أعلن رئيس حكومة الاستقرار الوطني الليبية، فتحي باشاغا، في 4 مايو 2022، عن استعداد حكومته لمباشرة مهامها من خارج العاصمة طرابلس، مشيراً إلى إمكانية اتخاذ حكومته من سرت، بوسط ليبيا، مقراً لها. كما ألمح باشاغا إلى أن حكومته لن تستخدم القوة في دخول طرابلس، لكنها ستدخلها بشكل قانوني وسلمي في وقت لاحق، متهماً حكومة الوحدة الوطنية المقالة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بأنها تسعى إلى دفع البلاد نحو حرب أهلية جديدة.
حراك مكثف لباشاغا:
تأتي تصريحات رئيس الحكومة الليبية، فتحي باشاغا، بشأن اتجاه حكومته لممارسة مهامها من خارج طرابلس بالتوازي مع تحركات قام بها باشاغا خلال الأيام الأخيرة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- زيارة غير معلنة لتركيا: أشارت العديد من التقارير إلى أن باشاغا قام بزيارة غير معلنة إلى تركيا، في 29 أبريل الماضي، على رأس وفد رفيع المستوى من قبل حكومته، حيث التقى في أنقرة بكل من رئيس جهاز المخابرات التركية، هاكان فيدان، وكذا مستشار الرئيس التركي للأمن القومي، إبراهيم كالين، وهي الزيارة الأولى لباشاغا لتركيا منذ تكليفه من قبل البرلمان الليبي بتشكيل الحكومة في مارس الماضي.
2- دعم مزعوم لبريطانيا ضد روسيا: نشرت صحيفة "ذا التايمز" البريطانية، مقالاً نسبته إلى باشاغا تضمن دعماً للموقف البريطاني ضد التحركات الروسية الراهنة في أوكرانيا، ومستنكراً وجود آلاف من عناصر فاجنر الروسية في الداخل الليبي.
كما أشار المقال المنسوب لباشاغا إلى أن لندن تعد حليفاً رئيسياً لطرابلس وأن الأخيرة تحتاج إلى دعم بريطانيا لإخراج المرتزقة الأجانب من ليبيا، مع استعداد طرابلس لمساعدة الغرب في تقليل اعتمادهم على الطاقة الروسية.
ونفى باشاغا صلته بهذا المقال، مطالباً الصحيفة بتحري الدقة لتفادي التورط في نشر مقالات مكذوبة، لكن الصحيفة البريطانية عمدت إلى تأكيد تمسكها بما نشر فيما يتعلق بالمقال المنسوب لفتحي باشاغا، مشيرةً إلى أن فريق الأخير أكد للصحيفة دقته.
3- الدعوة لحوار وطني شامل: أطلق باشاغا مبادرة لعقد حوار وطني شامل، تتضمن الأطراف كافة في الداخل الليبي، وذلك في إطار المصالحة الوطنية. وألمح باشاغا إلى أن حكومته لا تمانع في الجلوس مع أي طرف يعتقد أن حكومته أتت ضدها أو لمحاربتها. ولم يعبر الدبيبة، عن أي موقف إزاء مبادرة باشاغا، مما يثير شكوكاً بشأن احتمالات نجاحها.
كما وجه باشاغا رسائل مباشرة للمجموعات المسلحة الليبية، معبراً عن تفهمه لمخاوفهم ودورهم في تحمل المسؤولية الأمنية، داعياً إياهم إلى التوافق من أجل بناء الدولة في مؤشر على سعيه لاستمالتهم إلى جانبه.
دلالات مهمة:
عكست تحركات باشاغا جملة من الدلالات حول ملامح المشهد الراهن في الداخل الليبي، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- توسيع باشاغا دعمه الداخلي: يكشف اتجاه باشاغا لمباشرة مهام حكومته من خارج طرابلس محاولته كسب مزيد من الدعم الداخلي، وهو ما انعكس في تلويحه بإمكانية اتخاذ سرت مقراً لحكومته وليس طبرق، بحيث يتبنى نهجاً حيادياً يمكن من خلاله كسب الأطراف كافة، وإزالة القلق لدى بعض الأطراف التي تحمل توجساً إزاء باشاغا باعتباره يمثل أطرافاً معينة.
2- السعي لفرض أمر واقع: أشارت بعض التقديرات إلى أن إقدام باشاغا على ممارسة مهام حكومته من سرت ربما يستهدف فرض أمر واقع يعطيه أرضية صلبة يستطيع من خلالها تحقيق التوازن والتحرك بمرونة أكبر. كما أن باشاغا يسعى من خلال هذه الخطوة إلى تأجيل عملية دخوله العاصمة لحين الحصول على دعم دولي وإقليمي كامل يسهل عليه هذه الخطوة، في ظل انشغال الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بالحرب الأوكرانية وانعكاساتها المتشابكة عليهم، الأمر الذي جعل من الأزمة الليبية ملفاً ثانوياً على أجندة هذه القوى.
ومن ناحية أخرى، يمثل اختيار باشاغا مدينة سرت مقراً لحكومته توافقاً مع الرؤية الأمريكية التي كانت قد اقترحت هذا الأمر في نهاية عام 2020 عندما كانت المبعوثة الأممية في ذلك الوقت، ستيفاني وليامز، تقود جهود ملتقى الحوار الوطني، الذي أفرز فيما بعد حكومة الوحدة الوطنية، وبالتالي يرجح أن تلاقي هذه الخطوة دعماً غربياً.
3- انتظار مخرجات اجتماعات القاهرة: أعلنت المستشارة الأممية، ستيفاني ويليامز، في 6 مايو الجاري، عن أن اجتماعات القاهرة بين مجلسي النواب والدولة سيتم استئنافها في 15 من الشهر الجاري، وذلك بعد الاجتماع الذي عقدته ويليامز مع رئيس مجلس الأعلى للدولة، خالد المشري.
ويمكن أن تفتح عودة هذه الاجتماعات المجال أمام إمكانية التوصل إلى تفاهمات تعيد حالة التوافق بين المجلسين، الأمر الذي ستكون له انعكاسات مهمة على حسم الصراعات السياسية الراهنة بين الحكومتين المنقسمتين.
4- محاولة استمالة الموقف التركي: تحدثت بعض التقارير عن وجود توجهات قوية داخل الحكومة التركية تميل للتخلي عن الدبيبة لصالح باشاغا. وألمحت هذه التقارير إلى أن ثمة حالة من عدم الارتياح لدى صانع القرار في أنقرة إزاء الخط المتشدد الذي يتبناه الدبيبة، وربما يدعم صدقية هذه التقارير زيارة باشاغا الأخيرة إلى تركيا، خاصةً أنها اتسمت بالتكتم الشديد، كما أن التقارب التركي – المصري ربما يسرع من حسم الموقف التركي في ليبيا.
وعلى الرغم من تكرار التقارير الدولية التي أشارت للفكرة ذاتها خلال الأسابيع الأخيرة، بيد أن الموقف الراهن يعكس حالة من الترقب الحذر في الموقف التركي قبل اتخاذ موقف رسمي واضح حيال دعم أي من الرجلين، باشاغا أم الدبيبة.
خلط الأوراق من جديد:
يبدو أن هناك عدة انعكاسات يمكن أن تتمخض التطورات الأخيرة في الملف الليبي، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- التأثير على تحالفات باشاغا: أثار المقال المنسوب لباشاغا في "ذا التايمز" البريطانية العديد من ردود الأفعال الغاضبة في الداخل الليبي، خاصة المعسكر الشرقي الداعم لباشاغا، حيث عبرت العديد من الآراء عن اعتراضها على سياسته الخارجية في التعامل مع تحالفات ليبيا التقليدية، وفي مقدمتها روسيا، إذ شككت الكتابات المحلية القريبة من مراكز القوة في الشرق الليبي في تشاور باشاغا مع حلفائه الداخليين قبل كتابة المقال المنسوب إليه.
كما عبّرت بعض الآراء الأخرى عن انتقادها لما جاء في المقال من ادعاءات باعتماد الجيش الوطني الليبي على عناصر فاجنر منذ عام 2014. وألمحت بعض هذه الكتابات إلى احتمالية أن تؤثر آراء باشاغا على مدى تماسك المحور الداعم له في الداخل، وهو ما قد يعمد الدبيبة إلى استغلاله للخصم من نفوذ باشاغا الداخلي.
2- عودة سيناريو الحكومتين: تعتبر عودة سيناريو الحكومتين مطروحاً بقوة، بل وربما بات هو الأكثر ترجيحاً خلال الفترة المقبلة، في ظل الانشغال الغربي والدولي بالأزمة الأوكرانية، وتعثر محاولات باشاغا لدخول طرابلس بطرق سلمية حتى الآن، بيد أن هذه التقديرات أشارت إلى أن حكومة باشاغا لن تكون تكراراً لحكومة عبد الله الثني الموازية لحكومة الوفاق، إذ إن حكومة الثني لم تكن تحظى بأي اعتراف دولي على عكس حكومة باشاغا التي تحظى بدعم عدد من القوى الإقليمية والدولية.
3- معضلة ميزانية حكومة باشاغا: سيقوم مجلس النواب الليبي بمناقشة مشروع الموازنة العامة التي تقدمت بها حكومة باشاغا، وذلك خلال جلسته المقبلة في 9 مايو الجاري. ويرجح إقرار البرلمان لهذا المشروع، حتى وإن شهدت بعض التعديلات المقترحة، غير أن ذلك ستنتج عنه إشكالية أخرى تتعلق بمدى التزام مصرف ليبيا المركزي بصرف هذه الموازنة لحكومة باشاغا، والتزامه بقرار مجلس النواب حال إقرارها، إذ أن التزامه بها سيتطلب وقف صرف الأموال لحكومة الدبيبة، وبالتالي ستزداد الأمور تعقيداً بالنسبة للأخير حال تحقق هذا السيناريو.
ومن المرجح أن يرفض المصرف الليبي المركزي صرف الميزانية لحكومة باشاغا حال أقرها البرلمان، في ظل العلاقات الوثيقة التي تربط بين محافظ المصرف المركزي، الصادق الكبير، والدبيبة، الأمر الذي سيفرز إشكالية معقدة بالنسبة لباشاغا وسيؤثر على نفوذها.
4- تعزيز الدبيبة سيطرته على ميليشيات طرابلس: تتبنى مدينة مصراتة، ذات الثقل الأكبر في الغرب الليبي، سياسة الحياد إزاء الانقسامات السياسية الراهنة، وإن تقاربت نسبياً من باشاغا. ولذلك سعى الدبيبة خلال الأسابيع الأخيرة إلى تعبئة دعم ميليشيات طرابلس، واستقدام عدد من قيادات التيارات المتشددة إلى الداخل الليبي، على غرار عودة عبدالحكيم بلحاج، والذي عقد في 8 مايو الجاري اجتماعاً مع مفتي ليبيا المعزول، صادق الغرياني، في مؤشر مهم بشأن اتجاه الدبيبة لنسج تحالفات مع التيارات المتطرفة.
كما تداولت العديد من المواقع الإخبارية وثيقة مسربة لعبد الحميد الدبيبة، تضمنت مقترحاً بتشكيل مركز قيادة وسيطرة وعمليات تتضمن الأجهزة الأمنية كافة وتتلقى أوامرها من الدبيبة باعتباره وزيراً للدفاع.
وفي الختام، بات الملف الليبي مفتوحاً أمام عدة سيناريوهات، فبينما تطرح بعض التقارير احتمالية تصعيد الضغط الدولي لعقد مباحثات ثنائية بين باشاغا والدبيبة ينتهي بالتوصل إلى توافقات تعالج الانقسام الراهن، أشارت تقرير أخرى إلى احتمالية إقدام القوى الدولية على الاعتراف بحكومة باشاغا. كما لم يعد سيناريو عودة المواجهات المسلحة أمراً مستبعداً، خاصة في ضوء تحركات الدبيبة الأخيرة.