تدل كلمة "إكسبو" على مفهوم العرض Exposition، وهو مفهوم يشتق في اللغة الإنجليزية من الكلمة اللاتينية expositio وهي تعني عرض أو شرح أو تقديم. وتشتق كلمة العرض في اللغة العربية من الجذر "عرض"، وهذا يشير إلى بسط الشيء أو طرحه أو إظهاره. ولا تختلف هذه المعاني اللغوية عن المعنى المتداول للكلمة التي تعني عرض الأشياء والأفكار أو إتاحتها. ولا شك أن استخدام كلمة Expo المشتقة من Exposition يعتبر استخداماً أعمق وأشمل من كلمة Exhibition التي تدل على المعرض الذي يحوي سلعاً أو منتجات للمشاهدة أو الشراء. وتحمل كلمة العرض المعنى نفسه، ولكنها تدل على عرض الابتكارات والأفكار وروئ المستقبل أيضاً.
أهمية إكسبو:
لعل هذه الفكرة هي التي قامت عليها معارض إكسبو expo الشهيرة التي بدأت رسمياً، وتحت إشراف ورعاية المكتب الدولي للمعارض Bureau International des Expositions، في عام 1851 بالمعرض الدولي الذي أُقيم آنذاك في لندن، وصولاً إلى معرض "إكسبو 2020 دبي" الذي يُقام حالياً خلال الفترة من 1 أكتوبر 2021 وحتى 31 مارس 2021. وتُولي الدول اهتماماً كبيراً بهذه المعارض وتنفق عليها أموالاً كثيرة، ولا يذهب هذا الإنفاق في الفراغ؛ ولكنه يؤدي وظائف جمة للدول المضيفة. إذ إن هذه المعارض تكشف بجلاء عن مدى القوة التي تتمتع بها الدولة المضيفة، وقدرتها على التأثير على المستوى العالمي، كما أنها تعمل على تسويق التجربة التنموية لهذه الدولة. فمن المعروف الآن أن التسويق أصبح مفهوماً شاملاً وطاغياً إلى درجة أنه أصبح يستخدم في عمليات تسويق الدول أو تسويق الأمة Nation Marketing، وفوق كل ذلك فإن هذا الحدث الدولي يؤشر إلى التفوق وإعلاء القدرة التنافسية على المستوى العالمي.
والمتأمل للموضوعات التي تهتم بها هذا النوع من المعارض يجد أنها تغطي مجالات عديدة في الصناعة والزراعة والابتكارات التكنولوجية والفنون والثقافة والرياضة والاتصالات والبحث العلمي وتكنولوجيا الفضاء والبيئة، وغيرها. ولكن يُلاحظ أن موضوعات معارض إكسبو تتبدل عبر الزمن من التركيز على الجوانب المادية الخاصة بالزراعة والصناعة والتكنولوجيا إلى الجوانب المعنوية والثقافية، حيث تظهر موضوعات البيئة والاستدامة والفنون والسلام وتحديات المستقبل في المجال البيئي والتكنولوجي والثقافي وتحديات الاستدامة في المدن وأساليب الحياة.
تواصل العقول:
من هذا المنظور في تطور موضوعات معارض إكسبو الدولية، جاء معرض إكسبو دبي هذا العام ليحمل شعاراً مهماً، وهو "تواصل العقول وصُنع المستقبل". لقد أشرنا قبل قليل إلى رمزية القوة والتفوق في مثل هذه المعارض، ولكنها أكبر بكثير من ذلك، فثمة حكمة اجتماعية وأخلاقية تقف خلف الحدث نستطيع أن نتبينها من تحليل عميق لشعار "إكسبو 2020 دبي"، والذي يطرح عدة دلالات كالتالي:
1- ثمة إدراك أن العالم يشهد عمليات من تباين العقول وتباعدها، وهو تباعد ينتج عن مجتمع الخطر الذي يعيش فيه العالم والذي تتحلل فيه الروابط الاجتماعية وتحل محلها الروابط الفردية، كما تتحلل فيه القيم المعنوية لتحل محلها القيم المادية. ويؤدي الوعي بهذا التباعد إلى الدعوة إلى أن تناسق العقول وترابطها من دون أن تفقد هويتها وسماتها الفكرية. فكل فكرة ترتبط بالأخرى، وكل مسعى عقلي يرتبط بالآخر ليخلق تواصلاً بين العقول، بل ليخلق تضامناً بينها إذا سعت جميعاً نحو القيم النبيلة الفاضلة.
2- عندما تتعارض العقول وتتباعد، فإنها تنكر الاعتراف بالآخر، وتطور تجاهه مشاعر عدائية. والعكس عندما تتشابك العقول وتتلاقى، يحدث الاعتراف المتبادل بين الأنا والآخر، فيكون التعاون والتضامن والتسامح. وهنا تظهر الدلالة الكبرى لعملية "تواصل العقول"، وهي أن هذا التواصل أو التشابك يؤسس لقيم الاعتراف، وهي قيم فاضلة تدفع البشر إلى التعاون واحترام بعضهم البعض والتسامح إزاء ما قد يصدر عبر تفاعلاتهم من توترات ومشكلات بسيطة. نعم إن التشابك بين العقول كفيل بأن يعمل على هذا وأكثر، بل إنه كفيل بأن يؤسس لقيم جديدة للتعاون في عالم التكنولوجيا، وعدم احتكارها وإتاحتها للجميع واستخدامها في الأغراض السلمية، وغير ذلك من القيم الأخلاقية التي تفرضها علينا متطلبات التقدم التقني.
وإذ يسعى المجتمع إلى تحقيق هذا التواصل بين العقول، فإنه يقدم نموذجاً جديداً ومختلفاً للتعددية الفكرية والاجتماعية. إن تواصل العقول وانصهارها لا يلغي قط تفردها وخصوصية إسهاماتها وابتكاراتها؛ ولكن هذه العقول يُفترض أن تكون نيرة، وتدرك أن قوى العولمة المحيطة بها تخلق بينها تباعداً كبيراً بين الزمان والمكان، وتدرك أن جوهر التعامل مع هذا الظرف هو أن تدخل في تفاعل خلاق في ضوء مبدأ "التعددية الخلاقة"؛ وهي التعددية التي تدفع كل طرف في المشهد الإنساني العالمي إلى التواصل مع الأطراف جميعاً وتقديم أفضل ما عنده. فمجتمع "التعددية الخلاقة" هو مجتمع العطاء الخلاق والدائم، والإحجام عن الأخذ الدائم، وهو ليس مجتمعاً للجمع والالتقاط، "تجول فيه نخب لاقطة، تجمع المنافع وتجمجمم بالأقوال المعسولة والأفكار العابرة"؛ ولكنه مجتمع للنخب الوطنية التي تدفعها وطنيتها وتفكيرها المستنير إلى أن تصبح نخباً كونية لا تعطي فقط على المستوى الوطني ولكنها تعطي على المستوى الكوني أيضاً، وتصبح مدركة لأهمية تواصل العقول وتناسقها في إطار من التعددية الخلاقة.
مجتمعات إكسبو:
يقودنا مثل هذا الحديث إلى أن نفكر في فرضية مهمة مفادها أن استغلال المعارض الكبرى تحت هذه الشعارات ذات الأبعاد الثقافية والفكرية يمكن أن يدفع إلى التفكير في أنماط جديدة من المجتمعات يمكن أن يُطلق عليها "مجتمعات إكسبو" أو مجتمعات الفضاءات المفتوحة والتواصل. وإذا كان الوصول إلى هذا النوع من المجتمعات صعب المنال في الوقت الراهن، فإن تأكيد المعاني والقيم المتصلة به يخلق إطاراً ليوتوبيا جديدة تقودنا نحو مستقبل أفضل. لذا قد يكون من المفيد أن نعدد بعض خصائص هذه المجتمعات في ضوء ما طرحناه من أفكار.
وهناك جانبان للحياة الجديدة التي تصبو إليها "يوتوبيا إكسبو" أو "يوتوبيا الفضاءات المفتوحة والتواصل"، وهما كالتالي:
1- عالم الاقتصاد والتكنولوجيا: هنا يكون الأمل معقوداً على تكنولوجيا تريح الإنسان وتسهل له الحياة من دون أن تأسره أو تقهره أو تسلبه أبعاده الروحية؛ تكنولوجيا تؤسس لاقتصاد مستدام وبيئة مستدامة. واقتصاد يحقق للإنسان العيش الكريم من دون أن يكون مُستغلاً أو مُحتكراً، ويُحقق له الأمن الحياتي والمادي في إطار من العدل والمساواة؛ اقتصاد يمنح الحياة للجميع، ولا يترك أحداً في الخلف، فلكل فرد مكانة وحياة مستقرة، وجميعهم يتعايشون في إطار واحد من التضامن والسلام. وهو اقتصاد لا يدمر البيئة ولا الأرض وغلافها الجوي، ولكنه يحافظ عليها للأجيال القادمة.
2- عالم الثقافة والقيم: يُكمل الجانب الثقافي والقيمي مشهد مجتمع المستقبل، حيث تتأسس الحياة الاجتماعية على التضامن والتعددية والتواصل، كما تفتح الطريق لفيض من قيم العدل والاحترام والمساواة والإيثار، وتُعلي من شأن القيم الروحية التي تمد الإنسان بطاقة على العمل والإنجاز وتحمل مشاق الحياة. وتتأسس الحياة هنا على تضامن واعي يستخدم ما هو متاح من أفكار وقيم معنوية وروحية في تحقيق سعادة الإنسان وسلامه وأمنه، ولا يسمح لأي فكرة أو أيدلوجية أو عقيدة أن تأسره، أو أن تسيج حياته داخل كهوف مظلمه لا يستطيع الخروج منها. فالمجتمع هنا هو طاقة من نور يسير فيه الجميع، حاملين مشاغل الأمل، في صنوف متوازية، كل يعمل من أجل الجميع، ومن أجل أن تستمر طاقة النور لتضيء الطريق للجميع.
ختاماً، فإني على يقين بأننا بحاجة ماسة إلى أن نفتح الفكر ليقترب من مشارف اليوتوبيا إذا كنا نأمل في عالم جديد تتعايش فيه العقول وتتواصل بعيداً عن الأنانية وصراعات الجنس البشري التي أفقدته الكثير على مر التاريخ.