في مواعظه الديمقراطية للصين فيما تواجه الديمقراطية الأميركية ما تواجهه من مشكلات، ورفض التدخل الأميركي في شؤون الصين الداخلية، وهدد باتخاذ إجراءات حازمة للرد على هذا السلوك الأميركي. وهكذا تحول الاجتماع الذي كان يُفترض فيه أن يكون حواراً استراتيجياً يحاول إذابة الخلافات أو تقريب وجهات النظر بين الجانبين، إلى ساحة للتلاسن العلني. لكن الأخطر هو أن إدارة بايدن اختارت أن تُصَعد معارضتها لمشروع «نورد ستريم2» في توقيت متزامن مع مؤشرات التصعيد السابقة، ومع أن الأصل في هذا التصعيد هو اعتراض الولايات المتحدة على تزايد اعتماد أوروبا على الغاز الروسي لأسباب استراتيجية، إلا أن المشكلة أن ألمانيا على رأس المستفيدين من المشروع، وأن فرض الكونجرس عقوبات على المشاركين فيه منذ 2019 قد استدعى تنديداً من ألمانيا والاتحاد الأوروبي، ويعني هذا أن الحرب الباردة القادمة سوف تشمل بعض حلفاء الولايات المتحدة الأوربيين، مما سيزيد تعقيد المسألة، ويدعو إلى التفكير في مستقبل العلاقات على مستوى القمة، وهذه قصة أخرى.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد