خلال جولة التفاوض الثانية بين الجانبين الروسي والأوكراني في 3 مارس 2022، وبعد مرور نحو 8 أيام على بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا؛ تم التوافق على إقامة ممرات إنسانية من وإلى المدن التي تتعرض للحصار، على أن يرافق عمليات الإجلاء وقف مؤقت لإطلاق النار. وفيما اعتبرت موسكو أن ما تم الاتفاق عليه يمثل تقدماً كبيراً، وجد الطرف الأوكراني أنه لم يصل إلى الحد الذي كان منتظراً، بحيث تم تأجيل التوسع في التفاصيل إلى جولات التفاوض اللاحقة. ويبدو أن حسابات الجغرافيا السياسية ستكون محدداً رئيسياً لمدى تفعيل الممرات الإنسانية لحماية المدنيين في الحرب الراهنة.
إدارة الممرات الآمنة:
بعد جولات متعددة من التفاوض بين روسيا وأوكرانيا، ومع ارتفاع عدد المدن الأوكرانية المُحاصرة وتزايد معاناة سكانها بعد الاقتراب من شهر من القتال؛ يمكن الملاحظة أن إدارة الممرات الإنسانية في أوكرانيا تتم عبر الخطوات التالية:
1- تحديد الممرات والتوافق عليها: قامت وزارة الدفاع الروسية، في 6 مارس 2022، بالإعلان، عبر بيان صادر عنها، عن فتح 6 ممرات آمنة، هي:
- ممر من العاصمة كييف إلى مدينة غوميل في بيلاروسيا.
- ممر من مدينة خاركيف باتجاه مدينة بيلغورود في روسيا.
- ممران من مدينة سومي، أحدهما يتجه نحو مدينة بيلغورود الروسية، والثاني نحو مدينة بولتافا الأوكرانية.
- ممران من مدينة ماريوبول، أحدهما يتجه نحو مدينة روستوف الروسية، والآخر يتجه نحو مدينة زاباروجيا الأوكرانية.
وحددت وزارة الدفاع الروسية الساعة العاشرة من صباح يوم 7 مارس كموعد لتنفيذ وقف مؤقت لإطلاق النار، من أجل البدء في عمليات إخلاء المدنيين والجرحى. وجاءت إقامة هذه الممرات استجابة لطلب شخصي من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عبر الاتصال الهاتفي مع نظيره الروسي، بوتين، في اليوم السابق. وأعلنت موسكو أنها أرسلت خرائط هذه الممرات إلى الأمم المتحدة والمنظمة الدولية للصليب الأحمر والحكومة الأوكرانية.
ولم يتأخر الرد الأوكراني، حيث اعتبرت نائبة رئيس الوزراء، إيرينا فيريشوك، يوم 7 مارس الجاري، أن إيصال بعض الممرات إلى روسيا وبيلاروسيا أمر غير مقبول. ولاحقاً، أعلن مستشار الرئيس الأوكراني، ميخايلو بودولياك، أن حكومة بلاده توافق على الممر الآمن الذي يصل مدينة سومي بمدينة بولتافا.
2- الهدنة أو الوقف المؤقت لإطلاق النار: دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، يوم 6 مارس 222، إلى ضرورة الاتفاق على وقف مؤقت لإطلاق النار بين جميع الأطراف من أجل السماح للمدنيين العالقين في مناطق القتال بالخروج منها. وباءت أولى عمليات إخلاء المدنيين بالفشل نتيجة عدم الالتزام بسريان الهدنة، حيث تبادل الجانبان الروسي والأوكراني، يومي 6 و7 مارس، الاتهامات بشأن خرق الهدنة في مدينة ماريوبول، حيث اتهمت كييف روسيا باستمرار عمليات إسقاط القذائف بمحاذاة الممر الآمن، فيما اعتبرت موسكو أن مجموعات من القوميين الأوكرانيين قاموا بإطلاق الرصاص على المغادرين بغية ترويعهم ومنعهم من مغادرة المدينة.
ومما زاد تعقيد الأمور أن البيان الصادر عن وزارة الدفاع الروسية حدد الساعة العاشرة من صباح يوم 7 مارس 2022 كموعد لبدء تنفيذ الهدنة، من دون التوضيح إذا كان المقصود التوقيت الأوكراني أو الروسي، كما أن البيان لم يحدد توقيت انتهاء هذه الهدنة.
3- إشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر: تضطلع اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأدوار متعددة تدخل في صميم إنشاء والإشراف على استمرارية الممرات الآمنة، وهي كالتالي:
أ- قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالاتصال بالأطراف المتحاربة منذ اللحظات الأولى لاندلاع النزاع المسلح، عبر رئيسها بيتر ماورير الذي حض الحكومتين الروسية والأوكرانية على ضرورة الاتفاق المُبكر في إنشاء الممرات الإنسانية الآمنة، والعمل الجاد على إخلاء المدنيين من أماكن القتال.
ب- قامت اللجنة لاحقاً بنشر عاملين لديها في المناطق التي تم الاتفاق على أن تُقام فيها ممرات آمنة، للإشراف على عمليات الإجلاء عبر الحافلات أو المركبات الآلية.
ج- تقوم اللجنة بمراقبة مدى التزام كل من الأطراف المتحاربة بمواعيد وقف إطلاق النار، وفي حال تم خرق هذه الالتزامات يقوم فريق عمل اللجنة بالتواصل مع قيادته التي تبلغ الأطراف غير الملتزمة وتحثها على معاودة الالتزام بهدف تأمين عملية خروج المدنيين.
د- تقوم الفرق التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر بتسيير المواكب الإنسانية، واستلام المساعدات وتوزيعها، متسلحة بالحصانة التي يكفلها لها القانون الدولي الانساني.
ويُذكر أن رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ماورير، قام بزيارة إلى كييف في 16 مارس 2022، والتقى خلالها رئيس الوزراء الأوكراني، دنيس سشميهال، ونائبته، إيرينا فيريشوك، ووزيري الدفاع والبنى التحتية؛ في مسعى لتخفيف العراقيل أمام وصول المساعدات الإنسانية، وللبحث في مصير المدنيين الذين مازالوا عالقين في مناطق يصعب الوصول إليها بالقرب من جبهات القتال.
أهداف إنسانية:
تتمثل أبرز أهداف إقامة ممرات آمنة في أوكرانيا بالتزامن مع استمرار الحرب الروسية، في النقاط التالية:
1- إخراج المدنيين من مناطق القتال وتحييدهم: أظهرت الأرقام التي نشرها مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أنه على الأقل قُتل 847 مدنياً، وأُصيب 1399 آخرون في أوكرانيا منذ 24 فبراير وحتى 19 مارس 2022. ومن المُعتقد أن يكون العدد الحقيقي للضحايا أكبر في ظل عدم قدرة المنظمة الأممية حتى الآن على التحقق من التقارير الواردة عن الضحايا من عدة مدن أوكرانية تضررت بشدة من القصف. وبالتالي فإن أحد الأهداف الأساسية للممرات الآمنة هو إخراج المدنيين من دائرة الاستهداف والقتل في المدن المُحاصرة، حيث أظهرت الإحصائيات المُعلن عنها من قِبل السلطات الأوكرانية أنه في الأيام الأولى بعد إنشاء هذه الممرات، تم إخراج حوالي 35 ألفاً من المدنيين، وذلك وفقاً لما أعلنه الرئيس فولوديمير زيلينسكي.
2- إيصال المساعدات الإنسانية: دعت الأمم المتحدة إلى ضرورة إقامة ممرات إنسانية آمنة في أوكرانيا، ليتم من خلالها إيصال المساعدات الطبية والغذائية للسكان المدنيين الذين لم يتمكنوا من الخروج من المدن التي تتعرض للقصف أو تدور في محيطها عمليات قتالية. وكان مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، قد أعلن في جلسة طارئة لمجلس الأمن يوم 8 مارس الجاري، وكانت مخصصة لمناقشة الأزمة الإنسانية في أوكرانيا، أن المدنيين في أماكن مثل ماريوبول وخاركيف وميليتوبول ومدن أخرى، في حاجة ماسة إلى المساعدات، خصوصاً المستلزمات الطبية والحيوية، وأنه على جميع الأطراف احترام التزاماتها بموجب قانون الحرب. كما أكدت المنظمات الإنسانية المنضوية ضمن أجهزة الأمم المتحدة، أنها استطاعت تقديم العون الانساني لنحو 600 ألف شخص في أوكرانيا.
3- احترام أحكام القانون الدولي الإنساني: تعود فكرة إقامة ممرات آمنة إلى القانون الدولي الإنساني الذي يؤكد ضرورة وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تدور فيها نزاعات مسلحة. إذ نصت اتفاقيات جنيف الأربع للعام 1949 في المادة 23 من الاتفاقية الرابعة على "حرية مرور المساعدات المُتضمنة الأدوية والمواد الصحية والأغذية والثياب، للسكان المدنيين". كما أن البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف للعام 1977 يكمل الأحكام السابقة، معتبراً أن عروض النجدة والمساعدة لا تعتبر تدخلاً في النزاع إذا استوفت شرطي الحياد والتجرد.
وفي عام 1988، صدر قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يحمل الرقم 43/ 131 عن المساعدات الإنسانية لضحايا الكوارث الطبيعية والأوضاع الاستعجالية المماثلة لإدخال المساعدات إلى أرمينيا التي كانت تعاني زلزالاً، وتُفصل فيه طريقة إدارة الممرات الإنسانية. كذلك، فإن مجلس الأمن أصدر لاحقاً عدة قرارات دولية تؤكد على حرية مرور المساعدات، كما في حالات العراق (1991) والصومال (1992)، والبوسنة (1994). وفي بعض الحالات، تم اقتراح إرسال قوات متعددة الجنسيات لحماية مواكب المساعدات وصولاً إلى السماح لهذه القوات باستخدام القوة. وهنا عرفت الأزمة السورية إنشاء معابر لإدخال المساعدات الإنسانية إليها تحت اشراف الأمم المتحدة ووفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2165.
إشكاليات مُعرقلة:
برزت إشكاليات متعددة أثناء محاولات إقامة الممرات الإنسانية الآمنة في أوكرانيا، نوجز أهمها فيما يلي:
1- التشكيك في نوايا روسيا: إن توزيع الممرات حسب الخطة الروسية، أظهر أن 4 من 6 وجهات لهذه الممرات تقود المدنيين الأوكرانيين نحو بيلاروسيا أو روسيا، ما أدى إلى إثارة الشكوك حول نوايا موسكو، مع عدم وجود ضمانات حول عدم حصول اعتقالات واسعة للمدنيين الأوكرانيين المُعارضين للتدخل العسكري الروسي بعد وصولهم إلى الأراضي الروسية. كما أن الممرات الأخرى المُقترحة تمر بمحاذاة جبهات القتال وخطوط التماس، مما يثير أيضاً علامات استفهام حول الهدف الحقيقي لروسيا من وراء تنفيذ هذه الممرات؛ هل هو السماح للمدنيين بالمغادرة أم الاستمرار في ترهيبهم؟
كذلك، فإن طريقة الاعلان الروسي عن الممرات الإنسانية، وإن كان قد سبقها اتفاق مبدئي مع أوكرانيا، فإنها جاءت بشكل آحادي روسي، ومما زاد الريبة هو إعلان موسكو أن هذه الممرات ستبقى تحت رقابة الطائرات المُسيَّرة "الدرونز" الروسية. وقد دفعت كل هذه الخطوات المثيرة للريبة، بعض المراقبين إلى اعتبار أن روسيا تريد تطبيق الآلية نفسها التي تم اعتمادها في سوريا حول حصار المدن، خصوصاً في حلب عام 2016 والتي كانت نتائجها كارثية من الناحية الإنسانية.
2- الترويج لاستخدام المدنيين كذريعة: نظراً لأن حماية المدنيين تحظى بأهمية كبيرة ومتزايدة على الصعيد الدولي، فإنه كثيراً ما تركز وسائل الإعلام العالمية على هذه القضية خلال سير الحروب؛ لما لها من تأثير على الرأي العام الدولي. لذلك فإن كلاً من الطرفين الروسي والأوكراني يحاول حشد التأييد والتعاطف من خلال التركيز على أخطاء الآخر. فمن جهة، يحاول الإعلام الروسي إظهار أن الدافع الحقيقي لرفض الحكومة الأوكرانية لمبادراته حول الممرات الآمنة، هو استغلال بقاء المدنيين داخل المدن المُحاصرة لاستخدامهم كدروع بشرية. بينما تنتشر العديد من المقالات والتحليلات في الجهة الأوكرانية المقابلة، تعتقد أن الممرات الآمنة المُطبقة، حسب وجهة النظر الروسية، لا تختلف كثيراً عن عمليات التهجير القسري والتي تعد من أكبر الجرائم ضد الإنسانية.
3- الالتفاف على الالتزامات الإنسانية: تم تفسير الطرح الروسي حول الممرات الآمنة بأنه التفاف على الالتزامات الإنسانية، من أجل تحقيق أهداف عسكرية بشكل غير مباشر؛ ومنها التمهيد لاقتحام المدن المُحاصرة، وتهيئة الأرضية لمعارك المدن، حيث سيسهل على القوات الروسية التقدم في مدن خالية من المدنيين بعد إخراجهم عبر الممرات الآمنة. كما أن هناك تخوفاً كبيراً من اعتبار جميع من يبقى داخل المدن الأوكرانية بعد تنظيم عملية الخروج الآمن، أهداف عسكرية مشروعة، واستعادة سيناريوهات مشابهة تم تطبيقها في سوريا بعد حصار مدينة حمص. فيما ترى اتجاهات أخرى أن الهدف الروسي يذهب ربما أبعد من ذلك، وهو دفع الشعب الأوكراني إلى الاستسلام والتخلي عن فكرة المقاومة، خصوصاً حين يرى أنه يتم تخييره بشكل غير مباشر ما بين الوصول عبر ممر آمن إلى روسيا، أو المخاطرة والذهاب في اتجاه آخر غير مضمون ممكن أن يتحول فيه إلى هدف بشري.
وعلى الرغم من كل تلك الإشكاليات، فإن الجانب الروسي يسوق لرواية مفادها أنه تلقى آلاف الاتصالات من مدنيين داخل أوكرانيا تناشد السلطات الروسية تسهيل عمليات خروجهم، وأن ما يمنع من كشف هوية هؤلاء المتصلين هو الخوف عليهم من عملية التصفية من جانب "القوميين الأوكرانيين". كما أن الحكومة الروسية تحاول أن تُظهر نفسها أمام شعبها بصورة "عدم المُعتدي، والساعي إلى حماية المدنيين". وثمة وجهات نظر ترجح أن الهدف الروسي ربما قد يكون إظهار أن ما يجري في أوكرانيا هو حرب أهلية بين مكونات مختلفة، والشعب الأوكراني ليس كتلة واحدة، وما تقوم به روسيا ليس اجتياحاً عسكرياً أو عدواناً؛ بل هو تدخل عسكري يهدف إلى الدفاع عن المكونات الأوكرانية المُضطهدة التي تؤيد موسكو.
ختاماً، تتفوق حسابات الجغرافيا السياسية على الشواغل الإنسانية، خصوصاً في نزاع مسلح كالذي يدور حالياً على الأراضي الأوكرانية، وهو ما يترك للضحايا المدنيين هامش ضيق من الخيارات للنجاة، على غرار آلية الممرات الإنسانية. وبالتالي هل سيؤدي سوء استغلال مثل هذه الممرات إلى التوجه نحو خيارات أكثر صرامة لحماية المدنيين في الحرب، خصوصاً أن الرأي العام العالمي حساس جداً أمام مشهد تساقط المدنيين الأبرياء؟!