يطرح الصراع الطويل الممتد في شمال أوغندا إشكالية الديني والسياسي في الواقع الإفريقي المعاصر. فقد عجزت معظم الاقترابات الغربية المألوفة في دراسة الصراعات عن تقديم تفسير مقنع وشامل لاستمرار الصراع. فالبعض رأى أن حالة الحرب في جنوب السودان كانت تمثل بيئة مناسبة لوجود حركات التمرد الأوغندية. بيد أنه مع استقلال دولة الجنوب السوداني، والاتفاق مع أوغندا على طرد المتمردين من الأراضي السودانية، لم يعد هذا التفسير ذا مصداقية. كما أن البعض الآخر يرى في قائد التمرد الحالي "جوزيف كوني" مجرد مشعوذ يقود مجموعة من الصبية والمتعصبين. لقد أصبح الرجل الذي ادعى النبوة أحد أسوأ زعماء التمرد سمعة في إفريقيا من خلال قيادته لجماعة "جيش الرب" للمقاومة، حيث جمع بين تناقضات التصوف الديني وعقلية رجل العصابات المخضرم وقسوة الكراهية القبلية المتعطشة للدماء. وعلى الرغم من الجهود الدولية والإقليمية للإمساك بزعيم حركة الإرهاب "جوزيف كوني" إلا أنه لا يزال حتى اليوم حرًّا طليقًا.
وتواصل جماعات جيش الرب للمقاومة -التي عانت من انشقاقات وهزائم متكررة- شن هجمات، معظمها على المدنيين في القرى، في المناطق الحدودية لجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية إفريقيا الوسطى ودولتي جنوب السودان والسودان. لم يهزم جيش الرب للمقاومة بالضربة القاضية بعد. ففي عام 2019، تمكن المتمردون الإرهابيون من اختطاف نحو 222 شخصًا، بما في ذلك عشرات الأطفال. ولعل ذلك كله يطرح تساؤلات حول تعقيدات الظاهرة الإرهابية في شرق إفريقيا، والدروس المستفادة من جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة.
الأبعاد الدينية للصراع:
يمكن القول بشكل عام إن خبرة المجتمعات المتضررة من التطرف العنيف تشير إلى أهمية دراسة العوامل المحورية الدافعة للصراع والتي ترتبط بالحرمان الاجتماعي والاقتصادي، والحكم السيئ والتطرف الديني. وهذا ما جسدته حركة "جوزيف كوني". في البداية تم توظيف الدين لتحقيق مآرب سياسية. لقد كان ظهور حركة الروح القدس بقيادة "أليس لوكينا" تمثل تحولًا فارقًا في تطور الصراع الذي تشهده منطقة شمال أوغندا. فقد زعمت هذه السيدة أنها تمثل روح أحد الإيطاليين الذين قُتلوا في الحرب العالمية الأولى. وقد لبست هذه الروح جسد "أليس" في 25 مايو 1985. وبعدما زعمت هذه السيدة -في بادئ الأمر- أن لديها قدرة على علاج المرضى، فإنها سرعان ما أعلنت عن تأسيس حركة الروح القدس. وارتكزت هذه الحركة على اعتقاد عام مفاده أن شعب الأتشولي مهدد بالزوال، وأن تحصين هذا الشعب من الدمار يقتضي تبني استراتيجية جديدة. إذ اعتقدت "لوكينا" أن المحافظة على بقاء الأتشولي يتطلب تأسيس قوة خارقة غير طبيعية من الأتشولي. وقد استطاعت الحركة بمساعدة بعض جنود الجيش الوطني المنشقين تحقيق انتصارات محدودة على القوات الحكومية، وهو ما أيّد الانطباع بأن السيدة "لوكينا" تمتلك قوة خارقة.
ولا شك أن عالم الأتشولي يموج بالرموز والقيم الروحية. إنه عالم مشبع بالأرواح والأشباح والقوى الخفية. وقد أدت الكوارث التي تعرض لها شعب الأتشولي، ولا سيما في أعقاب انهيار نظام ميلتون أوبوتي، إلى الاعتقاد بأن الصراع ما هو إلا تطهير للنفس. كما زعمت "أليس" أنها تمتلك الروح القدس التي تمكنها من التخلص من الأرواح الشريرة لهؤلاء الذين قتلوا في المعارك والاستعاضة عنها بالملائكة. وعلى أية حال فقد كانت هذه الحركة الدينية قصيرة الأجل، حيث سرعان ما تم التصدي لها في عام 1987. بيد أن تداعيات هذه الحركة كانت بعيدة المدى على تطور الصراع في شمال أوغندا.
"جوزيف كوني" وجيش الرب للمقاومة:
يعد هذا الجيش واحدًا من أكثر حركات التمرد غموضًا في إفريقيا ما بعد الاستعمارية. وليس ثمة أهداف واضحة ومحددة للحركة. وفي إحدى المناسبات فشلت لجنة برلمانية حكومية في تحديد أسباب التمرد الذي تشهده منطقة شمال أوغندا. ومن الأمور المثيرة للتعجب أن "كوني" يصف أتباعه بالمتمردين، في حين كان الرئيس "موسيفني" يُصر على عدم التفاوض معه لأن ذلك يعني ببساطة "إعطاء الإسعافات الأولية للثعبان".
وثمة روايات عديدة تؤكد -في مجملها- إضفاء الصفات الكاريزمية على "جوزيف كوني"، فهو يرتدي نظارات أشبه بتلك الخاصة بالطيارين، ويختفي أحيانًا في أزياء نسائية، وله صوت ساحر، الأمر الذي يعطيه قوة السحر على أتباعه وجنوده. وقد التحق "كوني" في البداية بجيش الدفاع الشعبي الأوغندي المعارض، وفي ذلك الوقت كان "كوني" مجرد كاهن في كنيسة كاثوليكية. وكان شأنه في ذلك الوقت شأن شباب الأتشولي الذين التحقوا بالتمرد نتيجة إساءة استخدام السلطة من قبل جيش المقاومة الوطنية. وقد رفض "كوني" اتفاق السلام مع الحكومة الأوغندية، وقرر هو ورفاقه الاستمرار في الحرب ضد حكومة "يوري موسيفيني".
وبعد هزيمة حركة الروح القدس أعلن "كوني" أنه ورث روح "أليس لكوينا". ومع ذلك لم يتمكن "كوني" من جذب التأييد الشعبي العارم الذي حصلت عليه السيدة "لكوينا" من قبل. في بادئ الأمر عام 1988 أطلق "كوني" على حركته اسم "الجيش الشعبي الأوغندي الديمقراطي المسيحي"، لكنه سرعان ما قام بتغيير اسمه ليصبح فقط "الجيش الأوغندي الديمقراطي المسيحي". وفي عام 1991، قام "كوني" بتغيير اسم حركته مرة ثالثة ليصبح "جيش الرب للمقاومة". وقد تأرجحت أفكار ومعتقدات "جوزيف كوني"، فتارة نجده يؤمن بأفكار حركة الروح القدس، وبصفة خاصة مكوناتها المسيحية التي ترفض السحر والشعوذة، وتارة أخرى نجده يرفض ذلك ويمارس طقوسًا دينية أخرى.
وعلى أية حال فقد تمكن "جوزيف كوني" من تطوير أفكار حركة الروح القدس، حيث استطاع أن يجمع جيش الرب للمقاومة حول فكرة التغيير الجذري للأتشولي من الداخل، بما يُشبه الحرب الصليبية الأخلاقية، وهو الأمر الذي يجعل عملية التحول تلك عنيفة، ويبدو أن "كوني" من خلال هذا المكون الإيماني قد أضفى مشروعية دينية وأخلاقية على حركته المسلحة.
وفي الواقع، لم يتمكن جيش الرب من تحقيق نجاح عملي، حيث إنه افتقد التأييد الشعبي، كما أن القوات الحكومية التي قادت حملة عسكرية ابتداء من عام 1991 للتخلص من جيش الرب استطاعت أن تحد من قوة حركة المعارضة المسلحة في الشمال الأوغندي. ورغم اتفاقيّات السلام التي أفرزتها عملية المفاوضات الطويلة التي استمرت طيلة عام 1993، إلا أن الصراع عاد سيرته الأولى. لقد أعلن "كوني" في نهاية المطاف رفضه الاتفاق مع الحكومة، منتقدًا موقف حكماء الأتشولي الذين اتهمهم بالخيانة العظمى وبالتخلي عنه.
وربما يُمكن تفسير ذلك الموقف من زاويتين: الأولى عدم رغبة بعض عناصر الأتشولي في المهجر في استمرار اتفاق السلام، وعملهم الدؤوب من أجل تقويضه. أما الزاوية الثانية فإنها ترتبط بموقف بعض قادة الجيش الأوغندي الذين لم يعجبهم الاتفاق أو تقديم تنازلات للعدو وهو على شفا الهزيمة التامة.
وعلى أية حال فقد أعلن الرئيس "موسيفني" في فبراير 1994 إنذارًا نهائيًّا لقوات جيش الرب للمقاومة بضرورة إلقاء أسلحتهم في غضون أسبوع واحد، وإلا قام الجيش بالقضاء عليهم مرة واحدة. ولا شك أن هذا الإنذار الحكومي كان يعني في أبسط دلالاته انتهاء العملية التفاوضية لتسوية مشكلة جيش الرب للمقاومة.
ومن الملاحظ أن استراتيجية "جوزيف كوني" قد تغيرت تغيرًا واضحًا بعد عام 1994، حيث إنه اتجه لعقاب شعب الأتشولي الذي لم يقف إلى جانبه. واستطاع "كوني" أن يجد تأويلًا دينيًّا لأفعاله العنيفة تلك. إذ رأى ضرورة معاقبة والتخلص من شرار الناس بإنزال اللعنات عليهم، وذلك بغرض حماية الأقلية المؤمنة التي تتسم بطهارة القلب وقوة الإيمان. ولذلك فقد شهد النصف الثاني من التسعينيات عمليات عنف واسعة ارتكبها جيش الرب للمقاومة في مواجهة السكان المدنيين.
أضف إلى ذلك أن "كوني" لجأ إلى أسلوب اختطاف الأطفال والشباب من أجل تجنيدهم في صفوف قواته. فقد تم اختطاف آلاف الصبية من الفتيان والفتيات وضمهم لجيش الرب. ويمكن تفسير ذلك السلوك بأنه يمثل رغبة من جانب "جوزيف كوني" لبناء هوية جديدة للأتشولي. فهؤلاء الشباب يمثلون صفحة بيضاء يمكن من خلالها تشرب أفكار وتعاليم "جوزيف كوني".
وفي عام 1999، تم التوقيع على اتفاق نيروبي بين كل من أوغندا والسودان، حيث التزم الطرفان بعودة العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد قطيعة دامت أربعة أعوام، كما تعهدا كذلك بوقف دعم حركات التمرد في بلديهما. وعليه فقد جفت منابع المساعدة والدعم لقوات جيش الرب للمقاومة منذ ذلك الحين، وأدى ذلك إلى انشقاقات كثيرة داخل صفوفه، حيث أعلن بعض قادته استسلامهم للقوات الحكومية.
وتُشير بعض التقارير إلى أن إحدى الفرق المنشقة عن جيش الرب تعمل في محيط ولاية الاستوائية في جنوب السودان، في حين أن الفرقة الأخرى بقيادة "كوني" نفسه قد أعادت انتشار أفرادها في شمال جمهورية الكونغو الديمقراطية وعبر أراضي جمهورية إفريقيا الوسطى.
جدلية تهميش "الأتشولي":
لا مراء في أن كلًّا من حركة الروح القدس وجيش الرب للمقاومة قد انطلقا من دوافع دينية وغيبية عامة. فقد آمن كلٌّ من "أليس" و"كوني" بأن المآسي التي تعرض لها شعب الأتشولي قد ترجع إلى خطاياهم وشرور أعمالهم، وعليه فإن إنقاذ الأتشولي من الدمار يحتاج إلى قوة روحية يلوذون بها. وربما حاجج البعض بأن هذا الغطاء الديني قد يحجب خلفه نوازع سياسية دفينة، وعوامل ترتبط بطبيعة الواقع الاقتصادي والاجتماعي شمال أوغندا.
لقد كان الخلاص لحالة الإحباط والتهميش والخوف التي سيطرت على شعب الأتشولي، وعضدتها حالة عدم الاستقرار السياسي في أوغندا بعد الاستقلال، يتمثل في ما نادت به حركة الروح القدس من رفض المدنية الحديثة، والعودة إلى نمط الحياة التقليدية التي عاشها الأتشولي قديمًا، مع إعطائها نزعة روحية مسيحية. وقد جاء "جوزيف كوني" ليكمل هذه الرؤية بشكل أكثر تطرفًا بعد اعتقاده بخيانة زعماء الأتشولي له عام 1994 أثناء مفاوضاته مع الحكومة الأوغندية، وربما يبرر ذلك استخدامه العنف المسلح في مواجهة أهله وعشيرته.
ولعلّ هذا الموقف المتطرف الذي تبناه "جورج كوني"، والمتمثل في اختطاف الأطفال وتجنيدهم في جيشه، وارتكابه بعض الفظائع بحق السكان في الشمال، قد جعل الأتشولي بين فكي كماشة. فهم في مواجهة القوات الحكومية من جهة، وفي مواجهة قوات جيش الرب للمقاومة من جهة أخرى. الأمر الذي أضفى على حياتهم مزيدًا من التعقيد والتهميش.
الأبعاد الإقليمية والدولية:
وعلى أية حال فإن نجاح "جوزيف كوني" في البقاء طليقًا على الرغم من الجهود الدولية الحثيثة للإيقاع به، ومنها قرار الرئيس "أوباما" بإرسال قوات عسكرية لمساعدة جمهورية إفريقيا الوسطى في القضاء على خطر جيش الرب للمقاومة؛ ربما يُعزى إلى ذكائه الواضح في استغلال السياق الإقليمي المضطرب، فضلًا عن نجاحه في إقناع أتباعه بقدراته الروحية الخارقة. وهكذا تمكن "كوني" من استغلال المعتقدات الدينية لإثارة نوازع الخوف والتهميش لدى شعب الأتشولي. وبعد تجاوز حركة "كوني" نطاقها الإقليمي في الشمال الأوغندي، وتوسع أنشطتها الإرهابية لتشمل جمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، أصبحت مصدر قلق إقليمي. وعليه فقد قرر كل من الاتحاد الإفريقي وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية وأعضاء المؤتمر الدولي المعني بمنطقة البحيرات العظمى التصدي للتهديد المتزايد الذي يشكله جيش الرب للمقاومة من خلال تشكيل قوة عسكرية دولية مشتركة للقضاء على "جوزيف كوني" ورفاقه.
بعد وقت قصير من هجمات 11 سبتمبر 2001، أدرجت الإدارة الأمريكية "جيش الرب للمقاومة" بزعامة "كوني" على رأس قائمة الحكومة الأمريكية للإرهاب، حيث تم تصنيفه كمنظمة إرهابية أجنبية. وفي عام 2008، وجه الرئيس "جورج دبليو بوش" القيادة الأمريكية الإفريقية (أفريكوم) لدعم وتجهيز القوات الحكومية الأوغندية من أجل القبض على "جوزيف كوني" وتقديمه للعدالة. وفي عام 2011، أعاد الرئيس "باراك أوباما" تنشيط الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، حيث قام بنشر فرقة قوامها مائة شخص لمساعدة القوات الأوغندية والإفريقية في القضاء على "كوني" ورفاقه. وقد اكتسب "جوزيف كوني" شهرة عالمية غير متوقعة في مارس 2012 بعد بثّ الفيلم الوثائقي "كوني 2012" الذي أعدّته منظمة غير ربحية أمريكية على الإنترنت. وفي عام 2013، وضعت وزارة الخارجية الأمريكية مكافأة قدرها 5 ملايين دولار مقابل أي معلومات تفيد في إلقاء القبض على "كوني"، ولكن دون جدوى. وعلى أي حال، سرعان ما تضاءل الاهتمام الشعبي، في حين بقي "كوني" طليقًا في الأدغال بعد مرور نحو ثلاثة عقود على بداية تمرده. ويبدو أن كلًّا من الولايات المتحدة وأوغندا قد يئستا من المطاردة، حيث تم الإعلان في أبريل 2017 وقف العملية العسكرية الهادفة لتعقب "كوني" بحجة أن جيش الرب لم يعد يشكل تهديدًا لأمن إفريقيا.
تراجع الرواية الدينية لصالح البعد الإجرامي:
تاريخيًّا، مارست رسائل الدعوة للانشقاق دورًا مهمًّا في احتواء تهديد جيش الرب للمقاومة. على سبيل المثال، غالبًا ما كان يتم بث برامج إذاعية موجهة تضمنت شهادات المقاتلين السابقين الذين ألقوا أسلحتهم، وهو ما شجع المئات على الانشقاق. كما أظهرت مبادرات قادة المجتمع المدني المحلي، نجاحًا ملحوظا في جمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية. كما بدأت أوغندا برنامج عفو سنة 2000 ترتب عليه قيام حوالي 13 ألفًا من مقاتلي جيش الرب بإلقاء أسلحتهم والعودة إلى ديارهم. وبحلول عام 2012، كان لدى جيش الرب للمقاومة أقل من 100 رجل انقسموا إلى فصائل منتشرة في جميع أنحاء شرق إفريقيا. إن هذه الحركة الإرهابية ببساطة لم تعد تملك البنية التحتية التي كانت تمتلكها ذات مرة.
ولا يزال جيش الرب للمقاومة يحاول تجنيد الأطفال، وإكراههم، وتلقينهم خطاب الكراهية والتطرف. وغالبًا ما يكون اختطاف الأطفال من القرى، حيث يتم تجنيدهم بصورة وحشية. لكن مع التطورات الجديدة، وتزايد الضغوط العسكرية من أجل الحد من عنف جيش الرب للمقاومة، حدث تحول في الرواية الدينية التي تمسكت بها الحركة على مدى العقود الماضية. لقد تحوّل "جوزيف كوني" ورفاقه الهاربون من عقيدة القتل باسم الرب إلى دافع القتل الإجرامي من أجل البقاء على قيد الحياة. قد لا يرغب "كوني" في الاستسلام، لكن الآخرين قد يفعلون ذلك، بمن فيهم ولداه سالم وعلي. ومع ذلك، فإن العديد منهم محبطون وخائفون من القيام بذلك، لأنهم -وفقًا لروايات المنشقين- لم يعودوا يعرفون مكان منازلهم أو أين سيذهبون. بل ويخشى آخرون من انتقام السكان المحليين أو القوات المدنية والعسكرية الوطنية.
الدروس المستفادة:
لا يمكن تفسير الظاهرة الإرهابية كما عكستها الحالة الأوغندية من منطلق العوامل الدينية أو العرقية فقط؛ حيث إنها تنطوي على دوافع إجرامية وذرائعية بشكل واضح. استطاع "جوزيف كوني" استغلال الانقسام الإقليمي والعرقي بين الشمال والجنوب الأوغندي لتحقيق مآربه في القيادة والسلطة. لقد أضحت الهوية في أوغندا في مرحلة ما بعد الاستقلال مستندة إلى أسس عرقية / قبلية، وهو الأمر الذي أسهم في تأسيس هوية خاصة بالأتشولي الذين رأوا أنفسهم أفقر من الجماعات الأخرى على الرغم من كونهم الأقوى عسكريًّا.
ونظرًا لضعف الأساس الفكري لحركة جيش الرب للمقاومة فقد فشلت عمليات الحوار معهم بعيدًا عن المقاربات الأمنية والعسكرية التقليدية. لقد أثبتت خبرة التفاوض مع "كوني" ورفاقه أنهم كانوا يرغبون في كسب مزيد من الوقت لالتقاط الأنفاس والعودة بعد ذلك إلى نشاطهم الإجرامي. ولعل ذلك يطرح -في أحد جوانبه- جدوى الحوار مع الإرهابيين في إفريقيا. على أن هناك متغيرين أساسيين في الحرب على الإرهاب وهزيمة الإرهابيين؛ أولهما يتمثل في أهمية الدعم الدولي والإقليمي لتوفير المساعدات العسكرية واللوجستية من أجل دحر الإرهابيين من خلال اقتراب العصا الغليظة.
أما المتغير الثاني فهو يتمثل في محورية الدور الذي تقوم به المبادرات المحلية، سواء في دحض الروايات التي تروجها الجماعات الإرهابية، أو من خلال تشكيل جماعات الحماية المحلية. فعندما عجز الجيش الأوغندي عن حماية المدنيين من الهجمات الوحشية التي يشنها جيش الرب للمقاومة، لجأت المجتمعات المحلية إلى تشكيل جماعات يقظة أو دفاع عن النفس. وكان من بين الميليشيات الأكثر فعالية جماعة "رماة السهام" أو "حرَّاس الوطن" في شرق أوغندا. وعلى أية حال فإنه على الرغم من حالة الضعف التي يعاني منها جيش الرب للمقاومة -شأنه في ذلك شأن تنظيم داعش وأضرابه- نتيجة الهجمات العسكرية والأمنية، فإنه لم يهزم تمامًا بعد، ولا يزال "كوني" حرًّا طليقًا. إذ لا تزال هذه الحركة الإرهابية تقوم باختطاف وتشريد وترويع المدنيين في بلدان متعددة. ومن المحتمل إذا توقفت مبادرات مكافحة الإرهاب تمامًا في شرق إفريقيا أن يعود جيش الرب للمقاومة إلى التوسع والانتشار مرة أخرى.