شهدت التحقيقات في انفجارات مرفأ بيروت، والتي وقعت في أغسطس 2020 تطوراً مهماً في الفترة الأخيرة، حيث أصدر المحقق العدلي القاضي طارق البيطار سلسلة قرارات بدءاً من 2 يوليو الجاري، تقضي بالتحقيق مع وزراء سابقين ونواب حاليين وقادة أمنيين وعسكريين، مع المطالبة برفع الحصانة عن بعضهم لإجراء تحقيق معهم.
وتمثلت أبرز هذه الأسماء من المسؤولين الحاليين في رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، والنائب على حسن خليل (وزير المالية السابق)، والنائب غازي زعيتر (وزير الأشغال العامة والنقل الأسبق)، والنائب نهاد المشنوق (وزير الداخلية والبلديات الأسبق)، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا. أما المسؤولون السابقون، فيتمثل أبرزهم في وزير الأشغال العامة والنقل السابق يوسف فنيانوس، وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي.
خطوات تمهيدية
يُذكر أن خطوة الاستدعاءات السابقة سبقتها عدة خطوات تمهيدية، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- تفعيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء: انتخب مجلس النواب اللبناني سبعة نواب يمثلون معظم الكتل النيابية لعضوية المجلس في مارس 2019، وذلك بعد سنوات من تعطل دور ذلك المجلس، علماً بأن المجلس تأسس تنفيذاً لما جاء في اتفاق الطائف 1989 للتمكن من محاسبة المسؤولين المحميين بالحصانة بموجب مناصبهم، وهو الأمر الذي قد يوفر للمجلس الصلاحية لمحاكمة المسؤولين في قضية تفجيرات مرفأ بيروت.
2- إحالة القضية إلى المجلس العدلي في أغسطس 2020: يعد المجلس أعلى محكمة جزائية مؤلفة من كبار القضاة تنظر الجرائم التي يكون لها وقع كبير على المجتمع اللبناني.
وقد تم تعيين القاضي طارق بيطار محققاً عدلياً في قضية انفجار مرفأ بيروت، خلفا للقاضي فادي صوان، والذي نحي من منصبه بعد ادعائه في العاشر من ديسمبر على دياب والوزراء المذكورين، إذ تقدم حينها غازي زعيتر وعلي حسن خليل، المحسوبان على رئيس البرلمان نبيه بري، بمذكرة للنيابة العامة التمييزية طلبا فيها نقل الدعوى إلى قاض آخر، بسبب خرق صوان الدستور بادعائه عليهما، من دون المرور بالبرلمان الذي يمنحهما حصانة دستورية.
وكان هناك اعتقاد بأن النجاح في إبعاد قاضي التحقيق السابق فادي صوان، سوف يدفع بديله بيطار إلى عدم إثارة قضية "الحصانات"، وربما يكتفي بالتركيز على بعض الجوانب الأمنية والإهمال، وهو ما لم يتحقق.
تطورات المشهد
يمثل استدعاء الشخصيات سالفة الذكر، سابقة مهمة في لبنان، خاصة أنه تم نشر أسمائهم بشكل علني، وتم التقدم بطلب للجهات التي يتبعون لها برفع الحصانة عنهم، مع الوضع في الاعتبار أنهم تابعون لأهم القوى السياسية المؤثرة في المشهد اللبناني، فضلاً عن وجود بعضهم في مناصبهم الرسمية الحالية، الأمر الذي قد يكون له صدى في الداخل اللبناني الفترة المقبلة، وذلك على النحو التالي:
1- استبعاد بعض الفرضيات: سار التحقيق على ثلاث فرضيات حول أسباب اندلاع الحريق في مرفأ بيروت، وهي الاستهداف الجوّي عبر صاروخ، أو الإهمال عبر الربط بين تلحيم باب العنبر رقم 12 والحريق الذي أدى إلى حصول الانفجار، بالإضافة إلى احتمال العمل الإرهابي أو الأمني المتعمد. واستبعد التقرير الذي سلمه المحققون الفرنسيون الاحتمال الأخير، وهو الاستهداف الجوي، أي أن الفرضيات تنحصر في اندلاع الحريق بشكل خاطئ أو متعمد.
وفي كلا الحالتين، فإن هذا سوف يمثل إدانة لعدد كبير من المسؤولين، إذ إن التحقيقات مع المدعى عليهم، إن تمت، يفترض أن تكشف عن الجهة التي استقدمت شحنة الموت إلى بيروت، ومن هم الشركاء، وكيف تم تهريب آلاف الأطنان من "نيترات الأمونيوم" من العنبر "رقم 12"، وما صحة ما أعلنه وليد جنبلاط بأن هذه المواد الخطرة تم نقلها إلى سوريا، واستخدمت في البراميل المتفجرة.
2- إضعاف محتمل للنفوذ: إن ضلوع القضاء في ملفات تمس المصلحة العليا للدولة في الفترة الراهنة قد يؤثر سلباً على نفوذ العديد من القوى السياسية، خاصة أن للقضاء ظهيراً شعبياً سيدعمه في مواجهة أي ضغوط، وظهيراً خارجياً مدعوماً من المجتمع الدولي، الذي يرى أن الفساد المستشري من قبل القوى السياسية في لبنان يجب مكافحته. كما قد تستخدم هذه التحقيقات للضغط على تلك القوى للمضي قدماً في إنهاء الشلل السياسي الحالي.
3- تباينات "شيعية" رمزية: تباينت ردود الفعل بين الثنائي الشيعي من الاستدعاءات الموجهة بحق المسؤولين اللبنانيين، حيث رفضها حزب الله عبر كلمة الأمين العام للحزب حسن نصرالله في 5 يوليو الجاري، وذلك عبر الادعاء بأن هناك استهدافاً سياسياً، في إشارة إلى محاولة توظيف المحاكمات لإدانة الحزب.
وعلى الرغم من دعوة رئيس مجلس النواب زعيم حركة أمل نبيه بري إلى عقد جلسة مشتركة لهيئة مكتب المجلس النيابي ولجنة الإدارة والعدل في 9 يوليو الجاري لدرس طلب رفع الحصانة الذي ورد من وزارة العدل، وتأكيده أنه مع تطبيق القانون مئة بالمئة، غير أن قرار رفع الحصانة تطلب موافقة البرلمان، وفقاً لنص المادة 40 من الدستور اللبناني. ويؤشر مطالبة البرلمان في 7 يوليو أدلة "تثبت الشبهات" على المدعوين للاستجواب على اتجاه البرلمان لرفض رفع الحصانة عنهم.
4- الضغط على حزب الله: إن وجود شبهة بضلوع الحزب في تخزين "نترات الأمونيوم" لاستخدامها في تعظيم قدراته العسكرية، قد يكون مثار جدل الفترة المقبلة، وسيؤدي للضغط على الحزب الذي يرفض في الأساس فكرة امتثال المسؤولين أمام القضاء، وعلى الرغم من صعوبة حدوث ذلك الأمر، فإن تلك القضية ستشوش على دور الحزب داخلياً، وسيكون ذلك التشويش مشابهاً لملف اغتيال رفيق الحريري، مما قد يخلق لغطاً داخلياً يؤثر على نفوذ الحزب داخلياً.
5- استنهاض الشارع اللبناني: تدفع استدعاءات المسؤولين اللبنانيين للتحقيق معهم في قضية تفجيرات مرفأ بيروت، المواطنين اللبنانيين مجدداً إلى الشارع اللبناني تحت شعار مكافحة الفساد ومحاربة نفوذ النخبة السياسية.
وشهد لبنان بالفعل وقفات مؤيدة لتحرك بيطار بعد صدور قراره، لذلك يُرى أنه سيكون للرأي العام اللبناني دور مهم في تحريك ملف القضية، وذلك بعد تجميدها أكثر من 10 أشهر بسبب التعنت في مثول المسؤولين اللبنانيين أمام المحقق العدلي، مما أثار اتهامات للقضاء بعدم الاستقلالية وتبعيته للقوى السياسية، وهو ما قد يخلق بدوره موجة جديدة من الوقفات الاعتراضية على الوضع المتردي في لبنان.
6- ضغط خارجي: قد يكون للبعد الخارجي دور في قضية مرفأ بيروت، مثل عرض العديد من الدول تقديم بعض الأدلة التي تثبت بعض التهم تجاه المسؤولين اللبنانيين. ويُشار في هذا الصدد إلى مشاركة فرنسا بالفعل في تحقيقات مرفأ بيروت لتقديم الدعم الفني للتحقيق القضائي، وكذا قد يفتح ذلك المجال لزيادة التدخل الأجنبي في لبنان.
وتصر باريس وواشنطن على الإعلان عن نتائج التحقيق. ومن جهة أخرى قد تضغط الولايات المتحدة لضمان نزاهة القضاء، وذلك عبر التلويح باستخدام قانون "ماغنيتسكي" المعني بمكافحة انتهاكات حقوق الانسان والفساد، إذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة للانتهاء من التحقيق بشفافية.
ختاماً، فإن قضية تفجيرات مرفأ بيروت تتضمن العديد من الأبعاد، التي إذا سارت في مسارها الصحيح، سيكون لها تداعيات على المشهد الداخلي في لبنان، خاصة أنها تطال قيادات بارزة في القوى السياسية المؤثرة في المشهد الداخلي.
وقد تصبح قضية الرأي العام الأبرز في لبنان خلال الفترة المقبلة، وذلك في ظل تشابكها مع العديد من الملفات السياسية، مثل تشكيل الحكومة ومكافحة فساد النخبة الحاكمة، والملفات الأمنية، مثل ملف نزع سلاح حزب الله. ولعل المحرك لذلك الملف سيكون المجتمع الدولي والشارع اللبناني المحتقن، مما سيكون له بدوره انعكاسات سلبية على بعض الملفات الداخلية، مثل ملف إنهاء الفارغ الحكومي.