قام الجيش الأميركي، بأوامر من الرئيس، جو بايدن، بشن غارات جوية، في 23 أغسطس 2022، ضد بنى تحتية تستخدمها مجموعات تابعة للحرس الثوري الإيراني في محافظة دير الزور بشرق سورية، وهي الهجمات، التي تأتي رداً على الهجوم الذي نفذته ميليشيات إيران، في 15 أغسطس الماضي، على قاعدة أميركية في حقل العمر النفطي وحقل «الكونيكو» للغاز الطبيعي في سورية. وردت إيران، على ما يبدو، من خلال شن هجوم صاروخي آخر ضد القاعدة الأميركية في حقل العمر في الثالث من سبتمبر الجاري، وهو ما أدى إلى سماع دوي انفجارات وتصاعد ألسنة النار.
دوافع الضربات الأميركية
ثمة أسباب وراء إقدام واشنطن على هذا التصعيد الذي نفذته ضد مواقع مرتبطة بإيران في سورية، ويمكن تناولها فيما يلي:
كبح تهديدات ميليشيات إيران
رغبت واشنطن، جراء هذه الضربات، في إيصال رسالة لطهران مفادها بأن واشنطن لا يمكنها أن تظل صامتة إزاء التهديدات التي تطال قواتها ومصالحها في المنطقة، خصوصاً بعدما اتجهت الميليشيات المرتبطة بإيران في سورية إلى تصعيد هجماتها، إذ قامت تلك المجموعات، في 15 أغسطس الجاري، بمهاجمة قاعدة «التنف» السورية، والتي توجد بها قوات أمريكية، بثلاث طائرات مسيرة، وهو ما أعقبه، بخمسة أيام، هجوم صاروخي آخر على منطقة حقل العمر النفطي، والتي تضم أكبر قواعد التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، من دون وقوع خسائر بشرية.
لذا قامت القوات الأميركية بتوجيه ضربات متتالية ضد أهداف مرتبطة بطهران في دير الزور، حيث استهدفت تسعة مخابئ ذخيرة من أصل 11 مخزناً في المنطقة، وتُشير التقديرات إلى أن تلك المستودعات، والتي تسيطر عليها ميليشيات «فاطميون» و«زينبيون» وتُدعى «مستودعات عياش»، تمثل نقطة ارتكاز مهمة في عملية إمداد الميليشيات بالذخيرة في سورية والمنطقة بأسرها.
وتسعى واشنطن من هذه الهجمات إلى التأكيد لإيران بأن قيامها باستهداف القواعد الأميركية رداً على استهداف إسرائيل قواعد إيرانية في سورية سوف يدفع واشنطن إلى التعاون مع تل أبيب لاستهداف الميليشيات الإيرانية والمخابئ التابعة لها في سورية. ومن ثم، فإن إيران لن تفشل فقط في ردع إسرائيل عن مهاجمتها، بل إنها سوف تضيف إليها عبء هجمات القوات الأميركية ضد ميليشياتها.
تعزيز الموقف التفاوضي الأميركي
جاء التصعيد الأميركي ضد إيران في سورية، في اليوم ذاته، الذي أعلنت فيه واشنطن تسليمها الرد على ملاحظات إيران حول المسودة المقترحة من جانب الوسيط الأوروبي لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، بما يعني الرغبة في الضغط على إيران للقبول بالرد الأميركي، والكف عن التقدم بمطالب جديدة في المفاوضات.
ومن جانب آخر، تسعى واشنطن إلى حرمان إيران من استخدام ميليشياتها في سورية، ورقةَ ضغط ضد واشنطن في المفاوضات. كما تهدف واشنطن من هذه الضربات إلى التأكيد على استمرار دورها في الرد على التهديدات الإيرانية في المنطقة، حتى في حال تم التوصل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، أي الفصل بين مسار التفاوض مع طهران، وبين مواجهة تهديداتها.
احتواء الضغوط الداخلية
بدا واضحاً أن الضربات الأميركية تستهدف استيعاب الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها الإدارة الأميركية داخلياً، سواء من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، وذلك نتيجة لما يرونه تخاذلاً من جانب البيت الأبيض بشأن التعامل مع إيران في المفاوضات، لاسيما في الوقت الذي تقترب فيه انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، وسط مؤشرات متزايدة بانخفاض شعبية الرئيس بايدن والديمقراطيين.
طمأنة الجانب الإسرائيلي
تتماهى الضربات الأميركية، مع تكثيف تل أبيب لغاراتها الجوية على مقرّات ومستودعات للأسلحة والذخائر التابعة للميليشيات الإيرانية في سورية، وهو ما تكرر في 14 و22 أغسطس 2022، في مناطق بريف دمشق وحماة وطرطوس، وهو ما يحمل رسائل طمأنة بالتزام الولايات المتحدة بالتنسيق والتعاون مع إسرائيل لمواجهة تهديدات تلك الميليشيات.
كما يمكن تفسير ذلك التصعيد من جانب واشنطن، بأنه محاولة لاسترضاء الجانب الإسرائيلي، والذي يبدي معارضة لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، إذ وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، الاتفاق الحالي بأنه سيئ، ولا يلائم المعايير التي حددها الرئيس بايدن نفسه، لمنع إيران من التحول لدولة نووية.
وأرسل لابيد إلى واشنطن، خلال الأسبوعين الماضيين، كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين الإسرائيليين في ثلاث زيارات متعاقبة، وهم مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، إيال حولاتا، ووزير الدفاع الإسرائيلي، بيني جانتس، ورئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية، ديفيد برنياع، وذلك بهدف إثناء واشنطن عن توقيع اتفاق كهذا مع إيران، وتطوير «خيار عسكري ذي مصداقية» للتعامل مع تهديدات إيران.
أبعاد الرد الإيراني
على الرغم من نفي إيران أي صلة لها بالأهداف التي ضربتها واشنطن في سورية، فإن تتبع ما قامت به إيران عقب تلك الهجمات، يؤكد أنها سوف تتجه إلى مواصلة التصعيد، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
إجراء مناورات للطائرات المسيرة
أعلنت إيران، في اليوم التالي للهجمات الأميركية، عن بدء مناورات واسعة، بمشاركة القوى الأربع للجيش الإيراني، للمرة الأولى، وأكثر من 150 طائرة مسيرة، على امتداد البلاد، ومن دون تحديد موعد انتهاء لها، مشيرة إلى أن الهدف من إجراء تلك المناورات هو محاكاة استهداف مراكز قيادة «العدو» ومراكز الدعم اللوجستي وأنظمة الصواريخ والرادارات.
»ويكشف ذلك أن تلك المناورات جاءت رداً على المواجهة بين واشنطن وطهران في سورية، وهي المواجهة التي تحتل فيها «الطائرات المسيرة الإيرانية مكانة خاصة، إذ تمت مهاجمة قاعدة التنف الأمريكية، باستخدام هذه المسيّرات.
كما تكتسب هذه المناورة أهميتها، بالنظر إلى أنها رد من جانب إيران على المناورات التي قامت الولايات المتحدة وإسرائيل بتنفيذها في البحر الأحمر، لمحاكاة توجيه ضربات إلى إيران في البحر والجو، فضلاً عن اختراق طائرات إسرائيلية من طراز «إف – 35» للمجال الجوي الإيراني، خلال الشهرين الأخيرين. ولذا سعت إيران إلى استعراض قوتها من خلال الكشف عن أحدث طائراتها المسيرة بتلك المناورة، مثل «كروز أبابيل»، في محاولة لردع واشنطن وإسرائيل عن مهاجمتها.
تهديد المصالح الأميركية في الخليج
قامت القوات البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، في أعقاب الهجوم الأميركي الأخير ضد المجموعات التابعة لها في سورية، بالاستيلاء على سفينة وطائرة من دون طيار تابعتين للأسطول الخامس الأميركي في مياه الخليج، يومي 29 و30 أغسطس، قبل الإفراج عنهما لاحقاً، وإن قامت إيران بنزع الكاميرات منهما، وهو ما يؤشر إلى سعي إيران لتطوير قدراتها في التصوير والمراقبة من خلال الاستيلاء على الكاميرات الأمريكية، ومحاولة تطوير نماذج مماثلة لها.
استمرار التصعيد النووي
أظهر تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 30 أغسطس 2022، أن إيران بدأت تخصيب اليورانيوم باستخدام واحدة من ثلاث مجموعات من أجهزة الطرد المركزي المتطورة «آي آر 6» بمحطة تخصيب اليورانيوم في «نطنز»، الأمر الذي يحمل دلالة لافتة، خصوصاً مع تزامنه مع التوقيت الحساس الذي تمر به المفاوضات النووية بين إيران وواشنطن.
ويعني هذا تجاهل إيران لمطالب واشنطن والغرب بالإسراع في العودة للالتزامات النووية، وهو الأمر الذي يصعّب من فرص التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، خصوصاً في ظل إعلان الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في 30 أغسطس الجاري، أن الاتفاق النووي مرهون بإنهاء تحقيق الوكالة الذرية للطاقة النووية حول آثار اليورانيوم المخصب في ثلاثة مواقع غير معلنة في إيران، والحصول على الضمانات بعدم انسحاب واشنطن مجدداً من الاتفاق، والرفع الكامل لجميع العقوبات المفروضة على إيران، والتحقق العملي والموضوعي من ذلك، وهو ما يؤشر إلى استمرار تشدد إيران في المفاوضات، ومن ثم إطالة أمدها.
استهداف حقل العمر مجدداً
قامت إيران، في الثالث من سبتمبر، باستهداف المنطقة الخضراء في حقل عمر، وهي المدينة السكنية الملحقة بالحقل النفطي ويتخذها الجيش الأميركي مقراً لسكن جنوده وضباطه، وهو الهجوم الذي أسفر عن وقوع انفجارات وتصاعد دخان من القاعدة. وكشفت مصادر صحافية أن سيارات الإسعاف هرعت إلى المنطقة الخضراء، في مؤشر على احتمالية وجود ضحايا جراء الهجوم.
وتكشف الهجمات الإيرانية الأخيرة الموجهة ضد القاعدة عن أن إيران لا تبالي بإسقاط قتلى من القوات الأميركية في القاعدة، وهو ما يعكس تصعيداً من جانب إيران ضد الولايات المتحدة.
وفي الختام، يمكن القول إن واشنطن وطهران ستستمران في نهج التصعيد خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً في ضوء تعثر المفاوضات النووية، على خلفية إصرار إيران على مطالبها، وعدم تغيير موقفها بشأن القضايا الرئيسة الخلافية، مع دخول العامل الإسرائيلي بقوة على خط المواجهة بين الطرفين.
رغبت واشنطن، جراء هذه الضربات، في إيصال رسالة لطهران مفادها بأن واشنطن لا يمكنها أن تظل صامتة إزاء التهديدات التي تطال قواتها ومصالحها في المنطقة، خصوصاً بعدما اتجهت الميليشيات المرتبطة بإيران في سورية إلى تصعيد هجماتها.
جاء التصعيد الأميركي ضد إيران في سورية، في اليوم ذاته، الذي أعلنت فيه واشنطن تسليمها الرد على ملاحظات إيران حول المسودة المقترحة من جانب الوسيط الأوروبي لإحياء الاتفاق النووي