أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

تحديات أمنية:

هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها دون واشنطن؟

31 مايو، 2021


عرض: دكتور إبراهيم سيف منشاوي - مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

كان هناك اعتقاد سائد منذ فترة طويلة بين الكثير من الباحثين أن أوروبا لا تستطيع بمفردها أن تتعامل مع مشكلاتها الأمنية الخاصة، فهي في حاجة دائمة إلى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن هذا المعتقد بدأ في التواري، ولا سيما مع وجود رغبة حقيقية لدى القادة الأوروبيين في تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية عن الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تزعّم هذا الاتجاه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منذ عام 2017.

وإذا كانت الاستعدادات الدفاعية لأوروبا بها بعض أوجه القصور، فإن هذا لا ينفي قدرتها على الدفاع عن نفسها. لذا، فإن الفكرة القائلة بأنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تضطلع بمهمة الدفاع عن أوروبا للأبد لعدم قدرة الأخيرة على ممارسة هذه المهمة، تبدو فكرة غير صحيحية. وفي هذا الشأن يدحض ستيفن وولت في مقالته المنشورة بموقع مجلة السياسة الخارجية بعنوان "كيف بالضبط أوروبا عاجزة؟" في 21 مايو الجاري ما توصل إليه هوجو ميجر وستيفن ج. بروكس في مقالتهما المنشورة مؤخرًا في المجلة الأكاديمية للأمن الدولي، والتي وصلت إلى استنتاج مفاده أن أوروبا عاجزة عن الدفاع عن نفسها، ومن ثم يجب عليها أن تواصل الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية؛ لا تعدو أن تكون مجرد محاولة لتحليل بعض العقبات المحتملة أمام حصول أوروبا على قدر أكبر من الاستقلال الاستراتيجي عن واشنطن. فالقول -إذن- إن الاستقرار في أوروبا يتطلب التزامًا كبيرًا من الولايات المتحدة الأمريكية لعقود قادمة، هو قول خاطئ وفي غير محله.

الحجج الرئيسية الثلاث 

يبني كلٌّ من ميجر وبروكس استنتاجهما المتشائم على ثلاث حجج. أولًا، يزعمان أن القدرات الحالية التي تمتلكها أوروبا يشوبها النقصان، وتتطلب جهدًا هائلًا وممتدًا لتطويرها. ثانيًا، يجادلان بأن روسيا أكثر قوة بكثير مما توحي به المقارنات المتعلقة بالسكان والناتج المحلي الإجمالي والإنفاق الدفاعي، إذ تعتمد قواتها المسلحة على مجندين ذوي أجور متدنية، كما أن نفقات الدفاع الروسية مع مقارنتها بنظيرتها الأوروبية باستخدام تعادل القوة الشرائية بدلًا من أسعار الصرف في السوق، يتضح أنها أقرب إلى أرقام الناتو في أوروبا. ثالثًا، يعتقد كل من ميجر وبروكس، أن الولايات المتحدة ضرورية للحفاظ على تركيز الاهتمام الأوروبي على الخطر الروسي، ولتوفير القدرات العسكرية التي لا يستطيع الأوروبيون تقديمها، إذ لاحظا أن تصورات التهديدات في جميع أنحاء أوروبا متباينة للغاية لدعم جهود منسقة لتحقيق التوازن مع روسيا (التنافر الاستراتيجي الأوروبي).

ولكن الادّعاء الأول الذي قدمه كل من ميجر وبروكس لا يأخذ بعين الاعتبار الآراء التي نادت بضرورة أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقليص أو إنهاء وجودها العسكري في أوروبا، إذ أضحت الأخيرة تمتلك من الإمكانيات ما يمكنها من موازنة القوة الروسية وتصحيح أوجه القصور في منظومتها الدفاعية، وهو الأمر الذي سيستغرق وقتًا أقل مما يقترحه ميجر وبروكس. فأوروبا أضحت تمتلك مستوى عالميًا من صناعات الأسلحة، وقدرة كبيرة على استخدام الفضاء والأقمار الصناعية، وخبرة عسكرية متقدمة، وقدرة على شراء أسلحة متطورة من الولايات المتحدة. ومن ثم لن يستغرق الأمر عقدًا أو أكثر من الأوروبيين لتطوير القدرات الدفاعية ضد أي هجوم روسي محتمل.

وبالنسبة للادعاء الثاني، توجد الكثير من الأسباب التي تجعل تكلفة المعدات العسكرية في روسيا أقل منها في الغرب، بما في ذلك احتمال أن يكون الكثير منها أقل جودة. لهذا السبب يختلف خبراء الدفاع حول صحة مقارنات الإنفاق على أساس تعادل القوة الشرائية. لذا، يستخدم معهد استكهولم الدولي لبحوث السلام مقارنات أسعار الصرف، ويعتقد أنها أكثر دقة. وبالتالي، من الصعب قبول الادعاء بأن الدول الأوروبية الأكثر ثراءً لا يمكن أن تضاهي القوة العسكرية الروسية.

التنافر الاستراتيجي الأوروبي

تواجه أوروبا بالفعل عددًا من التحديات الأمنية المختلفة، لكن الخلافات حول تصورات التهديدات والأولويات الاستراتيجية لا تشكل حاجزًا مطلقًا أمام تطوير استجابة منسقة لأي منها أو جميعها. فالعديد من التحالفات تعمل بشكل مقبول حتى دون الاتفاق بشكل كامل على التهديدات المختلفة. لذا، فالسؤال الذي يثور ليس عما إذا كانت الدول لديها وجهات نظر متطابقة، ولكن بالأحرى عما إذا كانت مصالحها تتداخل بشكل كافٍ للسماح لها بالعمل معًا بشكل فعال.

فعلى الرغم من أن الضمان الأمني الأمريكي لأوروبا لم يكن موضع شك في عام 2014، عندما ضمت روسيا القرم؛ إلا أن ذلك دفع الدول الأوروبية إلى العمل على تحقيق التوازن مع روسيا بقوة أكبر من ذي قبل. بل وتصاعد الاهتمام الأوروبي بالاستقلال الاستراتيجي بصورة كبيرة في عهد إدارة ترامب، عندما تراجعت الثقة في التزام الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك، ساعدت المخاوف الأوروبية خلال أوائل الخمسينيات من القرن الماضي من عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى العزلة مرة أخرى على إطلاق الجهود الناجحة لتعزيز التكامل الاقتصادي الأوروبي. كما أثارت مخاوف ما بعد الحرب الباردة بشأن انسحاب الولايات المتحدة أيضًا بعض الجهود قصيرة الأجل لتحديث جهود الدفاع الأوروبية، لكن هذه المبادرات ضعفت في مواجهة معارضة أمريكية قوية وتأكيدات متجددة باستمرار الالتزام الأمريكي تجاه أوروبا.

علاوة على ذلك، تتغير تصورات التهديد بسرعة مذهلة. وخير مثال على ذلك أن إدارة بوش الأب بعد أن كانت تحاول تحسين العلاقات مع العراق في أوائل عام 1990، إلا أنها تخلت عن هذا الجهد عندما غزا صدام حسين الكويت، بل وخاضت حربًا ضد العراق بعد بضعة أشهر. وبالمثل، عندما تجاهلت إدارة بوش الابن تهديدات القاعدة في البداية، فقد عكست أحداث الحادي عشر من سبتمبر مسارها وجعلتها تخوض حربًا عالمية ضد الإرهاب.

وبالتالي، إذا كان السيناريو الحقيقي المتصور أن قوات الولايات المتحدة الأمريكية قامت بالانسحاب من أوروبا، وأن روسيا تهدد وتحاول توسيع سيطرتها الإقليمية في دول بحر البلطيق وربما خارجها، فهل من المعقول أن تقف الدول الأوروبية مكتوفة الأيدي ولا تعتبر مثل هذه الأعمال لا تشكل خطرًا جسيمًا، ومن ثم لا تستجيب بقوة وتحاول مواجهتها؟. إذ من المؤكد أن تقوم أوروبا بمواجهة هذا التهديد الروسي، وبالتالي فإن مسألة التنافر الاستراتيجي التي قال بها كل من ميجر وبروكس ستتبدد بسرعة.

وهناك تفسير آخر محتمل لتصورات أوروبا المختلفة للتهديدات، وهو أن التنافر الاستراتيجي الأوروبي قد يعكس في الواقع تقييمًا أوروبيًا معقولًا إلى حدٍّ ما للتحديات الأمنية الحقيقية التي تواجهها القارة الأوروبية. لا سيما وأن روسيا لم تعد قوة مهيمنة محتملة مثلما كان الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، كما أن توتر العلاقات الأوروبية الروسية يعود في جزء كبير منه إلى أسباب سياسية أكثر من الأسباب العسكرية. لذلك، فإن الهدف المتمثل في الحفاظ على السلام والاستقرار في أوروبا لن يتم تحقيقه فقط من خلال الجهود الأوروبية الشاملة للاحتواء والتعزيز العسكري المستمر، ولكن من خلال الجهد الجاد لتقليل الشكوك المتبادلة التي نشأت بين روسيا وحلف الناتو منذ أواخر التسعينيات.

فمن خلال العودة إلى أيام الانتصار التي أعقبت الحرب الباردة، أكد القادة الأمريكيون والأوروبيون مرارًا وتكرارًا أن توسع الناتو سيخلق منطقة سلام دائمة في أوروبا الوسطى، وسيحمي الديمقراطيات التي نشأت من رحم الثورات المخملية. كما أكدوا أن التوسع لن يكون موجهًا لروسيا، ومن ثم ليس هناك سبب يدعو موسكو للقلق منه. لكن موسكو رأت الأمور بشكل مختلف منذ البداية. والحقيقة أن التوسع أدى إلى نتائج عكسية؛ فقد أدى (وغيره من الأعمال الاستفزازية الأمريكية) إلى تسميم العلاقات مع روسيا، وساعد على إطلاق الصراعات المجمدة في جورجيا وأوكرانيا. وفي الوقت نفسه، ساعد على تدعيم الاستبداد في كل من المجر وبولندا وتركيا تحت مظلة الناتو الحامية. وبالتالي، لا تمثل استجابة موسكو لسياسات الناتو المفتوحة تجاه الشرق أية مفاجأة، حتى وإن كانت مسؤولة عن بعض الأفعال التي أدت إلى زعزعة الاستقرار الأوروبي. 

في الواقع، فإن ترك الأوروبيين يرسمون مسارهم الخاص ويأخذون زمام المبادرة في إدارة العلاقات مع موسكو من المرجح أن يعمل بشكل أفضل من جهود أمريكا لنشر القيم الليبرالية، وتوسيع نطاق الضمانات الأمنية حتى حدود روسيا. فالأمور تغيرت كثيرًا عن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الوضع الأمني في أوروبا مختلًا في ضوء احتلال الجيش الأحمر لأوروبا الشرقية، لذا كان من الطبيعي أن تتواجد الولايات المتحدة الأمريكية على الجانب الآخر حتى تضمن تحقيق التوازن مع الاتحاد السوفيتي. أما اليوم، فإن أوروبا قد أُعيد بناؤها وازدهرت عن ذي قبل، ولم تعد روسيا كما كانت فهي ظل شاحب للاتحاد السوفيتي السابق. علاوة على وجود قوة جديدة ظهرت كمنافس قوي على الساحة الدولية وهي الصين، وهو ما لا يأخذه كل من ميجر وبروكس بعين الاعتبار.

هذا بالإضافة إلى أنه توجد صيغة يحتمل أن تكون جذابة للتعاون الأمني عبر الأطلسي، وتستند هذه الصيغة إلى توحيد استجابة منسقة للصين وتقسيم جديد للعمل بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. فمع احتدام المنافسة مع الصين، سوف تطلب واشنطن من حلفائها الأوروبيين أن يصطفوا معها في مواجهة الصين. كما ستدفع واشنطن أوروبا لكي تتحمل المزيد من عبء الدفاع عن نفسها حتى تتمكن الولايات المتحدة من توجيه المزيد من الموارد إلى آسيا، مع التأكد في الوقت نفسه من أن تعاملات أوروبا الاقتصادية مع الصين لن تعزز من جهود الصين في المجالات التكنولوجية المتقدمة، لا سيما تلك التي لها تطبيقات عسكرية. على الجانب الآخر، سوف تطلب أوروبا من الولايات المتحدة أن تظل ملتزمة بالدفاع عنها، مع التنسيق في قضايا مثل الحوكمة الرقمية وتغير المناخ. وهنا يكمن الأساس لصفقة جديدة وجيدة عبر المحيط الأطلسي. فإذا وافقت أوروبا على التحالف مع الولايات المتحدة في المنافسة الأمنية الصينية الأمريكية الناشئة، فيمكن لواشنطن أن توافق على ترك بعض القوات الأمريكية في أوروبا وتظل عضوًا نشطًا في الناتو، بما في ذلك تفعيل الالتزام المنصوص عليه في المادة 5 من معاهدة الحلف المتعلقة بالدفاع الجماعي.

ولكن بمرور الوقت، من المتوقع أن يتحمل الأعضاء الأوروبيون في الناتو العبء الرئيسي المتمثل في الحفاظ على توازن القوى الإقليمي، وبالتالي الحد من دور أمريكا في الدفاع عن أوروبا، وليس القضاء عليه. بل من الممكن أن يتولى أحد الأوروبيين دور القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي، ومن ثم لن يلعب الجيش الأمريكي بعد ذلك الدور القيادي في الدفاع عن أوروبا. غير أن أمريكا ستظل شريكًا استراتيجيًا مهمًا لأوروبا.

في الواقع، يجب أن يرحب الأمريكيون بهذه الصيغة الجديدة، ولا سيما في ظل ما تواجهه واشنطن من مطالب باهظة في الداخل والخارج. كما يجب على الأوروبيين أيضًا أن يرحبوا بشراكة أكثر مساواة مع الولايات المتحدة، دون الاعتماد عليها كلية. فهذا الترتيب يعد أفضل خيار متاح لأوروبا، خاصة في ظل تزايد المخاوف الأوروبية من شبح الصين، وفي ظل الحرص كذلك على منع الانسحاب الأمريكي الكامل منها، وهو أفضل خيار لأمريكا أيضًا، لا سيما في ظل جهودها الرامية إلى الحد من قوة الصين ونفوذها. فهذه الجهود سوف تتعزز أكثر وتكتسب دفعة قوية من خلال التنسيق مع أوروبا.

المصدر:

Stephen M. Walt, Exactly How Helpless Is Europe?, Foreign Policy, May 21, 2021.