نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب كرم سعيد يتناول فيه أزمة التعديل الوزارى فى تونس... نعرض منه ما يلى:
فى السابع والعشرين من يناير الماضى، دخل المناخ السياسى فى تونس مرحلة الشحن إثر موافقة البرلمان فى 26 يناير على تعديل حكومى تضمن إدخال عدد من الوزراء الجدد فى حكومة «هشام المشيشى» التى تشكلت فى 24 أغسطس الماضى، حيث دعم 144 نائبًا التعديل الجديد. وساهمت التعديلات المقترحة فى زيادة حدة الأزمة السياسية التى تعيشها البلاد، على خلفية إعلان الرئيس «قيس سعيد»، فى 25 يناير، رفضه التعديل الوزارى بحجة وجود وزراء تطالهم شبهات فساد، غير أن «المشيشى» اختار الاستقواء بالأغلبية البرلمانية التى تقودها حركة «النهضة» ليحصل على الثقة بأغلبية مريحة. ورغم مرور أسبوع على نيل التعديل الجديد ثقة البرلمان؛ إلا أن رئيس الجمهورية رفض دعوتهم أمامه لأداء اليمين الدستورية، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لإضفاء مزيد من التعقيد على المشهد التونسى، كما يُتوقع أن تُسهم مصادقة البرلمان على التعديل فى تأجيج صراع دستورى بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية.
تجاذبات التعديل الحكومى
أعلن الرئيس التونسى فى اجتماعه مع مجلس الأمن القومى رفضه التعديل الوزارى، مشيرًا إلى أنه لن يقبل بأن يؤدى وزراء تُحيط بهم شبهات فساد القسم الدستورى أمامه، كما وصف التعديل بــ«غير الدستورى»، خاصة وأن الفصل 89 من الدستور التونسى ينص على أن يؤدى رئيس الحكومة وأعضاؤها اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، كشرط أساسى لمباشرة عملهم، بعد نيلهم ثقة البرلمان.
التصريحات الرئاسية الحادة ضد التعديل على حكومة «المشيشى»، علّق عليها رئيس البرلمان «راشد الغنوشى»، مشيرًا إلى أن دور رئيس الدولة فيه «رمزى وليس إنشائيًّا»، وهو الأمر الذى فتح فصلًا جديدًا فى الصراع بين القوى السياسية التونسية.
والواقع أن خصوصية الحدث المتعلق بالتعديل الحكومى لم تقتصر فقط على الرئيس ورئيس حركة النهضة، فقد دخلت الكتل البرلمانية المناهضة للرئيس على خط الأزمة، وفى الصدارة منها «ائتلاف الكرامة»، وحزب «قلب تونس»، الذى طالب بتفعيل فصل عزل رئيس الجمهورية.
من جانب آخر، أبدت القوى السياسية تباين فى توجهاتها السياسية مع حركة النهضة، فعلى سبيل المثال وصف أمين عام حركة (مشروع تونس) محسن مرزوق دعوة الغنوشى لإقامة نظام برلمانى كامل بأنها «تعبير صادق عن فكره الانقلابى العميق».
كما وصفت حركة «تونس إلى الأمام» دعوة الغنوشى، بأنها «انقلاب» على شرعية رئيس منتخب من 3 ملايين تونسى. ولم تقتصر مناهضة التعديلات الوزارية على القوى السياسية السابقة. فمن جهتها، أعلنت كتل: التيار الديمقراطى، وحركة الشعب، وتحيا تونس، وكتلة الإصلاح؛ رفضها منح الثقة لهذا التعديل الحكومى. كما دعت فى 24 يناير الماضى رئيسة «الحزب الدستورى الحر» عبير موسى كتلتها البرلمانية (16 مقعدًا)، لمقاطعة الجلسة البرلمانية المنوط بها منح الثقة للتعديلات الوزارية التى طرحها رئيس الحكومة «هشام المشيشى».
توجهات متعارضة
ثمة اتجاهات متعارضة بين الرئيس «قيس سعيد»، وائتلاف الغالبية فى البرلمان بقيادة حركة «النهضة» رسختها التعديلات الوزارية الأخيرة، وزادت من حدتها. فبينما تقف أسباب عدة وراء إصرار الرئيس التونسى على رفض التعديلات الحكومية التى تم تمريرها، فى الصدارة منها تحفظات «قيس سعيد» على بعض الوزراء الجدد. وثانيها مخاوف الرئيس من هيمنة حركة «النهضة» على الحكومة من جديد، خاصة فى ظل احتماء «المشيشى» بالحركة والكتل البرلمانية المتحالفة معها لتمرير التعديلات على حكومته.
وثالثها أن التعديل الوزارى ــ بحسب الرئيس «قيس سعيد» ــ لم يحترم الدستور، وتحديدًا ما نص عليه الفصل 92، أى ضرورة التداول فى مجلس الوزراء إذا تعلق الأمر بإدخال تعديل على هيكلة الحكومة. ويعود رابعها إلى مناهضة الرئاسة لهيمنة الرجال على التعديلات الوزارية، وهو ما يرتبط بتصريحات الرئيس السابقة «أن المرأة قادرة على تحمل المسئوليات كاملة وقادرة على العطاء».
فى المقابل، يدعم حزب النهضة والكتل البرلمانية المتحالفة معه التعديلات، لاعتبارات متنوعة، أولها أنها ساهمت فى تقليل نفوذ الموالين للرئيس فى الحكومة، حيث أطاح التعديل الجديد بوزراء مقربين من رئيس الجمهورية، منهم «توفيق شرف الدين» وزير الداخلية، والمسئول سابقًا عن الحملة الانتخابية لـ«قيس سعيد»، إضافة إلى وزراء الثقافة والعدل والصحة. ويرتبط ثانيها بحرص حركة النهضة على تثبيت هيمنة البرلمان كمصدر للشرعية. وفى هذا السياق جاءت دعوة «الغنوشى» لضرورة تبنى البلاد نظام الحكم البرلمانى، وأكد «الغنوشى» فى تصريحات له فى 30 يناير الماضى على أن «تونس تعيش صعوبات المزج بين النظامين الرئاسى والبرلمانى»، وأضاف: «النتيجة تكمن فى إقامة نظام برلمانى كامل فيه فصل حقيقى بين السلطات، وتكون فيه السلطة التنفيذية فى يد الحزب الفائز بالانتخابات».
وتسعى حركة النهضة إلى تصعيد أزمة التعديلات الحكومية للتغطية على الاحتجاجات التى تشهدها البلاد منذ منتصف يناير من العام الجارى بسبب فشل الإجراءات التقليدية التى اتخذتها الحكومة المدعومة من «النهضة» فى معالجة تفاقم التردى الاقتصادى، حيث انخفضت معدلات النمو إلى ما دون الصفر، ناهيك عن زيادة معدل البطالة، والذى وصل إلى ما يقرب من 16.2%، إضافة إلى ارتفاع مستويات التضخم، وتراجع سعر صرف العملة التونسية (الدينار) أمام الدولار.
مسارات محتملة
على الرغم من سعى قطاع واسع من النخب التونسية إلى تعزيز حالة الاستقرار السياسى التى تمثل نقطة استناد استراتيجية فى تعبئة موارد خارجية لإنقاذ الميزانية التونسية، لكن تصاعد الخلاف الدستورى والسياسى حول التعديلات الوزارية التى شهدتها حكومة «المشيشى» مؤخرًا تشير إلى أن ثمة مسارين محتملين:
تصاعد الصدام: مع تأكيد الرئيس التونسى «قيس سعيد» عدم دستورية التعديلات الحكومية الأخيرة، وحصوله على دعم قطاع من كتل برلمانية لا تُخفى عداءها لحركة النهضة؛ يظل الارتباك هو العنوان الأبرز فى المشهد التونسى. وقد تتصاعد فرص الصدام بعد تصريحات أطلقها رئيس الحكومة «هشام المشيشى» عشية التصديق على الوزراء الجدد، حيث قال إن إجراءات التعديل الحكومى جاءت «بعد تقييم قام به كرئيس للحكومة، طبقًا لما يخوله له الدستور من صلاحيات»، وتابع: «توجهت إلى البرلمان الذى اختاره شعبنا ليكون مصدرًا للشرعية، ونلنا منه الثقة». لذا، يبدو مستبعدًا تراجع الكتل البرلمانية الداعمة لحكومة «المشيشى» عن مواقفها الداعمة للتغييرات الوزارية الأخيرة، خاصة فى ظل سعيها لاستيعاب الضغوطات الشعبية الراهنة.
فى المقابل، ليس متوقعًا تراجع الرئيس «قيس سعيد» عن رفضه لتعيين وزراء جدد يتهمهم بالتورط فى قضايا فساد. كما يتوقع أن يصبح الرئيس أكثر صرامة فى مواجهة البرلمان بعد تلويح الأغلبية البرلمانية الداعمة لحكومة «المشيشى» بعزله. صحيح أن هذه العملية لا يمكن أن تتم إلا عبر المحكمة الدستورية المعطلة منذ سنوات، أو من خلال الأغلبية التى تتجاوز ثلثى المجلس «145 نائبًا»، وهى غير متوافرة؛ لكن لا بد وأنها أثارت استياء الرئيس.
تجميد الخلاف: ثمة عوامل تدفع باحتمال التوجه نحو تجميد الخلاف حول قضية التعديل الحكومى، أولها المخاوف من الانعكاسات السلبية المحتملة حال تفاقم واستمرار الاحتجاجات التى تشهدها شوارع تونس منذ مطلع العام الجارى، خاصة مع تنامى دعوات إلى محاصرة المقرات الحكومية، وبخاصة مقر البرلمان. وثانيها حاجة البلاد لتعبئة موارد مالية خارجية تُقدر بنحو 6 مليارات دولار لتمويل ميزانية العام الجارى 2021، فمنذ مصادقة البرلمان على مشروع الميزانية الجديدة فى 10 ديسمبر الماضى، لم تكشف الحكومة عن تدابير محددة لتمويل الميزانية.
ويعود ثالثها إلى أن النخب التونسية تعى أن الاقتصاد التونسى ليس ذاتى التمويل، وإنما يعتمد بالأساس على التدفقات الاستثمارية الخارجية، وعلى السياحة. هنا، يبقى مهمًا ضرورة التوجه نحو معالجة قلق دوائر مالية عالمية، أبدت مخاوفها صراحة من تداعيات حالة الاحتقان السياسى على أوضاع الاقتصاد الذى لا ينقصه مزيد من التراجع.
ختامًا، يمكن القول إنه بالرغم من التعقيدات التى يشهدها الداخل التونسى، وتصاعد حدة الأزمة المعيشية، فقد تتجه أطراف الأزمة نحو توظيف الأزمة الراهنة لتمرير مصالح آنية وضيقة، وبخاصة حركة النهضة التى تعتبر الأزمة مدخلًا يمكن البناء عليه لتثبيت هيمنتها على الحكومة من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز التوجه نحو إقرار صيغة الحكم البرلمانى.
المصدر: صحيفة الشروق