توجه رئيس الوزراء الصيني، لي تشيانغ، في 19 يونيو 2023، إلى ألمانيا، وذلك في أول زيارة خارجية له منذ توليه منصبه في مارس 2023، ورافقه في هذه الزيارة وفد ضم وزراء صينيين إلى برلين للقاء نظيره الألماني المستشار، أولاف شولتس، والرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، وعدد من المسؤولين بالحكومة الألمانية، وذلك لبحث تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين. وتُعد تلك الزيارة جزءاً من جولة أوروبية لرئيس الوزراء الصيني، تمتد من 18 إلى 23 يونيو 2023، حيث توجه بعدها إلى فرنسا لحضور قمة ميثاق التمويل العالمي الجديد.
أسباب اللقاء الصيني الألماني:
هدفت كل من بكين وبرلين إلى تحقيق عدد من الأهداف من وراء زيارة رئيس الوزراء الصيني، لي تشيانغ، إلى ألمانيا، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تعزيز الاستقلالية الأوروبية: تسعى بعض دول الاتحاد الأوروبي، خاصة ألمانيا، لتعزيز استقلالية سياستها الخارجية عن واشنطن، وذلك في ظل تنامي معدلات التبادل التجاري والاستثمارات بين الجانبين، حيث أصبحت ألمانيا أكبر شريك تجاري للصين في أوروبا، كما أنه، وفقاً للتقديرات الصينية، استثمرت الشركات الألمانية نحو 2.6 مليار دولار في السوق الصينية خلال عام 2022، وتجاوزت الاستثمارات الصينية في ألمانيا 1.6 مليار دولار.
2- استيعاب الخلافات الثنائية: يشوب العلاقات الألمانية الصينية بعض التوترات، مثل تصنيف برلين الصين باعتبارها خصماً ومنافساً في استراتيجية الأمن القومي الأخيرة الصادرة، في يونيو 2023، وهو ما أثار استياءً صينياً، حيث حذّر الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية من أنّ "بناء العلاقات الدولية باعتبار الآخرين منافسين وخصوماً سيسهم في تفاقم حدة الانقسام والمواجهة عالمياً".
ومن جهة أخرى، تتبنى بكين وبرلين موقفاً مغايراً من الصراع الروسي الأوكراني، إلى جانب تحفظ الصين بشأن تقارب الحكومة الألمانية مع تايوان، وهو ما تعده الصين بمثابة تدخل في شؤونها الداخلية وانتهاكاً لمبدأ الصين الواحدة.
3- التنسيق في المصالح المشتركة: تستهدف القمة تعزيز التنسيق بين الصين وألمانيا للحفاظ على المصالح المتبادلة، وذلك بفعل اعتماد برلين على الاستثمارات والصناعات الصينية، خصوصاً في مجال الطاقة المتجددة من جهة، وحاجة الصين لاستعادة انتعاش اقتصادها بالاعتماد على السوق الألمانية من جهة أخرى، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية لتعزيز علاقات بكين بأحد أهم مراكز القوى الأوروبية. وبالتالي، تعكس تحركات الطرفين رغبتهما المتبادلة في الحفاظ على علاقات ثنائية مستقرة.
4- مواجهة السياسات الأمريكية: تكتسب الجولة أهميتها لأنها تأتي في سياق تنامي الخلاف الصيني الأمريكي، والذي تسعى واشنطن لاستقطاب حلفائها الأوروبيين لصفها فيه، بينما تعمل الدول الأوروبية على تبني نهج براغماتي يعزز مصالحها المرتبطة بالصين دون تماهٍ مع الموقف الأمريكي بشكل كامل.
ومن ناحية أخرى، تبنت المفوضية الأوروبية خارطة طريق لتأطير العلاقات الأوروبية الصينية، وفقاً لمنهج يتعلق بإزالة المخاطر على صعيد العلاقات الاقتصادية، وذلك بهدف الحفاظ على العلاقات التعاونية والمصالح المتبادلة، ذات الطبيعة الاقتصادية بالأساس، والحيلولة دون تأثرها بالخلافات الجيوسياسية بين الجانبين.
أبرز الملفات المثارة:
تباحث الطرفان بشأن العديد من القضايا المشتركة والملفات العالقة، ولعل أبرز ما تناولته أجندة تلك القمة وما خلصت إليه من مخرجات، يتمثل في التالي:
1- مناقشة الحرب الروسية الأوكرانية: أكدت ألمانيا أهمية الدور والنفوذ الصيني لإنهاء الحرب في أوكرانيا بالتعويل على دورها التفاوضي ودورها كوسيط يمكنه الضغط على حليفها الروسي، وكذلك دورها المستقبلي في عمليات السلام وإعادة الإعمار. ومن الملاحظ أن الدول الأوروبية تسعى إلى محاولة التضخيم من الدور الصيني في هذا الإطار، خاصة وأن بكين لا تمتلك النفوذ الكافي للضغط على موسكو، أو حتى المصلحة الاستراتيجية للقيام بذلك، خاصة وأن أي هزيمة للغرب في أوكرانيا، سوف تسهم في تعزيز بكين لسيطرتها على تايوان.
2- رفض ضم الصين لتايوان بالقوة: أكد شولتس أنه حذر الصين من استخدام القوة، وأكد رفض كل المحاولات أحادية الجانب لتغيير الوضع الراهن في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وخاصة ضد تايوان، وإن كان ذلك لا يتنافى مع تأكيد برلين التزامها بسياسة صين واحدة. ويتماهى شولتس في ذلك مع الموقف الأمريكي.
3- تعزيز التعاون الاقتصادي: يُعد أحد أهم المخرجات التي خلصت إليها القمة هو الاتفاق على رفع مستوى التعاون الثنائي والصداقة إلى مستوى أعلى وأعمق. وقد تم توقيع عدد من اتفاقيات التعاون، إلى جانب التباحث بشأن إقامة شراكة في مشاريع التنمية الخضراء، وتأكيد أهمية التعاون والتواصل مع الصين لمواجهة التحديات العالمية.
وشهدت القمة كذلك انعقاداً لاجتماع صيني مع ممثلي مجتمع الأعمال الألماني، لبحث سبل تعميق التفاهم وتبادل الاستثمارات، وتجاوز الصعوبات والتحديات على صعيد الشركات والقطاع الخاص، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي والتنمية الخضراء.
ومن جهة أخرى، أكدت برلين عدم تهديد ألمانيا للمصالح الصينية عند توجهها لبناء علاقات تجارية متوازنة وشراكات متنوعة لتقليص الاعتماد على الصين. ومن جانبها، أبدت الصين قلقها من هذا التوجه، حيث دعت إلى عدم استخدام سياسة تقليل المخاطر كغطاء لممارسة سياسات تمييزية ضدّ الصين، وكذلك تجنب العمل على عرقلة إشراك الصين في التجارة الدولية.
وتؤكد الصين أن أكبر تهديد يواجه العالم هو انعدام الأمن، وليس صعودها، أو تنامي الاعتماد على اقتصادها. كما تمت الدعوة لتعزيز دور اللجنة الاستشارية الاقتصادية الصينية الألمانية وغيرها من الآليات الرامية نحو تعزيز التعاون المشترك وحلحلة الخلافات.
4- انتقاد وضع الحريات في الصين: لم يغب عن ألمانيا انتقاد السياسات الصينية المقيدة للحقوق والحريات، خاصة انتهاك حقوق الأقليات وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان، فضلاً عن تعبير المستشار الألماني عن أسفه لرفض نظيره الصيني طرح الصحافيين للأسئلة خلال المؤتمر الصحفي المشترك، ودعاه لتعزيز حرية الصحافة، وهو ما يتماهى مع الموقف الأمريكي، خاصة مع انتقاد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، لسجل حقوق الإنسان أثناء زيارته إلى بكين في يونيو 2023.
5- التعاون في مجال التحول المناخي: اتفق الطرفان على أن يصبحا شريكين صديقين للبيئة وأن يتوليا معاً مسؤولية مواجهة خطر المناخ، وتسريع الانتقال نحو اقتصاد صديق للبيئة، إلى جانب إطلاق حوار دبلوماسي مشترك لتعزيز تلك الجهود وتبادل الخبرات في هذا الصدد. ووقعت الدولتان مذكرة تفاهم حول "آلية الحوار والتعاون بشأن تغير المناخ والتحول الأخضر" لتعزيز التعاون في هذا المجال مستقبلاً.
مواصلة العلاقات الاقتصادية:
كشفت تلك الزيارة عن عدد من الدلالات، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- تبديد مخاوف التقارب مع الصين: تسعى الصين إلى توظيف الزيارة لتعزيز التعاون مع ألمانيا في المجال الاقتصادي، وذلك مع تحجيم تأثير الخلافات الجيوسياسية بين الجانبين، وكذلك الضغط على الدول الأوروبية لعدم المبالغة في التركيز على التهديدات النابعة من الصين، والتي تسعى واشنطن لإثارة المخاوف حيالها في القارة الأوروبية.
وتسعى بكين كذلك إلى إضعاف الجهود الأمريكية الرامية إلى الحد من العولمة عبر توظيف سياسات حمائية باستخدام ذريعة حماية الأمن القومي، وذلك لمنع الصين من الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، أو الحد من نفاذها إلى الأسواق الغربية.
2- ضمان برلين التعاون مع الصين: تدرك برلين أنه لا يمكنها في الوقت الحالي التأثير سلباً في علاقاتها الاقتصادية مع الصين، خاصة بعدما أدت العقوبات الغربية ضد روسيا إلى تأثيرات شديدة السلبية على الاقتصاد الألماني. ولذلك تسعى برلين إلى الموازنة بين مصالحها الاقتصادية مع بكين، ومصالحها الجيوسياسية مع واشنطن، باعتبارها جزءاً من المعسكر الغربي. وقد تبنت برلين، حتى الآن، سياسة قوامها انتقاد الصين، وتبني مواقف دبلوماسية مناوئة لموقفها من روسيا وتايوان، ولكن دون أن تقوم بترجمة ذلك في سياسات أكثر تصعيداً.
3- انتقادات حادة في الداخل الألماني: لاقت تلك الزيارة موجة من الانتقادات من داخل ألمانيا، حيث انتقد رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي المعارض انعقاد المشاورات مع الصين في ظل الافتقار لوجود نهج واضح لتعزيز المصالح الألمانية في مواجهة الصين، بل امتدت الانتقادات لتشمل الأحزاب داخل الائتلاف الحاكم، والتي عارضت توقيت الزيارة باعتبارها ستؤدي لرسائل خاطئة لتأييد نهج وسياسات الصين.
كما عارض حزب الخضر وجود مثل تلك المشاورات مع دولة غير صديقة ولها سياسات وقيم مغايرة لألمانيا، فضلاً عن تخوف بعض التيارات السياسية الألمانية من تنامي الهيمنة والنفوذ الصيني داخل الاقتصاد الألماني بشكل عام، مثل استحواذ شركة كوسكو الصينية على 25% من أحد مرافق ميناء هامبورغ.
4- محورية دور رجال الأعمال الألمان: على الرغم من الانتقادات السابقة، فإنه لا يتوقع أن يكون لهذه المواقف تأثير كبير في العلاقات الاقتصادية الصينية الألمانية، ليس فقط لأن الحكومة الألمانية حسمت موقفها بدعم التعاون الاقتصادي مع الصين، ولكن بفعل وجود مصلحة قوية لرجال الأعمال الألمان في الحفاظ على التعاون الاقتصادي مع الصين، الأمر الذي سيجعلهم قوة ستضغط على الحكومة الألمانية للحيلولة دون فك ارتباط الاقتصادين، بل من المتوقع أن يسهم ذلك التنسيق في توسيع الاستثمارات الألمانية في الصين من أجل تجنب سيناريو الركود.
وليس أدل على حرص رجال الأعمال على علاقاتهم الاقتصادية مع بكين، من اتجاههم لتقسيم شركاتهم الكبرى إلى وحدتين تجاريتين منفصلتين، واحدة منهما تعمل في الصين، والأخرى في بقية أنحاء العالم، وذلك لضمان استمرار الانخراط في السوق الصينية دون التعرض للعقوبات الغربية المحتملة في حال تفاقم الخلاف بين الولايات المتحدة والصين. ومن جهة أخرى، ونظراً للثقل الذي تتمتع به برلين في الاتحاد الأوروبي، فإنه من المتوقع أن تتجه دول أوروبا الغربية إلى تعزيز تعاونها الاقتصادي هي الأخرى مع الصين.
وفي الختام، تُعد القمة الألمانية الصينية الأخيرة بمثابة خريطة طريق للعلاقات المستقبلية بين البلدين، والتي يبدو أنها ستقوم على تعزيز التعاون في المجال الاقتصادي، مع الإبقاء على الخلافات الجيوسياسية بين الجانبين، سواءً فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، أو الأزمة التايوانية، في حدودها الدنيا، وذلك ارتباطاً بأن الاقتصاد الألماني غير قادر على المغامرة بعلاقاته مع بكين، خاصة بعدما تضررت برلين من العقوبات الغربية ضد روسيا. ويتوقع أن تتجه الدول الأوروبية هي الأخرى لانتهاج مسار مشابه.