بعد توليه مهام منصبه، قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بالتراجع عن بعض التوجهات والسياسات التي اتبعها سلفه دونالد ترامب بشأن عدد من القضايا، من بينها: تغير المناخ، والهجرة، والضرائب، والرعاية الاجتماعية. وفي هذا السياق، كان التوقع السائد هو أن بايدن سينتهج أيضًا سياسات مختلفة عن سياسات ترامب تجاه الصين، ومن ثمّ ازدادت التكهنات بأن العلاقات الأمريكية-الصينية في عهد بايدن ستكون أقل توترًا. وكان المؤشر الأوضح على ذلك هو إعلان وزارة التجارة الصينية، يوم 3 يونيو الجاري، أن البلدين استأنفا "الاتصالات الطبيعية" وذلك بعد الاجتماعات الأخيرة رفيعة المستوى بين المسؤولين التجاريين والماليين في البلدين .
إلا أنه في اليوم الذي تم الإعلان فيه عن بدء حدوث انفراجة في المحادثات بين الولايات المتحدة والصين، قام بايدن بالتوقيع على أمر تنفيذي تم بموجبه توسيع الحظر الذي سبق وأن فرضه ترامب على ضخ الاستثمارات الأمريكية في الشركات الصينية التي يُعتقد أن لديها صلات بقطاعي تكنولوجيا الدفاع والمراقبة في الصين وتقوم بتطوير وبيع تقنيات المراقبة للخارج. وقد ازداد عدد الشركات الصينية المفروض عليها هذا الحظر من 48 شركة في عهد ترامب إلى 59 شركة بموجب قرار بايدن الأخير. وسيدخل هذا الأمر التنفيذي حيز النفاذ في 2 أغسطس، وقد أتاح للشركات الأمريكية مهلة عام واحد من هذا التاريخ لفك ارتباطها الاستثماري بالشركات المحظورة.
كما أكد مسؤولو وزارة الخزانة الأمريكية أنه سيتم تحديث قائمة الشركات الصينية على أساس متجدد، مما يفتح الباب نحو إدراج مزيد من الشركات الصينية في قائمة الحظر، مما يُنذر بدخول العلاقات الأمريكية-الصينية في مرحلة جديدة من التوتر والاحتقان.
لماذا قرار الحظر؟
هناك عدة دوافع قد تكون وراء اتخاذ إدارة بايدن لهذا القرار، ويمكن التمييز بين أربعة دوافع رئيسية:
1- الحصول على دعم الجمهوريين: حيث يسعى بايدن إلى جذب مزيدٍ من التأييد لسياساته وإدارته، لا سيما من بين مؤيدي الرئيس السابق ترامب. فخلال الحملات الانتخابية لطالما وجه ترامب الاتهام لبايدن بأنه سيكون متساهلًا مع الصين. وقال إنه حال وصول بايدن لسدة الرئاسة يتعين على الأمريكيين البدء في تعلم اللغة الصينية، كناية عن أن بايدن سيسمح للصين بالهيمنة والتفوق الاقتصادي على الولايات المتحدة. وبالتالي فإن الأمر التنفيذي يؤكد أن بايدن يتخذ نهجًا صارمًا مع الصين. وبالفعل لاقى هذا القرار ترحيبًا وسط النواب الجمهوريين.
2- ملفات الأقليات: وهو أمر طالما ركز عليه بايدن أثناء حملته الانتخابية، وأكد أنه فارق جوهري بينه وبين إدارة ترامب. فبموجب هذا الأمر التنفيذي تم منع الاستثمارات الأمريكية من دعم قطاع الدفاع الصيني، فضلًا عن توسيع قدرة الحكومة الأمريكية على مواجهة تهديد شركات تكنولوجيا المراقبة الصينية التي تساهم -داخل الصين وخارجها- في مراقبة الأقليات الدينية أو العرقية. وهو ما يستدل عليه من تصريح بايدن عقب توقيعه الأمر التنفيذي، حيث قال: "إن استخدام تكنولوجيا المراقبة الصينية خارج الصين، وتطوير أو استخدام تكنولوجيا المراقبة الصينية لتسهيل القمع أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، تشكل تهديدات استثنائية" .
وفي هذا الإطار، فقد لاقى هذا القرار ترحيبًا واسعًا بين نشطاء ومنظمات حقوق الإنسان التي لطالما طالبت إدارتي ترامب وبايدن باتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في الصين.
3- تخوفات أمريكية: فقد كشف هذا الأمر التنفيذي أن الولايات المتحدة تسعى للحدّ من قيام الصين باستخدام التقنيات التكنولوجية المستخدمة في الأغراض الاقتصادية المدنية لتطوير التقنيات العسكرية والدفاعية.
فالأمر التنفيذي الجديد قد تضمن شركة هواوي وشركة Hangzhou Hikvision Digital Technology، وهي شركة مصنعة لأنظمة المراقبة بالفيديو، والسبب المعلن لإدراج هاتين الشركتين كان تعاونهما مع الجيش الصيني. ورغم نفي هواوي لهذا التعاون، إلا أن الاعتماد الأمريكي على أن التعامل مع الجيش الصيني يعد عاملًا رئيسيًا لحظر الاستثمارات في الشركات الصينية، يعد مؤشرًا قويًا على الاستشعار الأمريكي للخطر من قيام الصين بدمج الاستخدامات المدنية للتكنولوجيا في المجالات العسكرية، وهو ما قد يعطي الصناعات الدفاعية في الصين دفعة قوية، مما سيمثل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي الأمريكي.
4- توفير أساس قانوني: فمن العيوب الرئيسية التي شابت الأمر التنفيذي الذي سبق وأن أصدره ترامب كان افتقاره لأساس قانوني واقعي لحظر الاستثمار الأمريكي في الشركات الصينية. حيث تمكنت شركة Xiaomi الصينية المتخصصة في صناعة الهواتف الذكية من الفوز في الدعوى القضائية التي رفعتها لإزالة اسم الشركة من بين الشركات التي فرض عليها ترامب حظر الاستثمار. وقد أصدرت إحدى المحاكم الأمريكية في مايو الماضي قرارًا بأن الأساس الذي تم الاعتماد عليه لحظر التعامل مع هذه الشركة هو أساس غير منطقي، مما أوضح الحاجة الماسّة لمراجعة وتقوية الأساس القانوني للأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، وإصدار أمر جديد وفقًا لإطار قانوني أكثر إحكامًا، وهو ما يفسر أن وزارة الخزانة كانت هي الجهة المسؤولة عن إعداد قائمة الشركات المحظورة التي تضمنها الأمر التنفيذي الجديد. في حين أن البنتاغون -الذي وضع قائمة الشركات المحظورة في عهد ترامب- لم يضطلع بدور كبير في وضع هذه القائمة تجنبًا لوجود أي ثغرات قانونية، حيث لا يتمتع البنتاغون بالخبرة الطويلة التي تتمتع بها وزارة الخزانة في وضع وإدارة برامج العقوبات على الشركات.
تأثيرات متعددة:
لا تنبع أهمية قرار بايدن في توقيته المتزامن مع إعلان الجانب الصيني عن حدوث انفراجة في العلاقات الثنائية فحسب؛ بل تنبع من كونه القرار الأول الذي يتخذه بايدن وتعتبره بكين بمثابة تصعيد ضد شركاتها ومصالحها. حيث أدانت بكين هذا القرار، واتهمت واشنطن "بتوسيع مفهوم الأمن القومي وإساءة استخدام سلطتها الوطنية"، وطالب وانغ وين بين، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، الولايات المتحدة بـ"احترام قواعد ومبادئ السوق، وإلغاء ما يسمى بالقائمة التي تقمع الشركات الصينية" . وأكد أن الصين "ستتخذ الإجراءات اللازمة لحماية الحقوق والمصالح المشروعة للشركات الصينية بحزم وفقًا للقانون".
ورغم ذلك، إلا أنه لا ينبغي النظر إلى الأمر التنفيذي الجديد لبايدن على أنه بمثابة قطيعة مع الجانب الصيني، أو رغبة في قطع أواصر التعاون مع الجانب الصيني. ففي حين أن الأمر التنفيذي أبقى على حظر الاستثمار في شركة (SMIC)، وهي بمثابة المحرك الرئيسي لتعزيز قطاع تصنيع الرقائق المحلية في الصين، مما يؤكد العزم الأمريكي على الحد من قدرة الصين على تحقيق الاعتماد الذاتي من إنتاج الرقائق الدقيقة، وهي المكون الرئيسي للسلع التكنولوجية؛ إلا أن بايدن -في الوقت ذاته- تجنب الاعتماد على تعريف موسع لمفهوم الشركات الصينية التي تعمل على تطوير تقنيات المراقبة، فلم يتضمن الأمر التنفيذي حظر كافة الشركات الرئيسية العاملة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، لم يشمل الأمر التنفيذي حظرًا لشركة Tencent وهي الشركة التي تدير خدمات رسائل تطبيق WeChat الذي يخضع لرقابة صارمة من الحكومة الصينية، وتعتمد الشرطة الصينية على هذا التطبيق للحصول على البيانات اللازمة فيما يخص التحقيقات والاستفسارات الرسمية.
لذا، يمكن القول إن بايدن يعمل على تحديد مجالات معينة للصراع مع الصين، ويبدأ في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحجيم النفوذ الصيني في هذا المجال المعين بشكل صارم. إذ من الواضح أن بايدن من خلال إصدار هذا الأمر التنفيذي يؤكد أنه سيبذل قصارى جهده للحد من التطور الصيني التكنولوجي في مجالات معينة كتقنيات المراقبة وتصنيع الرقائق.
لهذا، يرى عدد كبير من الخبراء أن بايدن لن يقوم بفتح جبهات متعددة للصراع مع الصين أو استعدائها بشكل كامل، بل يبدو أنه يعمل على زيادة أوراق الضغط التي تمتلكها إدارته، وذلك بهدف تحسين وتعزيز وضعها في التفاوض مع الجانب الصيني. وخير دليل على ذلك هو احتفاظ بايدن بغالبية التعريفات الجمركية التي سبق وأن فرضها ترامب والتي تعد ورقة ضغط مهمة أثناء التفاوض.
وفي ضوء أن مجابهة النفوذ الصيني هي أحد الموضوعات التي تحظى بتأييد الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فسيكون من الصعوبة بمكان العدول عن اتباع سياسة أمريكية صارمة تجاه الصين، مما يعني أن العلاقات الأمريكية-الصينية مرشحة للتوتر بشكل أكبر، خاصة على الصعيد التكنولوجي. ومن المرجح أن يتم تضمين مزيد من الشركات الصينية في قائمة الحظر خلال المدى القصير والمتوسط.
وتجدر الإشارة إلى أن نجاح هذا الأمر التنفيذي في تضييق الخناق على الشركات الصينية العاملة في مجال التكنولوجيا، ومن ثمّ تعزيز مكانة الولايات المتحدة في صراعها مع الصين، يتوقف على عاملين أساسيين: الأول هو قدرة بايدن على إقناع الحلفاء، خاصة في أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية، بانتهاج نهج مماثل لزيادة الضغوط على الصين. والعامل الثاني هو قدرة الشركات الأمريكية على سحب استثماراتها بشكل تدريجي من الشركات والأسواق الصينية. وتحتاج إدارة بايدن إلى مزيدٍ من الوقت والمفاوضات الداخلية مع الشركات الأمريكية وكذلك التنسيق مع الدول الحليفة لاستكشاف مدى قدرتها على تحقيق هذين العاملين.
ختامًا، يبدو أن الولايات المتحدة ليست متعجلة لحل نزاعاتها مع الصين، بل إن الاستراتيجية الأمريكية باتت أكثر تحديدًا لاستهداف مجالات التكنولوجيا الدفاعية التي تمثل تهديدًا للولايات المتحدة. ولكنّ صناع السياسات الأمريكيين والصينيين يدركون أن الاقتصاد العالمي يعاني من كساد وأزمات جمة، وأنه في مرحلة ما سيتعين على الجميع أن يتعاونوا بشكل مكثف لكي يتم تخطي فترة الكساد بعد الجائحة بأقل خسائر اقتصادية ممكنة، وهذا ما عبر عنه "وانغ هوياو"، مستشار مجلس الوزراء الصيني ومؤسس مركز الصين والعولمة، حيث قال: "إن العالم يحتاج إلى الاقتصادات والدول الكبيرة مثل الصين والولايات المتحدة معًا" ، وذلك لتخطي الآثار الاقتصادية السلبية للجائحة، مما يعني أنه لا سبيل لحل الخلافات بين الولايات المتحدة والصين في نهاية المطاف إلا عبر التفاوض، وهو نهج لم يرفضه كلا البلدين أو حتى تم التلميح بأنه حل غير ناجع للخلافات بينهما حتى الآن.