أثار إعلان رئيس الوزراء البريطاني عن ظهور سلالة جديدة من فيروس كورونا القلق في المملكة المتحدة وأوروبا ومختلف دول العالم. حيث تعيش بريطانيا ارتفاعًا في معدل الإصابات إلى درجة وصول لندن لمرحلة مشابهة لذروة الموجة الأولى وفقًا لتصريحات عمدة المدينة، وذلك على خلفية انتشار السلالة الجديدة من فيروس كورونا، وفي هذا السياق ربما يكون لهذا الإعلان بعض التداعيات السياسية والاجتماعية وهو ما يحاول هذا المقال رصده.
تصاعد إصابات كورونا:
أعلن وزير الصحة البريطاني "مات هانكوك"، في 14 ديسمبر الماضي، عن اكتشاف العلماء البريطانيين سلالة جديدة من فيروس كورونا تسببت في نشر الوباء بسرعة كبيرة في جنوب شرق إنجلترا، حيث رُصدت السلالة الجديدة بكثافة في لندن، وشرق وجنوب شرق إنجلترا. كما ظهرت إصابات بها في دول أخرى، مثل: الدنمارك، وأستراليا، وهولندا، وإيطاليا، عن طريق أشخاص قادمين من المملكة المتحدة.
ومن المرجّح أن تكون السلالة الجديدة قد تحورت ونشأت في المملكة المتحدة في ظل عدم وجود أدلة على قدومها من الخارج، وفقًا لأستاذ علم الجينوم الميكروبي والمعلومات الحيوية في جامعة برمنجهام "نيك لومان"، خاصة في ظل معدلات الإصابة المرتفعة في لندن ولا سيما بين كبار السن في ظل سياسة مناعة القطيع، وهي ظروف مواتية لتحور الفيروس.
وللسلالة الجديدة سمات أبرزها أنها تتميز بطفرة N501Y التي طرأت على الجزء المحفز لارتباط نتوءات الفيروس بمستقبلات "ACE2" التي تحملها الخلايا، ولذلك تتزايد بهذه السلالة قدرة اختراق الخلية، ومعدل قابلية العدوى. فوفقًا لرئيس الوزراء البريطاني "بوريس جونسون"، فإن السلالة الجديدة قد تكون أكثر قدرة على التفشي بنسبة تصل إلى 70%، وقد بلغ عدد التحورات والتغيرات في السلالة الجديدة نحو 23 تحورًا.
كما ترتفع نسب انتشار هذه السلالة من إجمالي عدد الإصابات، فقد تم اكتشاف هذه السلالة لأول مرة في سبتمبر الماضي، وأصبحت نسبة الإصابة بها في نوفمبر نحو ربع عدد المصابين في لندن، فيما ارتفعت النسبة في ديسمبر وفقًا لأحدث البيانات إلى 62% من المصابين بالفيروس في العاصمة البريطانية. وترجح سرعة انتشار هذه السلالة أن تتفوق على النسخ السابقة، وتكتسب الانتشار والسيطرة، وأن تحل محل السلالة المنتشرة الآن.
محاولات الاحتواء:
في الوقت الذي كانت تستعد بريطانيا فيه لتخفيف التدابير الاحترازية المفروضة لمدة 5 أيام خلال عطلة عيد الميلاد، جاءت السلالة الجديدة لتغير المسار وتدفع رئيس الوزراء إلى اتخاذ قرارات مختلفة. حيث أعلن في 20 ديسمبر عن إعادة فرض الإغلاق على لندن وجنوب شرق إنجلترا، وإدخال هذه المناطق ضمن تدابير المستوى الرابع من التدابير الاحترازية. كما أعلن وزير الصحة البريطاني، في 23 ديسمبر الماضي، عن انضمام مناطق أخرى في جنوب إنجلترا إلى قيود المستوى الرابع لمواجهة تفشي حالات الإصابة.
وبمقتضى هذه التدابير تُغلق متاجر التجزئة غير الأساسية ومحال مصفّفي الشعر ومساحات الترفيه والتسلية، ويُمنع السفر مع استثناء من يحتاجون إلى السفر من أجل العملية التعليمية أو رعاية الأطفال، أو من يسافرون من أجل العمل حال عدم التمكن من العمل في المنزل. كما لا يُسمح بالاختلاط والاجتماع بين الأسر، ولا يسمح بلقاء شخص بأكثر من شخص واحد في مكان مفتوح. كما تقلصت أيام اجتماعات واحتفالات الأسر في بقية أنحاء إنجلترا بمناسبة عيد الميلاد من 5 أيام بين 23 و27 ديسمبر إلى يوم عيد الميلاد وحده فقط.
وخارجيًّا، علقت هولندا في 20 ديسمبر الماضي الرحلات الجوية مع المملكة المتحدة، وسرعان ما تبعتها دول أخرى حتى تجاوز عدد الدول التي علقت رحلاتها مع المملكة المتحدة أو فرضت قيودًا على القادمين منها بعد إعلان السلالة الجديدة 40 دولة. كما أغلقت دول أخرى حدودها بشكل عام من أجل حماية مواطنيها من السلالة الجديدة.
ورغم الإجراءات التي اتخذتها دول عديدة فيما يخص حركة السفر مع بريطانيا من أجل احتواء السلالة الجديدة وعدم انتشارها؛ إلا أنه من المرجح أن تكون السلالة قد انتشرت بالفعل خارج بريطانيا طوال الشهور الثلاثة الماضية. وقد أعلنت بعض الدول فعلًا عن رصد حالات تنطبق عليها سمات السلالة الجديدة، وارتفاع معدل الإصابات بها بشكل كبير.
تأثيرات الانتشار:
أدت السلالة الجديدة -كما سبقت الإشارة- إلى إعادة الإغلاق في مناطق كبيرة من المملكة المتحدة، وكذلك دخولها ما يشبه "عزلة" بعد قرارات الدول الأخرى -خاصة الأوروبية- بما لذلك من تداعيات اقتصادية على المملكة.
وقد انخفض كل من اليورو والجنيه الإسترليني مقابل الدولار، وتراجعت الأسهم الأوروبية نتيجة عمليات الإغلاق والإجراءات الأوروبية والبريطانية، والقلق من تأثيرات السلالة الجديدة. كما هبطت أسعار النفط نتيجة مخاوف من بطء تعافي الطلب على الوقود في ظل تشديد القيود في أوروبا لمواجهة السلالة الجديدة.
وإذا ما صحت فرضية انتشار هذه السلالة بين الأطفال بسهولة أكبر عن السلالات الأخرى، فإن ذلك يمكن أن يقود إلى إغلاق للمدارس بمختلف المراحل التعليمية دون استثناء. حيث يدرس علماء بريطانيا بعض المؤشرات التي تصب في هذا الاتجاه الذي سيكون تطورًا كبيرًا آخر للفيروس يستلزم إجراءات مختلفة، ويضع قيودًا على حركة صغار السن باعتبارهم قد انضموا بذلك إلى دائرة خطر الفيروس.
وقد تعرّضت بريطانيا لانتقادات بعد الإعلان المتأخر عن اكتشاف هذه السلالة. فعلى سبيل المثال، أعرب مستشار وزير الصحة الإيطالي "ڤالتر ريتشاردي" عن غضبه من عدم إعلان بريطانيا عن السلالة الجديدة من كورونا رغم علمها بها منذ سبتمبر، حيث أعلنت إيطاليا بالفعل عن تسجيل إصابات بالسلالة البريطانية. كما تعرضت الحكومة البريطانية أيضًا لانتقادات داخلية، فقد اتهم زعيم حزب العمال "كير ستارمر"، رئيس الوزراء البريطاني بالإهمال وبطء الاستجابة والفشل في التحرك.
تداعيات مستقبلية:
يمكن القول أن هناك مجموعة من التداعيات المستقبلية لهذه التحورات السريعة لفيروس كورونا والتي يتمثل أهمها في:
1- فعالية اللقاحات: رغم احتواء السلالة الجديدة على طفرات في بروتين النتوءات الشوكية الذي تستهدفه اللقاحات؛ إلا أن استهداف اللقاحات لمناطق متعددة من هذا البروتين يحد من احتمالات أن يؤثر تغيير واحد أو تغييرات محدودة على فعالية اللقاحات. إلا أن بعض الخبراء أشاروا إلى أن هذا لا ينفي أنه إذا تمكن الفيروس من التحور بدرجة كبيرة، وأن يغير بشدة من تركيبته بدرجة تحد من فعالية اللقاحات الحالية، فسنحتاج إلى لقاحات جديدة.
ومن المرجح وفقاً لبعض الخبراء أن يشهد فيروس كورونا تحورات أخرى نتيجة ارتفاع أعداد الإصابات، وكذلك نتيجة استخدام اللقاحات والأجسام المضادة. حيث سيسعى الفيروس للتحور حتى يتمكن من إصابة الأشخاص الذين حصلوا على اللقاح والتكيف معه. كما تزداد فرص التحور بزيادة أعداد الإصابات.
2- التشكيك في "مناعة القطيع": يجد فيروس كورونا في سياسة مناعة القطيع بيئة مواتية ومشجعة على التحور. فكلما قل انتشار الفيروس، وقل احتمال انتقاله إلى أشخاص مختلفين، قلت فرصه في أن يجد ظروفًا مواتية لإنتاج طفرات جديدة. فالحد من انتشار الفيروس يحد من قدرته على التحور، ومن ثم يحد من قدرته على تخليق سلالات جديدة، وهو ما تغفله سياسة مناعة القطيع التي تتوقع تكوين أجسام مضادة، وتحورات الفيروس التي تضعفه، وتغفل إمكانية حدوث الطفرات التي تزيد من قوة الفيروس.
3- تزايد اللا يقين: زاد الحديث عن السلالة الجديدة من حالة اللا يقين الموجودة حول فيروس كورونا، حيث يدرس العلماء في بريطانيا مدى تأثر الأطفال بالسلالة الجديدة، وهو ما يُعتبر -إذا ثبت– تطورًا آخر في السلالة الجديدة يخالف سمات السلالة الأصلية. وبخلاف القدرة الانتشارية للسلالة الجديدة فإن بقية سماتها وتأثيراتها على الإنسان لا تزال تحت الدراسة، وهو ما يزيد من اللا يقين العلمي حول فيروس كورونا وآليات انتشاره وأعراضه وتأثيراته، حيث يتأثر كل ذلك بالطفرات الجينية.
4- تحديث اللقاحات: رغم أن اللقاحات الحالية لا تزال فعالة مع السلالة الجديدة من فيروس كورونا؛ إلا أن العالم قد يحتاج مع حدوث طفرات أخرى إلى تطوير دوري للقاحات وتعديلها لمواكبة طفرات الفيروس، مثلما هو الحال مع لقاحات فيروس الأنفلونزا الموسمية. حيث سيرجح علماء أن يتوطن فيروس كورونا بعد أن تخف حدته ويدوم مع البشر مثل الأنفلونزا الموسمية، مع حدوث طفرات دورية له تستدعي أن يتم تطوير اللقاح المخصص له بشكل دوري أيضًا. إلا أن الطفرات في الفيروس والتعديلات في اللقاح ستكون طفيفة حينذاك.
وبشكل عام يشير الحديث عن السلالة الجديدة والطفرات إلى أهمية تحليل عينات من الفيروس، ومسح الخريطة الجينية. فقد تمكنت بريطانيا من اكتشاف السلالة الجديدة بفضل تسجيل اتحاد (COG-UK) للتسلسل الجيني العشوائي لعينات فيروس (كوفيد-19) الإيجابية في جميع أنحاء المملكة المتحدة، وهي خطوة مهمة لاكتشاف وفهم تطورات وتحورات الفيروس، ومن ثم اتخاذ السياسات والإجراءات اللازمة.
ختامًا، شهد العالم خلال عام 2020 تحورات عديدة في فيروس كورونا المستجد، ونتجت سلالات مختلفة عن تلك التي ظهرت في ووهان الصينية. ولم يكن الإعلان البريطاني عن السلالة الجديدة حدثًا استثنائيًا، بقدر ما ينبه إلى قدرة الفيروس المستمرة على التكيف والتطور، وهو ما يجب أن تأخذه الشركات المنتجة للقاحات في الاعتبار. كما يفسر الإعلان البريطاني الزيادة الملحوظة في أعداد المصابين، ويؤكد على أهمية المتابعة العلمية للتسلسل الجيني ورصد تغيراته، وكذلك ضبابية المشهد فيما يخص قدرات الفيروس وسماته التي تتغير وتحتاج وقتًا لاكتشافها وملاحظتها. بالإضافة إلى تأثيرات القدرة الانتشارية للسلالة الجديدة وتزايد أعداد المصابين على الحالة الاقتصادية لبريطانيا والقارة الأوروبية ومختلف دول العالم، في وقت كان العالم يتطلع فيه إلى تخفيف القيود مع مطلع العام الجديد، خاصة مع إنتاج وتوزيع اللقاحات.