كتبت الصحيفة الصينية «غلوبال تايمز» في عددها بتاريخ 14 أبريل 2020 أن الأزمة الصحية الحالية أظهرت نقاط الضعف الجوهرية في العولمة الغربية، وبيّنت أن اللحظة الصينية قد أزفت. ليست هذه النغمة بالجديدة تماماً في الخطاب السياسي الصيني منذ اعتلاء «شي جين بنغ» مقاليد الحكم، مبشراً بالعصر الصيني البديل عن الهيمنة الغربية، إلا أن الديناميكية التي تولدت عن أزمة كورونا الراهنة أوحت للعديد من المقاربات التحليلية بنجاعة النموذج الصيني في الحكامة العمومية، وذهب بعضها إلى أن خريطة العلاقات الدولية قد أضحت في طور التبدل الجذري لصالح العملاق الآسيوي الصاعد.
وما نراه أن هذه الأطروحة تحتاج إلى تمحيص وتدقيق، باعتبارها لا تزال أسيرة المقاربة القطبية العتيقة التي لم تعد صالحة لاستكناه طبيعة النظام الدولي الذي لا تحكمه معادلة السباق الاستراتيجي بين قوى متنافسة تتصارع حول الهيمنة على المجال العالمي الواسع، فمفهوم الهيمنة نفسه فقد كل رصانة نظرية في عالم شديد التداخل والترابط لا يشكل المعطى السياسي لوحده مركز التحكم فيه.
إن ما يشكل خصوصية المشروع الصيني هو إدراك هذه الحقيقة التي تتناسب مع العقل الاستراتيجي الصيني الذي لا يتصور الفاعلية في النظام الدولي من منظور الأحادية المهيمنة، وإنما من منظور القوة المرجعية المحورية التي تفرض أولويتها من خلال شبكة المصالح الكونية المرتبطة بها.
من هذا المنظور، يتضح أن ما تريده الصين هو التحكم في قطار العولمة إثر تخلي الولايات المتحدة المتزايد عن دور الراعي المحوري للنظام الدولي في دوائره الاستراتيجية والتجارية والاقتصادية، وعجز الاتحاد الأوروبي عن بناء قوة جيوسياسية مستقلة وفاعلة.
ويبرز هذا الطموح الصيني الجديدة في مستويات ثلاثة متمايزة:
المستوى الأول يتمثل في محاولة بناء منظومة تقنية اتصالية بديلة عن منظومة الذكاء الاصطناعي المرتبطة بالولايات المتحدة. ووفق صحيفة «فاينانشال تايمز» (27 مارس 2030) فقد قدمت الصين مقترحاً كبيراً بعنوان «بروتوكول الإنترنت الجديد» N.I.p بهدف استبدال نظام الإنترنت الحالي الخاضع للشبكات الإلكترونية الأميركية الكبرى (آبل وغوغل وآمازون وفيسبوك) بنظام اتصال يكفل سيادة الدول على أمنها المعلوماتي ويحول دون مخاطر القرصنة والتلاعب بالمعطيات الشخصية ونشر خطاب الكراهية والعنف، مع توفير خدمات أسرع وأقل تكلفة. ووفق الصحيفة البريطانية، فقد تقدمت الصين خطوات كبرى في هذا المشروع الذي استمالت له العديد من بلدان العالم، بما فيها بعض الدول الليبرالية التي اعتبرت أن النظام المعلوماتي الإلكتروني المفتوح يحتاج بالفعل للضبط والتنظيم لصالح قيم الشفافية والديمقراطية.
أما المستوى الثاني فيتعلق بالنظام الاقتصادي التجاري من خلال آليتين رئيسيتين هما تأهيل العملة الصينية «اليوان» لدور المنافس للدولار في حركة التجارة العالمية، وبناء منظومة تجارية تربط الصين بأوروبا وأفريقيا عن طريق آسيا الوسطى في ما سمي بطرق الحرير الجديدة. ومع أن اليوان لا يزال بعيداً عن منافسة الدولار إذ لا يزيد نصيبه من حركة التجارة العالمية عن 1.94٪ (مقابل 87٪ للدولار)، فإنه تحول في فترة قصيرة إلى العملة الدولية السادسة وأصبح يغطي أكثر من ربع التعاملات النقدية في التجارة الدولية الصينية مع الخارج، ومن المتوقع أن يتعزز هذه الاتجاه مع توسع نشاط المصرف الآسيوي للاستثمار الذي أنشأته شانغهاي لتوطيد نفوذها الاقتصادي في محيطها الآسيوي. أما مشروع طريق الحرير الذي أعلنته الصين عام 2013 ورصدت له ميزانية هائلة تصل ألفي مليار دولار، فيقوم على الالتفاف على عناصر القوة الأميركية في حركة التجارة الدولية (السيطرة على المحيطات والمضايق البحرية) من خلال الاستثمار الواسع في شبكات الطرق البرية والسكك الحديدية والموانئ البحرية لضمان التحكم في مسالك التبادل التجاري العالمية وربط الأسواق الخارجية بالصناعة الصينية، وهو ما بدأ يبرز بوضوح في آسيا الوسطى وأفريقيا وجنوب أوروبا.
أما المستوى الثالث فيتعلق بالجانب الجيوسياسي: فمع أن الصين استثمرت بصفة واسعة في الصناعة العسكرية وغدت قوة منافسة في التقنيات الاستراتيجية الجديدة (غزو الفضاء والطائرات المسيرة.. إلخ)، فإن مقاربتها للعلاقات الدولية لا تقوم على معادلة القوة العسكرية بل على توطيد دورها في المنظومة الدولية من منطلق برغماتي غير سياسي، يحافظ على مبدأ السيادة التقليدي ويرفض تسييس المواقف الديبلوماسية من منطلق الاعتبارات الحقوقية أو الأيديولوجية.
وعلى عكس الأطروحة الهيغلية -الفيبرية الشهيرة حول تمنع الحضارة الصينية على الحداثة والتنوير، تبين الدراسات الأخيرة حول التجربة الصينية أن الصين استطاعت في القرنين الأخيرين استكشاف طريقها الخاص للحداثة من داخل منظومتها القيمية التي تقوم على رؤية للعالم لا تعرف التعالي والزمنية الخطية الممتدة والذاتية الفردية، بل تتأسس على معايير الانسجام والتوازن والنجاعة والزمنية الدائرية الطويلة. ومن هنا فإن مشروع الريادة الصينية لا يفهم وفق صيغة الهيمنة والأحادية، وإنما وفق مبدأ كونفوشيوس الشهير: «إن النبع ينتصر على الصخرة بالمواظبة الطويلة لا بالقوة».
*نقلا عن صحيفة الاتحاد