بعد فترة قصيرة من الهدوء النسبي، تجددت الهجمات الصاروخية على السفارة الأمريكية في بغداد. وفيما تبنت مجموعة "أصحاب الكهف" العملية الأخيرة التي وقعت في 17 نوفمبر الجاري، كشف بيان رسمي وتقارير إعلامية محلية أن منظومة "سيرم" الدفاعية الأمريكية التي جرى نصبها في السفارة قامت باعتراض 4 صواريخ "كاتيوشا" سقطت في محيط السفارة، كما استهدف الجيش العراقي إحدى وحدات الإطلاق الصاروخية. وتتفق تقديرات محلية على أن هدف العملية في المقام الأول هو توجيه رسالة إيرانية لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب التي تسعى إلى رفع سقف العقوبات التي تفرضها على إيران قبل مغادرتها للبيت الأبيض.
تغيير أولويات:
يطرح سياق هذه العملية تحديداً مؤشراً ظرفياً خاص بالمرحلة الحالية في إطار العلاقة بين طهران وإدارة ترمب، إذا ما قورنت بالعمليات التي استهدفت السفارة والقوات الأمريكية خلال الشهور السابقة بعد ظهور عدد من فصائل النخبة الجديدة الموالية لإيران على الساحة العراقية.
فبينما اعتمدت مؤشرات الهجمات السابقة على دوافع تتعلق بالضغط الإيراني على الإسراع في تنفيذ جدول الانسحاب الأمريكي من العراق، والعمل ضد سياسات الهيكلة الأمنية التي ينتهجها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي والتي قوضت من هيمنة إيران على ميليشيا "الحشد الشعبي"، فإن الدافع الحالي يأتي في سياق إظهار إيران جانباً من القدرة على الردع في مواجهة حزمة العقوبات الأمريكية التي يجرى إعلانها يوماً تلو الآخر، وهو ما لا ينفصل عن ظهور تقارير كشفت عن نقاش جرى داخل الإدارة الأمريكية بشأن توجيه ضربة عسكرية ضد إيران، لإرباك المشهد قبل وصول إدارة الرئيس جو بايدن التي ربما تتبنى سياسة مختلفة تجاه الأخيرة، وبالتالي فالهدف المباشر هو تصعيد إيراني ضد سياسات إدراة ترامب في مرحلتها الأخيرة وليس تصعيداً ضد الوجود الأمريكي في العراق في مرحلة ما بعد مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني.
ساحة رئيسية:
على الرغم من انتهاج حكومة الكاظمي سياسة متوازنة حيال كل من طهران وواشنطن بالتوازي مع دعوتها الدائمة لإخراج العراق من مجالات تصفية الحسابات فيما بينهما، إلا أنه سيظل من الصعوبة تحقيق ذلك، خاصة أن العراق تعد، وفقاً لمراقبين، الساحة التي يتسع فيها هامش الخيارات أمام طهران مع استمرار وجود مصالح أمريكية حيوية ممثلة في بقاء نحو 2500 جندي أمريكي، بشكل يجعل منها هدفاً دائماً، بما يعني أن العراق ستظل إحدى ساحات الصراع الرئيسية التي يجرى من خلالها تقييم قدرة الردع الإيرانية في مواجهة الولايات المتحدة.
في مقابل ذلك، ترفع واشنطن مستوى الضغوط من الجوانب كافة باستخدام العقوبات، فضلاً عن توزيع أحمال تلك الضغوط في اتجاهات مختلفة، في مواجهة وكلاء ايران. ففي اليمن، على سبيل المثال، وبعد أن ظهر دور الحرس الثوري في صنعاء إلى العلن، دعت واشنطن المنظمات الدولية، حسب تقارير عديدة، إلى الخروج من مناطق نفوذ الميليشيا "الحوثية" المتمردة، كونها يمكن أن تصبح هدفاً للأخيرة، خاصة بعد التسريبات الأمريكية بشأن إدراج الميليشيا على لائحة المنظمات الإرهابية. كما يبدو أن ثمة تنسيقاً مع إسرائيل على الساحة السورية، وهو ما انعكس في استهداف مواقع إيرانية داخل سوريا في 18 نوفمبر الجاري.
حدود قائمة:
تلقي هذه الأحداث في مجملها الضوء على تطور موقف الوكلاء الإيرانيين في العراق، مع إقدام طهران، عقب مقتل سليماني إضافة إلى تنفيذ عملية إدماج ميليشيا "الحشد" في القوات المسلحة، على تشكيل فرق نخبة متخصصة محدودة العدد (تقدر ما بين 250 إلى 300 عنصر) من الميليشيات الأكثر ولاءاًَ لها ("كتائب حزب الله"- "عصائب أهل الحق" – "كتائب سيد الشهداء")، لتظهر 3 فرق جديدة، هى "قبضة المهدي" التي ترجح بعض التقديرات أنها منبثقة عن "العصائب"، و"أصحاب الكهف" التي تحمل شعاراً دالاًَ وهو صورتى الخميني وخامنئي وتتبع، وفق ترجيحات، "كتائب سيد الشهداء"، و"عصبة الثائرين" التابعة لـ"كتائب حزب الله"، ومجملها تدار مباشرة من خلال قيادة فيلق القدس، ومن ثم فإن العمليات التي تقوم بها تنسب إلى طهران بشكل مباشر.
وفي المقابل، تُظهر ميليشيا "الحشد" أنها ضد تصرفات هذه العناصر، بل أحياناً تحملها المسئولية عن عمليات طائفية، على نحو ما جرى في "مجزرة الفرحاتية" في صلاح الدين (أكتوبر 2020). ووفقاً لتقديرات محلية، لا يزال من الصعوبة بمكان التأكد من صحة ما إذا كان حرص بعض قوى "الحشد" على إبداء موقف معارض حقيقياً أم مناورة.
لكن اللافت في هذا السياق، هو سعى إيران إلى إظهار ارتباطها بتلك النوعية من العمليات، ليس فقط من خلال رفع صور القادة الإيرانيين، لكن أيضاً عبر توجيه إشارات بأنها تتبنى تلك العمليات بشكل غير مباشر، وهو ما يبدو جلياً في الطريقة التي عالجت بها وسائل الإعلام الإيرانية عملية استهداف السفارة الأمريكية، على غرار التقرير القصير الذي نشرته وكالة "مهر" الإيرانية للأنباء، وهو تقرير كاشف ومختلف عن بيان مجموعة "أصحاب الكهف" الذي تبنت فيه العملية، حيث أشار إلى الرسالة الرئيسية المباشرة من العملية وهى أن "الهدنة انتهت"، بما يعني أن الميليشيات ستعاود مرة أخرى استهداف المصالح الأمريكية، لاسيما السفارة والأرتال المتحركة.
كذلك، فإن البيانات العراقية أشارت إلى استهداف السفارة بـ4 صواريخ بناءً على تقدير عددها من الحطام الذي سقط في المنطقة الخضراء، بينما أشار تقرير الوكالة الإيرانية إلى أن هناك 6 صواريخ على الأقل تم إطلاقها. وفي حين كشفت التقارير العراقية عن أن الصواريخ المستخدمة من نوع "كاتيوشا"، أكد التقرير الإيراني أنها صواريخ تستخدم للمرة الأولى.
السيناريو التالي:
يرسم هذا السياق ملامح أقرب السيناريوهات المتصورة في التعامل بين طهران وواشنطن على المدى القصير. فالأرجح أن تواصل الأولى سياسة التصعيد ضد الوجود الأمريكي في العراق كإحدى الساحات الرئيسية للمواجهة، بالنظر إلى الوجود العسكرى الأمريكي، لكن قد تلجأ إلى تغيير تكتيكي في نوعية ومواقع الاستهداف.
ففي ظل تحصين السفارة الأمريكية دفاعياً بعد تعرضها لهجمات متوالية، يعتقد أن تكرار الاستهداف إما محاولة لاستكشاف نقاط ضعف، أو كرسالة رمزية بالنظر إلى طبيعة الهدف. لكن على الأرجح، ربما تلجأ الميليشيات الموالية لإيران إلى مضاعفة استهداف الأرتال العسكرية المتحركة، أكثر من الأهداف الثابثة، كون الأولى تمثل "الحلقة الرخوة" التي يصعب تحصينها، وبالإضافة إلى ذلك قد تستهدف عربات النقل التابعة لشركات تعمل في مجال الإمدادات اللوجستية للقوات الأمريكية.
فضلاً عن ذلك، فإن إشارة تقرير الوكالة الإيرانية إلى أن الصواريخ المستخدمة في استهداف السفارة الأمريكية جديدة هى أيضاً نقطة لافتة. فمع ظهور هذه المجموعات على الساحة العراقية كانت تسمى بمجموعات "الكاتيوشا" نسبة إلى نوعية الصواريخ المستخدمة، لكن هذا المسمى تراجع لصالح أسماء وشعارات هذه المجموعات التي تطلق على نفسها "المقاومة الإسلامية"، لذا فقد يحدث أيضاً تطوير في آليات الهجوم باستخدام الصواريخ والطائرات من دون طيار والعبوات الناسفة.
ختاماً، يمكن القول إن أقرب التفسيرات للهجوم على السفارة الأمريكية في بغداد هو إظهار بصمات إيران، وتوجيه رسالة تصعيدية تفيد انتهاء الهدنة الشكلية التي سادت خلال الأسابيع الأخيرة قبل العملية، لكنها تظل عملية تحت السقف التقليدي لرد الفعل الإيراني على الساحة العراقية، وسيظل هو السياق المتبع إلى حين قيام أحد الطرفين بتصعيد غير متوقع، يمكن أن يغير من قواعد اللعبة على غرار ما جرى في عملية قاسم سليماني.