رغم الضربات القوية التي تعرضت لها حركة "طالبان" الأفغانية خلال الفترة الماضية، إلا أنها ما زالت حريصة على مواصلة عملياتها الإرهابية وتعزيز نفوذها في أنحاء مختلفة من البلاد. واللافت هو أن استمرار نشاط الحركة رغم تلك الضربات بات يحظى باهتمام خاص من جانب القوى الدولية المعنية بالصراع في أفغانستان على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما انعكس في التصريحات التي أدلى بها رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال جوزيف دنفورد، في 18 نوفمبر الجاري، وقال فيها أن "طالبان لا تخسر في الميدان"، مشيرًا إلى "تقدمها في الأراضي الأفغانية وعدم خسارتها الحرب التي شنتها ضد القوات الأفغانية والأجنبية"، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول الآليات التي تستند إليها الحركة من أجل مواصلة عملياتها الإرهابية في أفغانستان والتعامل مع التطورات السياسية والميدانية التي تشهدها الأخيرة.
أسباب متعددة:
يمكن تفسير استمرار نشاط الحركة رغم الضربات القوية التي تتعرض لها في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- انتشار متواصل: حرصت "طالبان" من البداية على عدم التمركز في منطقة واحدة داخل أفغانستان، حيث سعت باستمرار إلى الانتشار في أنحاء مختلفة، لدرجة أن دراسة أعدتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، ونشرت نتائجها في أول فبراير 2018، أشارت إلى أن الحركة تنشط في ما يقرب من 70% من الأراضي الأفغانية، حيث تسيطر على 14 إقليمًا بما يمثل 4% من مساحة الدولة، وتتواجد في 263 إقليمًا آخر بما تصل نسبته إلى 66% من هذه المساحة. ويختلف مستوى هذا النشاط من منطقة إلى أخرى. ففضلاً عن المناطق الرئيسية التي تسيطر عليها، فإن لديها مجموعات أو خلايا تتواجد في مناطق أخرى وتسعى عبرها إلى تنفيذ عمليات إرهابية ضد القوات الحكومية أو الأجنبية.
2- خبرات ميدانية: ما زالت لدى الحركة القدرة على استقطاب عناصر إرهابية للانضمام إليها، فضلاً عن أنها تضم من الأساس كوادر تمتلك قدرات قتالية عالية، نتيجة كثرة المعارك التي شاركت فيها. وتظهر الأنماط المختلفة للعمليات الإرهابية التي تقوم "طالبان" بارتكابها أن قادتها لديهم خبرات كبيرة في مجال التخطيط والتنفيذ، وهو ما مكنها من شن هجمات غير تقليدية، على غرار الهجوم الذي وقع في إقليم قندوز شمال أفغانستان في 9 يوليو 2018، وأسفر عن مقتل 15 جنديًا أفغانيًا، والذي تزامن مع عملية أخرى وقعت في إقليم فراة غربى البلاد أدت إلى مقتل 4 من عناصر الشرطة.
3- سيطرة تنظيمية: تعتمد الحركة، مثل العديد من التنظيمات الإرهابية، على مبدأ السمع والطاعة، وهو ما يجعلها قادرة على إقناع عناصرها بما تتخذه من خطوات، حتى لو كانت تخالف النسق الفكري الذي تتبناه هذه العناصر، مثل التفاوض مع القوى الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية أو الحكومة الأفغانية. واللافت أن قيادة الحركة قادرة على إضفاء طابع أيديولوجي على مثل تلك الخطوات، وهو ما يوفر لها حرية حركة أكبر وهامشًا أوسع من المناورة. كما أنه مكنها من الحفاظ على تماسكها التنظيمي، وإضعاف احتمالات حدوث انشقاقات كبيرة داخل صفوف قياداتها وكوادرها، على نحو كان من الممكن أن يضعف من نفوذها على الأرض، خاصة مع ظهور تنظيمات إرهابية أخرى مثل تنظيم "داعش".
ويبدو أن هذه السيطرة كان لها دور في دفع الحركة إلى الانخراط في مباحثات مع المبعوث الأمريكي إلى أفغانستان زالماى خليل زاد، في الفترة من 14 إلى 16 نوفمبر الجاري، تهدف إلى التوصل لاتفاق قبل موعد الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في إبريل 2019، دون أن تغامر بمواجهة تمرد داخلي من جانب بعض القيادات المعارضة للمفاوضات. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن الحركة طرحت أفكارًا عديدة خلال تلك المباحثات مثل تأجيل إجراء الانتخابات وتشكيل حكومة انتقالية. وأثار ذلك، على ما يبدو، استياء الحكومة الأفغانية التي اعتبرت أن ثمة محاولات لإبعادها عن المشاركة في المشاورات التي تجري للوصول إلى ترتيبات سياسية وأمنية قد تعزز من احتمالات الوصول إلى اتفاق في النهاية، وهو ما دفع خليل زاد إلى زيارة أفغانستان للالتقاء بالرئيس أشرف غني من أجل التشاور حول الجهود المبذولة لإقناع "طالبان" بالمشاركة في المباحثات.
4- هجمات نوعية: تشير اتجاهات عديدة إلى أن "طالبان" ما زالت تمتلك قدرات عسكرية ليست هينة، إذ تعد أكبر التنظيمات الإرهابية في أفغانستان من حيث القوة والانتشار وأعداد المقاتلين، وهو ما مكنها من التعامل مع الضربات العسكرية التي تعرضت لها سواء من جانب القوات الحكومية أو من قبل القوات الأجنبية. إلى جانب أنه ساعدها على شن هجمات قوية ونوعية، على غرار الهجوم الأخير الذي شنته في 18 نوفمبر 2018، خلال معاركها ضد القوات الحكومية في ولاية ننجارهار شرقى أفغانستان، وأدى إلى مقتل 16 من أفراد القوات الخاصة الأفغانية.
وقد أشار الرئيس أشرف غني، في 17 نوفمبر الحالي، إلى مقتل مايقرب من 30 ألف جندي أفغاني منذ عام 2015 وحتى الآن، بسبب المواجهات المستمرة مع "طالبان" والتنظيمات الإرهابية الأخرى، على نحو يكشف عن الخسائر الكبيرة التي منيت بها القوات الأفغانية منذ تسلمها مسئولية ضمان أمن البلاد من قوات حلف الناتو التي انسحب الجزأ الأكبر منها في نهاية عام 2014.
واللافت في هذا السياق، هو أن استمرار نفوذ "طالبان" داخل أفغانستان يمكن أن يعرقل الجهود التي تبذلها قوى دولية وإقليمية عديدة للوصول إلى تسوية للأزمة الأفغانية خلال المرحلة القادمة، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى ترجيح أن تكون المرونة التي أبدتها الحركة إزاء الدعوات التي وجهتها بعض تلك القوى لها بالانخراط في مفاوضات جديدة، مناورة من جانبها للتعامل مع التطورات الميدانية الحالية التي تشهدها أفغانستان، دون أن يكون لديها استعداد لإجراء تغيير بارز في مواقفها.