أخبار المركز
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)
  • محمود قاسم يكتب: (الاستدارة السريعة: ملامح المشهد القادم من التحولات السياسية الدرامية في كوريا الجنوبية)
  • السيد صدقي عابدين يكتب: (الصدامات المقبلة: مستقبل العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في كوريا الجنوبية)
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)

هراء الوظائف:

تبعات لجوء الاقتصادات الرأسمالية للتوظيف غير المنتج

04 ديسمبر، 2018


عرض: رغدة البهي - مدرس العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

جادل عديدون بأن التقدم التكنولوجي الهائل من شأنه أن يؤثر سلبيًّا على أسواق العمل، حيث تحل الآلات محل العمالة البشرية، ويتقلص عدد الوظائف. ولكن في اتجاهٍ مغاير، بدأت عديد من الدول تزيد من الوظائف التي لا جدوى منها، ولا تقدم أي قيمة مضافة، وهو ما يُعزَى إلى جملةٍ من الأسباب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ويأتي في مقدمتها رغبة الحكومات والأحزاب السياسية في توفير الوظائف للحد من البطالة، وامتصاص الغضب الشعبي للحيلولة دون اندلاع احتجاجات، بغض النظر عن إنتاجية تلك الوظائف.

وفي هذا الإطار، تبرز أهمية كتاب "ديفيد جريبر" (أستاذ الأنثروبولوجيا بكلية لندن للاقتصاد)، المُعنون: "هراء الوظائف: النظرية"، الذي يقدم فهمًا للآثار النفسية، والاجتماعية، والسياسية، للعمل بوظائف تفتقر للقيمة الاجتماعية. ويشير المؤلف إلى أن الاقتصادات الرأسمالية، في اتجاهٍ مغاير لطبيعتها وخصائصها، ولّدت جملةً من الوظائف التي لا طائل منها. 

المفهوم والسمات:

يعرف "جريبر" مفهوم "هراء الوظائف" بتلك الوظائف التي تنعدم جدواها، مثل: التسويق عبر الهاتف، أو أبحاث السوق، أو الاستشارات؛ حتى إن الشخص الذي يعمل بها لا يملك سببًا وجيهًا للقيام بها، ولا يمكنه الاعتراف بذلك لزملائه في العمل وذلك من وجهة نظر المؤلف. ويرى أنها شكل من أشكال العمالة التي "لا معنى لها"، أو "غير ضرورية"، بحيث لا يمكن للموظف تبرير وجوده فيها، ولا يمكن لمن حوله ملاحظة اختفائه عنها. وبهذا المعنى، تتواجد تلك الوظائف في القطاعين العام والخاص على حد سواء. ويكمن الفارق بين كلٍّ منهما في نطاق وطبيعة الإشراف على تلك الوظائف. 

وقد تنامت تلك الوظائف في الآونة الأخيرة في مختلف المجتمعات، على الرغم من تبعاتها النفسية، والاجتماعية، والسياسية، حيث تزايد عدد الموظفين في أعمالٍ عديمة الجدوى، بل والمستائين من أولئك الذين يقومون بأعمالٍ ذات فائدة للمجتمع، بجانب أولئك الذين لا يعملون بأي أجرٍ على الإطلاق.

ومن أبرز سمات الوظائف عديمة الجدوى، وفقًا للكاتب، معرفة أصحابها بانعدام جدواها أو فائدتها في كثيرٍ من الحالات. وعلى الرغم من ذلك يتمكن أصحابها من الحصول على المال من الآخرين، عن طريق التظاهر زورًا بأنهم يقدمون لهم بعض الخدمات، ولكنهم في حقيقة الأمر لا يقدمون أي قيمة اجتماعية إيجابية تذكر. وترتبط تلك القيمة بما يعتقده المجتمع في تلك الوظائف. وبصرف النظر عن القيمة السوقية، لم يكتشف أحد طريقة ملائمة لقياس القيمة الاجتماعية، فلا يسهل معرفة ما يعتقده الآخرون عن مهنة بعينها. فقد يدرك البعض انعدام القيمة الاجتماعية لعملهم، في حين يغفل آخرون عن ذلك.

ولا يمكن لاستطلاعات رأي أعضاء جماعات الضغط أو الاستشاريين الماليين أو مندوبي المبيعات، أن تحدد تلك القيمة بفعل إشكالية المصداقية، فقد تؤمن جماعات الضغط والمستشارون الماليون للشركات بصدقٍ بنظرية القيمة الاجتماعية، بل بفائدتهم للمجتمع. في حين أنهم مسئولون بشكلٍ غير متناسب عن الضرر الذي يحدث في العالم، وفقًا للمؤلف.

وغالبًا ما يُصر المديرون التنفيذيون وغيرهم من كبار الشخصيات على أن معظم الأشخاص الذين يعملون في شركة كبيرة لا يفهمون طبيعة دورهم، وما يقدمونه من إسهامات، متعللين بعدم وضوح الرؤية الكلية إلا في المستويات الإدارية العليا، وعدم قدرة العمال في المستويات الأدنى على الإدراك أو الفهم أو الرؤية. ومن ثم، تعد تلك الوظائف قضية اجتماعية بارزة. فوفقًا للكاتب، تنعدم جدوى (40%) من الوظائف، و(50%) من الوظائف المكتبية. ولذا، يمكن الحد من نصف الوظائف المتاحة دون تداعياتٍ تذكر.

أنواع متباينة:

عدّد "جريبر" أنواعًا متباينة من هراء الوظائف، يتمثل أولها فيما أسماه الكاتب (Flunkies). ويشير هذا المصطلح إلى الوظائف التي يشعر على إثرها أشخاص بعينهم بأهميتهم. ومن الأمثلة البارزة على ذلك: الخدم، والحاشية، والمتملقون المحيطون بالأثرياء. وعادةً ما يرتدي أصحاب تلك الوظائف زيًّا رسميًّا، وتُسْنَد إليهم مهام وظيفية محدودة، مما يُشعر من يوظفهم بالعظمة، والأهمية، والحراسة.

أما ثانيها، فهو ما أسماه الكاتب Goons)). ويقصد به تلك الوظائف التي لا تعود بالنفع على أحدٍ باستثناء من وظفهم بها. وهو ما ينطبق على وظائف عدة من قبيل: جماعات الضغط، والعلاقات العامة، ومندوبي المبيعات، ومستشاري الشركات، وغيرهم.

ويُسمى ثالثها (Duct Tapers)، أي تلك الوظائف التي لا تتواجد إلا بسبب خللٍ أو مشكلة لا يجب أن تتواجد ابتداءً. والمثال على ذلك لجان تقصي الحقائق، ذلك أنها تنهض على افتراضٍ مفاده انعدام المعلومات المتعلقة بحدثٍ ما، وهو أمر نادر الحدوث. كما توحي باتخاذ إجراءاتٍ مُشددة بمجرد ظهور مخرجات تلك اللجان.

أما رابعها فهو (Box Tickers)، ويشير إلى تلك الوظائف التي تتواجد بشكلٍ أساسي كي تدعي المنظمة وجودها، وقدرتها على أداء الأعمال التي تُسنَد إليها. 

أما خامسها فهو ما يسمى (Task Masters)، وتتأسس تلك الوظائف على من يكلف الآخرين بالأعمال المُسنَدة إليهم، وهم رؤساء غير ضروريين، إذ يقتصر دورهم على إسناد الأعمال التي لا طائل منها للآخرين.

عوامل مفسرة:

يُشير "جريبر" إلى أن السنوات القليلة الماضية شهدت تزايد "هراء الوظائف" بنسبٍ مرتفعة على اختلاف المجتمعات والاقتصادات في جميع أنحاء العالم. ولهذا، يشعر كثيرون بعدم الرضى جرّاء دفع أموالٍ مقابل لا شيء، وهو أمر يتعارض وبشدة مع خصائص نظام السوق الحر وآليات عمله، بل إنه يتفق مع الأنظمة الاشتراكية التي تطبق سياسات التوظيف الكامل كسياساتٍ عامة.

ويُرجع المؤلف ذلك إلى جملةٍ من العوامل والأسباب، يأتي في مقدمتها: التغير في طبيعة أسواق العمل، وظهور اقتصادات الخدمات خاصةً في الدول المتقدمة، والانخفاض المطرد في الزراعة والتصنيع، وإنشاء المصانع في البلدان الأكثر فقرًا، وارتباط المكانة الاجتماعية للمديرين بالعدد الإجمالي لمساعديهم من الإداريين، وديناميات الشركات البيروقراطية الغريبة، والإدارة السيئة، والتدفق السيئ للمعلومات، والتغير الاجتماعي، والخوف من التشرد دون مأوى.

ويُرجع "جريبر" تزايد تلك الوظائف إلى سياسات الحكومات على اختلافها، فهي لا تكتفي بخلق تلك الوظائف، بل تُبقي عليها أيضًا نظرًا لتداعياتها الإيجابية على السلطة السياسية. ولكنه يوضح رفض كثيرين تفسير تلك الوظائف سياسيًّا، ويصرون على أن سببها يعود إلى حاجة الأفراد إلى المال.

ولا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه الهندسة الاجتماعية في توفير وظائف غير ضرورية للقضاء على ظاهرة البطالة، وهو الأمر الذي وُجد سلفًا في الاتحاد السوفيتي السابق والصين الشيوعية في إطار سياسات التوظيف الكامل. ومنذ الحرب العالمية الثانية، استندت جميع السياسات الاقتصادية إلى مبدأ العمالة الكاملة، غير أنه لا يَلقى صدى لدى صانعي القرار، لأن التوظيف الكامل الحقيقي لا بد وأن تُصاحِبه بالضرورة -وفقًا للمؤلف- ضغوط تصاعدية على الأجور. 

وعلى تعدد القوى الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى انتشار تلك الوظائف، وعلى الرغم من تداعياتها النفسية والاجتماعية السلبية، يعمل بها الملايين كل يوم على الرغم من اقتناعهم بأنهم لا يفعلون شيئًا على الإطلاق، دون أن يُمثّل ذلك مشكلةً اجتماعية؛ فلم يستنكرها أحد من الأكاديميين والسياسيين.

ويرى "جريبر" أن تلك الوظائف تعود جزئيًّا إلى البواعث الدينية التي تُرسخ لضرورة العمل كونه واجبًا مقدسًا بصرف النظر عن قيمته المضافة. وهو ما أسفر عن تعارضها مع القيمة الاقتصادية، وإن كان ذلك مقبولًا أخلاقيًّا. إذ يقيس الاقتصاديون القيمة وفقًا للمنفعة، وهي الدرجة التي تلبي بها السلعة أو الخدمة مختلف الحاجات. وقد حاول عددٌ قليل جدًّا من الاقتصاديين قياس القيمة الاجتماعية العامة للمهن المختلفة.

وعليه، تساءل المؤلف عن إمكانية التخلص من العمل الذي لا يؤثر على الإنتاجية الكلية، وتوزيع العمل المتبقي على نصف أيام الأسبوع. فمع التقدم المطرد في التكنولوجيا، ساد الاعتقاد بمَيْكنة الوظائف، وتقليص ساعات العمل، ولكن قررت المجتمعات بشكلٍ جماعي الإبقاء على مواعيد العمل دون تغيير، وإن أهدر ملايين البشر سنواتٍ عدة لملء الجداول، وإعداد خرائط ذهنية لاجتماعات العلاقات العامة بدلًا من استثمار الوقت في مختلف العلاقات الاجتماعية.

التداعيات المحتملة:

وفي كتابه، تناول "جريبر" التداعيات المحتملة لظاهرة "هراء الوظائف"، فتحدث عن حتمية إجبار الأفراد على العمل، والبحث عن الوظائف المناسبة، بصرف النظر عن قيمتها الاجتماعية المضافة. وضرورة العمل في كافة الأوقات، حتى لو لم يكن هناك شيء للقيام به، لملء الوقت. وما أسماه المؤلف بـ"العنف الروحي للعمل الحديث"، والصدام المباشر بين أخلاقيات صاحب العمل والحس السليم للموظف. وهو ما ينعكس بدوره على الصحة البدنية للموظفين، ويتضح جليًّا في انتشار الإجهاد، والبؤس، وانعدام الهدف، والضمور العقلي والجسدي.

ويشير الكاتب إلى نوعٍ آخر مختلف من المعاناة الاجتماعية؛ ألا وهو الاضطرار إلى التظاهر بالإنتاج وتقديم النفع للبشرية، وهو على العكس تمامًا من الواقع. ولأسبابٍ واضحة، يشيع ذلك بين مقدمي الخدمات الاجتماعية الذين يعملون في الحكومة أو المنظمات غير الحكومية. وإن ادّعى النقاد أن ساعات العمل المتصلة إنما ترجع إلى تفضيل العاملين للنزعة الاستهلاكية على أوقات الفراغ. 

وتعاني العمالة غير المجدية من الاكتئاب الإكلينيكي وأشكالٍ أخرى من الأمراض العقلية. وإجمالًا، يعزز ذلك المشهد السياسي المليء بالكراهية والاستياء. أو بعبارةٍ أخرى، يستاء المحاصرون في هراء الوظائف من العمال الذين يقومون بعملٍ حقيقي منتج ومفيد، وأولئك الذين يعملون عملًا منتجًا أو مفيدًا، ويتقاضون أجورًا متدنية، يستاءون بدورهم وبشكلٍ متزايد ممن يحتكرون الوظائف القليلة. وهو ما يدلل إجمالًا على الصعوبات التي تواجهها الطبقة العاملة في اختراق صفوف الطبقات الرأسمالية.

وختامًا، يطالب الكاتب بما أسماه "الدخل الأساسي العالمي" ((Universal Basic Income، وهو دخل يُعطَى للجميع وإن كانوا دون مؤهلات، مما يسمح لهم بالعمل في أوقات فراغهم. ويشدد على أهمية الإنتاجية للحكم على الوظائف، وذلك بدلًا من ساعات العمل. وعليه، يطالب بتوجيه الوقت الذي يذهب دون طائل في وظائف لا جدوى منها إلى الأنشطة الإبداعية.

المصدر:

David Graeber, Bullshit Jobs: A Theory, (Simon and Schuster, 2018).