بات من شبه المؤكد أن الانتخابات الرئاسية الليبية المقرر عقدها في 24 ديسمبر 2021 لن تجرى في موعدها المقرر، خاصةً مع عدم إعلان المفوضية العليا للانتخابات، حتى الآن، عن القائمة النهاية لمرشحي الرئاسة، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات بشأن التداعيات المحتملة لخطوة تأجيل الانتخابات على المشهد الداخلي الليبي.
تطورات متلاحقة
شهد الملف الليبي العديد من المتغيرات المتلاحقة خلال الأيام الأخيرة الماضية، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- تشكيك محكمة مصراتة في المفوضية: لم تعد الإشكالية المتعلقة بإجراء الانتخابات الرئاسية في ليبيا مرتبطة فقط بأزمة الطعون الانتخابية بين مرشحي الرئاسة، بل إن محكمة استئناف مصراته قضت مؤخراً بوقف اعتماد القائمة الأولية لمرشحي الرئاسة، فضلاً عن إيقاف إجراءات المفوضية العليا للانتخابات كافة لحين الفصل في القضية.
واستند قرار المحكمة على بطلان تشكيل المفوضية العليا للانتخابات الحالية، ومن ثم بطلان القرارات الصادرة عنها. وعلى الرغم من أن قرار المحكمة يمكن تجاوزه في ضوء ما هو معروف من عدم استقلالية القضاء، غير أن قرارها يمكن أن تستند إليه أطراف داخلية، مثل الميليشيات، لدعم جهودها لعرقلة الانتخابات، ومحاولة إضفاء الطابع القانوني عليه.
2- حصار ميليشيات طرابلس مؤسسات الدولة: شهدت الأيام الأخيرة قيام بعض ميليشيات غرب ليبيا بمحاصرة مكاتب حكومية في طرابلس في 15 ديسمبر الجاري، بما في ذلك مقر المجلس الرئاسي وديوان رئاسة الحكومة ووزارتا الدفاع والداخلية.
وتزامنت هذه التحركات مع إعلان قائد ميليشيات الصمود، صلاح بادي، المدرج على قوائم عقوبات مجلس الأمن الدولي منذ نوفمبر 2018، بأنه لن تكون هناك انتخابات رئاسية في ليبيا، مشيراً إلى أن ميليشيات غرب ليبيا ستطوق كافة مؤسسات الدولة في طرابلس.
3- تحركات مكثفة لستيفاني ويليامز: قامت ستيفاني ويليامز، منذ عودتها على رأس البعثة الأممية في ليبيا كمستشارة للأمين العام للأمم المتحدة، بتحركات مكثفة في الداخل الليبي، حيث عقدت العديد من اللقاءات مع الأطراف السياسية والعسكرية، بهدف الدفع بإجراء الانتخابات في موعدها.
فقد التقت ويليامز مع مجموعة من مرشحي الرئاسة، في مقدمتهم المشير خليفة حفتر، وعبدالحميد الدبيبة، وفتحي باشاغا، فضلاً عن أعضاء المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، وعدد من أعضاء المجالس المحلية والمجتمع المدني والقيادات الشبابية، كما عقدت اجتماع مع اللجنة العسكرية المشتركة (5+5). ومن الواضح أن جهود ويليامز لم يكتب لها النجاح.
4- تقارب مفاجئ بين تركيا وشرق ليبيا: قام وفد من البرلمان الليبي، برئاسة فوزي النويري، القائم بأعمال رئيس مجلس النواب الليبي، بزيارة مفاجئة إلى تركيا في 15 ديسمبر الجاري، تضمنت اجتماعاً مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وأثارت هذه الزيارة العديد من الدلالات بشأن احتمالات تدشين مرحلة جديدة في علاقة أنقرة بشرق ليبيا، تنهي مرحلة الخلافات السابقة بين الطرفين، خاصةً أن تشكيلة الوفد الليبي قد تضمنت عدداً من الشخصيات المعارضة بشدة للانخراط التركي في ليبيا.
كما تمخضت عن هذه الزيارة مؤشرات مهمة بشأن فتح مجالات للتعاون السياسي والاقتصادي المشترك، إلى جانب الاتفاق على فتح المجالين البحري والجوي بين بنغازي وأنقرة، الأمر الذي قد يعكس وجود ترتيبات غير معلنة تتعلق بتهدئة الخلافات بين الجانبين خلال المرحلة المقبلة.
غموض مرحلي
باتت عملية إجراء الانتخابات في موعدها أمراً مستبعداً للغاية، وفي هذا السياق يمكن عرض أبرز التداعيات المحتملة إزاء خطوة تأجيل موعد الاستحقاقات الرئاسية على النحو التالي:
1- مساعٍ للاتفاق على خريطة جديدة: تعكس الجهود والتحركات التي تقوم بها ويليامز، عن مساعيها للتوصل إلى توافقات بين الأطراف الليبية المختلفة بشأن سيناريو تأجيل الانتخابات الرئاسية، والحيلولة دون حدوث أي تصعيد محتمل بعد 24 ديسمبر الجاري، ومحاولة التوصل إلى ترتيبات جديدة تفرز تحديد موعد بديل للانتخابات. ولا يمكن الفصل بين هذه المساعي من ناحية، وزيارة السفير الأمريكي، ريتشارد نورلاند، إلى طرابلس في 20 ديسمبر الجاري، في إطار بحث ملامح خريطة الطريق الجديدة التي يمكن إطلاقها خلال الفترة المقبلة.
وأشارت تقارير أخرى إلى أنه ربما يتم التحضير لمؤتمر دولي بشأن الإعلان عن خريطة طريق جديدة، لحلحلة الملفات الخلافية القائمة، وفي هذا السياق رجحت هذه التقارير أن تسعى إيطاليا إلى استضافة هذا المؤتمر، تحت قيادة رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراجي.
2- غموض مستقبل حكومة الدبيبة: هناك خياران رئيسيان فيما يتعلق بمستقبل حكومة الوحدة الوطنية، يتمثل الأول في إنهاء مجلس النواب الليبي لمهام حكومة عبدالحميد الدبيبة، خاصةً في ظل إعلان بعض نواب المجلس بأن شرعية حكومة الوحدة الوطنية ستنتهي في 24 ديسمبر الجاري.
وفي هذا الإطار ربما يطلق مجلس النواب في اجتماعه المرتقب، في 27 ديسمبر الجاري، مبادرة بتشكيل حكومة تسيير أعمال بديلة عن حكومة الدبيبة، تتولى مهام إدارة عملية التجهيز للانتخابات وقيادة عملية المصالحة الوطنية، وهو الأمر الذي أكده رئيس لجنة متابعة سير العملية الانتخابية بالبرلمان الليبي، الهادي الصغير، بيد أن هناك العديد من الشكوك التي أثيرت بشأن إمكانية قبول حكومة الوحدة الوطنية والقوى المحسوبة عليها في غرب ليبيا بتسليم السلطة، ما قد يزيد من حالة الانقسام الداخلي من جديد.
ويتوقع أن ترفض حكومة الدبيبة قرار البرلمان الليبي بإقالتها، وتستند في ذلك إلى نص المادة الثالثة من خريطة الطريق والمرتبطة بالإطار الزمني للمرحلة التمهيدية، حيث أشارت المادة إلى أن مدة هذه المرحلة هي 18 شهراً تبدأ من 21 نوفمبر 2020، وهو ما قد يتيح مجالاً أمام استمرار الحكومة الحالية لحين الانتهاء من إجراء الانتخابات، خاصةً حال تم تحديد موعد جديد قريب لهذه الاستحقاقات.
وربما تفرز مشاورات ويليامز عن مسار توافقي، يتضمن استمرار رئيس الوزراء المكلف، رمضان أبو جناح، والذي يقوم بمهام رئيس الحكومة بدلاً من عبدالحميد الدبيبة الذي أعلن ترشحه للرئاسة، مع ادخال بعض التعديلات على عدد من الوزارات، بما في ذلك وزارة الداخلية. وجاء هذا المقترح من قبل حزب "تكتل احياء ليبيا" برئاسة عارف النايض، حيث تضمن المقترح أيضاً ضرورة أن يكون التوقيع على أي قرارات سيادية متضمناً توقيع النائب الأول لرئيس لحكومة، حسين القطراني.
3- استمرار الخلافات الأمريكية – الروسية: تعكس فكرة تأجيل الانتخابات الرئاسية حدة الخلافات بين واشنطن وموسكو بشأن ترتيبات الاستحقاقات الانتخابية، خاصةً فيما يتعلق بترشح سيف الإسلام القذافي، والذي يحظى بدعم الكرملين.
ويبدو أن هذا الأمر كان أحد الأسباب الرئيسة في تأجيل الانتخابات، إذ عكست تحركات ستيفاني ويليامز استمرار الرفض الأمريكي لترشح سيف الاسلام، وهو ما وضح في عدم اجتماعها معه على غرار بقية مرشحي الرئاسة والقوى السياسية الاخرى في ليبيا، واكتفت فقط بالاجتماع مع المبعوث الخاص لسيف الاسلام، عمر أبو شريدة، وهو ما قد يعكس، من ناحية أخرى، وجود قلق أمريكي من النفوذ المتنامي للقذافي الابن، خاصة أن هناك مؤشرات جدية تؤكد أنه أحد أبرز المرشحين للفوز بالانتخابات حال إجرائها، نظراً لنجاحه في نسج تحالفات مع قبائل وسياسيين ليبيين.
تفاهمات محتملة:
على الرغم من الغموض الذي يحيط بإجراء الانتخابات، فإن هناك بعض التحركات الأولية لترتيب المرحلة القادمة، وهو ما يتضح في التالي:
1- إبرام صفقات محتملة: تعكس التحركات الراهنة وجود مشاورات قائمة بين الأطراف الداخلية والخارجية، مع ترجيح احتمالية أن تلجأ الأطراف الداخلية إلى عقد صفقات، غير تقليدية، خلال الفترة المقبلة لتعزيز نفوذها وضمان استمرارها في المشهد، وهو ما قد يفرز عن صفقات محتملة بين أطراف من شرق ليبيا وغربها.
ويدخل في هذا الإطار اللقاء الذي جمع بين قائد الجيش الليبي والمرشح الرئاسي، خليفة حفتر، في بنغازي بأبرز منافسيه في الانتخابات الرئاسية، وتحديداً وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا ونائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق في 21 ديسمبر 2021، في مؤشر على وجود محاولة للتوصل لتوافق حول موعد الانتخابات القادمة، وكذلك إمكانية النظر في الدخول في تحالفات جديدة.
2- استبعاد الحل العسكري: على الرغم من ضبابية المشهد الراهن في الداخل الليبي، فإن احتمالية لجوء الأطراف إلى الحل العسكري لاتزال مستبعدة، في ظل تعدد الفواعل المسلحة، خاصة في الغرب، فضلاً عن كون هذا المسار لا يخدم مصالح أي طرف.
ولذلك، فإن التحركات التي تقوم بها الميليشيات العسكرية في غرب ليبيا وجنوبها لا تعدو إلا أن تكون رسالة تسعى من خلالها هذه الميليشيات إلى التأكيد على ضمان دورها في المشهد، وعرقلة إجراء الانتخابات لحماية مصالحها، وهو ما تحقق لها بدرجة كبيرة، ولذا، فهي ليست في حاجة إلى التصعيد العسكري. وبالتالي، فإن أي مناوشات عسكرية ستحدث ستكون محدودة وترتبط بالغرب الليبي، في ظل وجود ميليشيات مسلحة متعددة ومتنافسة.
3- رفض الإخوان الانتخابات الرئاسية: تسعى جماعة الاخوان المسلمين الليبية إلى إقناع ويليامز بالانتهاء من الانتخابات البرلمانية والبدء في خطوة تعديل الدستور للتوافق بشأن طبيعة نظام الحكم على أن يتم إجراء الانتخابات الرئاسية خلال عامين، بيد أن ويليامز أبدت رفضها، حتى الآن، لمقترح السنتين، وتمسكت بخريطة الطريق المرتبطة بمدة الـ18 شهراً، بما يعني إجراء الانتخابات الرئاسية قبل نهاية يونيو 2022.
4- تعزيز سلطة المجلس الرئاسي: ترجح المعطيات الراهنة تأجيل موعد الانتخابات إلى عدة أشهر، بحد أقصى يونيو 2022، من أجل التوصل إلى ترتيبات شاملة. كما يمكن أن يتمخض قرار تأجيل الانتخابات عن تعزيز سلطة المجلس الرئاسي الحالي، كمسار توافقي من أجل قيادة المرحلة الانتقالية المقبلة لحين إجراء الانتخابات الرئاسية، وهو ما يعزز من التقارير التي أشارت إلى أن المجلس الرئاسي يستعد لإطلاق مبادرة لانقاذ العملية الانتخابية، وهي الخطوة التي ربما تأتي بالتنسيق مع ويليامز.
وفي الختام، تسود حالة من الغموض على المشهد الليبي، في ظل استمرار حالة الترقب لما ستؤول إليه المشاورات الراهنة بشأن تعديل خريطة الطريق، والتوصل إلى توافقات بين الأطراف الداخلية بشأن تحديد موعد جديد للاستحقاقات الرئاسية، سواء عبر جهود ستيفاني ويليامز للوساطة، أو من خلال القرارات التي يمكن أن تصدر عن مجلس النواب الليبي.