شكلت مجموعة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ما يعرف باسم "جبهة الاستفتاء" في مطلع يوليو 2021، والتي تطالب باستقالة رئيس الحكومة والبرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، بينما دعت حكومة النهضة إلى تشكيل حكومة سياسية برئاسة المشيشي، وهو ما يؤشر إلى محاولة الأطراف المعنية الخروج من الأزمة الراهنة.
وتزامن هذا التطور مع إعلان الوكالة العالمية للتصنيف الائتمائي "فيتش" في 8 يوليو 2021 عن تخفيض الترقيم السيادي لتونس من 'B' إلى 'B-' مع آفاق سلبية، وهو التخفيض التاسع منذ 2011، وذلك في الوقت الذي أكد مروان العباسي، محافظ البنك المركزي، أن هذا خفض ناجم عن عدم الاستقرار السياسي، وعرقلة السياسيين إصلاح الدعم والأجور.
أزمة متصاعدة:
جاءت دعوة التيار الديمقراطي والشعب في ظل ما تشهده تونس من تصاعد حاد في الأزمة السياسية الممتدة منذ أكثر من سبعة أشهر، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- أزمة سياسية ودستورية: لاتزال البلاد غير قادرة على علاج الأزمة السياسية الحادة، التي اندلعت منذ يناير الماضي، بشكل أصبحت مؤسسات الدولة تعاني فيه شللاً في إدارة شؤون البلاد، وغير قادرة على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، وذلك بسبب انشغال القائمين عليها بخلافاتهم وصراعاتهم السياسية.
كما تعاني حكومة هشام المشيشي الحالية أزمة عدم حسم بعض المقاعد الوزارية الشاغرة، في ظل اعتراض الرئيس التونسي قيس سعيد على اختيار المشيشي 11 وزيراً لأسباب تتعلق بتورطهم في قضايا فساد مالي وإداري.
ومن جهة ثانية، رفض سعيد تمرير تعديلات مشروع قانون لتشكيل المحكمة الدستورية، مما ساهم في تأجيل تشكيلها حتى الوقت الراهن، وهي الجهة التي كان يمكنها أن تفصل في الصراع على الاختصاصات بين سعيد والمشيشي.
ويضاف إلى الخلافات السابقة زيادة الانتقادات التي يوجهها الرئيس سعيد للحكومة والبرلمان خلال الفترة الأخيرة بسبب عجزهما عن إدارة شؤون البلاد وطرح حلول فاعلة لأزماتها المتعددة على المستويات كافة.
2- خلافات برلمانية: يعاني البرلمان الحالي استمرار الصراع بين الأحزاب العلمانية والمدنية، وعلى رأسهم الحزب الدستوري الحر، والأحزاب ذات التوجهات الإسلامية بزعامة حركة النهضة وائتلاف الكرامة، وهو ما ظهر جلياً مؤخراً في حادث اعتداء النائبين الصحبي سمارة وسيف الدين مخلوف، من "ائتلاف الكرامة"، الجناح العنيف للإسلام السياسي، على رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي خلال إحدى الجلسات العامة للبرلمان يوم 30 يوليو الماضي. وكانت الجلسة مخصصة لمناقشة عدة قضايا منها اتفاقية الحكومة مع صندوق التنمية القطري من أجل افتتاح فرع للأخير في البلاد.
وتدعو الأحزاب السياسية العلمانية لإنهاء ما وصفوه بهيمنة حركة النهضة على البرلمان الحالي، وكذلك هيمنتها على الحكومة برئاسة المشيشي، وذلك انطلاقاً من أن حل الأزمة السياسية الراهنة يكمن في أنهاء تبعية الحكومة الحالية للبرلمان الذي يرؤسه الأمين العام لحركة النهضة راشد الغنوشي.
3- إخفاق مبادرات الحوار الوطني: لم تنجح، حتى الآن، أي من المبادرات الوطنية التي تم طرحها خلال الفترة الأخيرة، وكان آخرها دعوة رئيس الدولة قيس سعيد لإجراء حوار وطني مع الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية كافة.
وكان السبب الرئيسي وراء ذلك هو مطالبة سعيد بمناقشة تغيير النظام السياسي القائم والقانون الانتخابي خلال هذا الحوار، وهو ما لاقى رفضاً من بعض الأحزاب، وعلى رأسها، حركة النهضة، حيث اعتبرتها محاولة لتكريس حكم الفرد في البلاد وإجهاض التجربة الديمقراطية الحالية.
4- تأزم الأوضاع الاقتصادية: تشهد البلاد تدهوراً كبيراً على المستوى الاقتصادي، ومن أبرز مؤشرات ذلك عدم توافر السيولة اللازمة لتسديد ديون سيادية أواخر شهر يوليو الجاري، حيث يتوجب على الحكومة سداد قرضين تبلغ قيمة كل منهما 500 مليون دولار، أحدهما في 24 يوليو الجاري، والثاني في 5 أغسطس القادم.
وأخفقت الحكومة التونسية في إحراز أي تقدم ملموس في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتأزمة سوف تواجه البلاد خطر العجز عن سداد الديون الخارجية وتراجع التصنيف الائتماني للبلاد، في ظل غياب برنامج إصلاح اقتصادي، وتراجع إيرادات القطاعات الاقتصادية المهمة مثل السياحة بسبب تداعيات أزمة كورونا.
مقترحات للتسوية:
في ظل استمرار الأزمة السياسية من دون حل، أعلنت بعض القوى السياسية عن مقترحات للخروج من الوضع الراهن، ويتمثل أبرزها في التالي:
1- دعوة "النهضة" لحكومة سياسية: دعا مجلس شورى "حركة النهضة"، مطلع يوليو، إلى "تشكيل حكومة سياسية قادرة على مواجهة الأزمة السياسية في البلاد، مع الإبقاء على المشيشي رئيساً للوزراء. ولاقى مقترح النهضة رفضاً، حتى من أقرب حلفائها، مثل كتلة الإصلاح الوطني (18 نائباً).
ويبدو أن النهضة كانت تسعى لتكثيف تحركاتها، واستدراج أحزاب موالية لها إلى مفاوضات حول تركيبة الحكومة المقبلة، وهو ما يعيد إنتاج الخلاف بين سعيد والمشيشي، حيث كان الأول يصر على إقامة حكومة تكنوقراط، وهو ما خالفه المشيشي بالتحالف مع النهضة والاستقواء بها في مواجهة الرئيس.
2- مطالبة حزبية بانتخابات مبكرة: أعلنت مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية اليسارية التي تقودها "حركة مشروع تونس" و"حزب بني وطني"، وعدد من منظمات المجتمع المدني مثل "تنسيقية اعتصام باردو" و"الرابطة التونسية للمواطنة"، وبعض الشخصيات السياسية التونسية تشكيل ما يعرف باسم "جبهة الاستفتاء" في 28 يونيو 2021، والتي تهدف إلى إجراء استفتاء شعبي حول مسألة تغيير النظام السياسي القائم وتعديل قانون الانتخابات لضمان عدم إفراز النخبة السياسية نفسها المتصدرة للمشهد السياسي الراهن في البلاد، والدعوة لتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، وهو ما يتماشى مع الأفكار نفسها التي يطرحها رئيس الجمهورية قيس سعيد.
تحديات متعددة:
تكشف المبادرتان المقترحتان للخروج من الأزمة السياسية الراهنة عن عدد من الملاحظات، والتي يمكن إجمالها في التالي:
1- إعادة إنتاج الأزمة نفسها: إن مبادرة جبهة الاستفتاء تتفق مع توجهات رئيس الدولة سعيد، وبالتالي فهي تشكل ظهيراً حزبياً وشعبياً لتوجهات سعيد للخروج من الأزمة. كما يدعو حزب "التيار الديمقراطي" و"الاتحاد التونسي العام للشغل" مضمون هذه المبادرة. وفي المقابل، فإن دعوة النهضة لحكومة سياسية تشكل إصراراً على الطرح نفسه، الذي سبق وأن طرحته للخروج من الأزمة الراهنة، وهو ما يكشف عن غياب التوافق بين سعيد والنهضة لحلحلة الأزمة الراهنة.
2- استمرار الشلل الحكومي: لاتزال الأزمة السياسية تلقي بظلالها على الأداء الحكومي الذي أصبح غير قادر على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والصحية التي تعانيها البلاد، وعلى رأسها تفاقم الأزمة الاقتصادية، في ظل عجز الحكومة عن تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية لانتشال البلاد من الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن تفشي وباء كورونا داخل البلاد، وتأخر تطعيم المواطنين (تطعيم 1.9 مليون مواطن من بين 11 مليون مواطن)، وهو ما ينذر باستمرار تداعيات كورونا على الأوضاع الاقتصادية.
3- عقبات دستورية أمام الاستفتاء المبكر: تخالف مبادرة "جبهة الاستفتاء"، وفقاً لبعض الآراء القانونية، مع ما ينص عليه الدستور التونسي، حيث يرى بعض فقهاء الدستور أن الاستفتاء الذي تدعو إليه الجبهة لا يتعدى كونه استفتاءً استشارياً، وبالتالي فلن تصبح له أي قيمة قانونية، خاصة أن الدستور الوطني لا يتضمن آلية محددة لإجراء مثل هذا النوع من الاستفتاء.
ومن جهة ثانية، لم يتم تشكيل المحكمة الدستورية حتى الآن، وهو ما يقف أمام إجراء استفتاء شعبي وفقاً لما تنادي به بعض الأحزاب السياسية المعارضة؛ نظراً لأن ذلك يتطلب وجود محكمة دستورية تشرف على عملية الاستفتاء، وهو ما يمثل عقبة دستورية تحول دون تنفيذ ما تدعو إليه مبادرة الجبهة.
وفي الختام، ترجح المعطيات السابقة تواصل الأزمة السياسية، خاصة في ظل غياب التوافق الوطني بين أطراف الأزمة، وعلى الرغم مما أفرزته الأزمة من حراك سياسي داخل المجتمع التونسي، فإن ذلك يظل غير كاف وغير قادر على حلحلة الأزمة، في ظل إصرار أطراف الأزمة على التصعيد، ورفض الأحزاب السياسية المهيمنة على البرلمان، وتحديداً النهضة، دعوات إجراء تنظيم انتخابات برلمانية مبكرة، خوفاً من خسارتها المزيد من المقاعد.