أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

تآكل الطبقة الوسطى:

تأثير تراجع السوق الحر لصالح الاحتكار بالولايات المتحدة

25 فبراير، 2020


عرض: محمد محمود السيد - باحث في العلوم السياسية

خلال تسعينيات القرن الماضي، ومع تقدم وسائل الاتصال والتواصل، راج مصطلح "الحلم الأمريكي" بين مختلف شعوب العالم، خاصة في الدول النامية، بكل ما يحمله هذا المصطلح من وعود بحياة أفضل وأكثر رفاهيةً. وقد وصل الاقتصاد الأمريكي خلال هذه الفترة إلى مرحلة من النضج خلقت معها أسواقًا حرة وميزات تنافسية ضخمة، والتي ولّدت بدورها فرص عمل جديدة بشكل مستمر وبأجور مرتفعة. ناهيك عن ارتفاع القوة الشرائية التي منحت المقيمين في الولايات المتحدة مستوى معيشة لم يكن ليتحصّلوا عليه في أي دولة أخرى من دول العالم.

لكن جاءت تطورات الاقتصاد الأمريكي في الألفية الجديدة لتُقوِّض هذا الحلم، وتجعل من العيش في الولايات المتحدة أمرًا ليس باليسير على المواطنين قبل المهاجرين، حيث تراجعت الطبقة الوسطى، وازدادت معدلات عدم المساواة بين الطبقات، وضعفت مستويات الاستثمار، وانخفضت الإنتاجية، وتراجعت فرص العمل، وسيطر على السوق عدد صغير من الشركات.

قد تتحمّل التكنولوجيا الحديثة جزءًا من المسؤولية عن هذا الوضع؛ إذ على الرغم من الأرباح الضخمة لشركات وادي السيليكون، إلا أن مساهماتها في نمو الاقتصاد الحقيقي متواضعة للغاية. ولكن يبدو أن "القوى الاحتكارية" هي كلمة السر وراء هذا التدهور. فقد تراجعت التنافسية عن السوق الأمريكية، واختفت السوق الحرة لصالح مجموعة محدودة من الشركات، من خلال المال السياسي وتشكيل جماعات الضغط، وإغلاق المجال أمام دخول أي شركات جديدة إلى مجال المنافسة.

هذه هي الأطروحة الرئيسية التي يقدمها أستاذ المالية في جامعة نيويورك، وأحد أفضل علماء الاقتصاد في العالم "توماس فيلبون"، من خلال كتابه الصادر بعنوان "الانقلاب العظيم: كيف تخلت الولايات المتحدة عن السوق الحرة؟". يحاول "فيليبون"، من خلال تحليل البيانات، وعقد المقارنات مع الدول الأوروبية، إثبات أن غياب التنافسية وسيطرة الاحتكار على السوق الأمريكية، هو السبب وراء تراجع أداء الاقتصاد. وقد نال الكتاب الكثير من الانتقادات التي تتهم الاقتصادي الفرنسي "فيليبون" بمعارضته للأيديولوجيا الرأسمالية الأمريكية.

تراجع الحلم الأمريكي

في عام 1999، كانت الولايات المتحدة هي أرض السوق الحرة بالفعل. كان كل شيء تقريبًا (من أجهزة الكمبيوتر المحمولة، إلى خدمة الإنترنت، إلى تذاكر الطائرة) أرخص مقارنةً بأوروبا. ولكن بعد 20 عامًا، لم يعد الأمر كذلك. أصبحت خدمة الإنترنت وخدمات الهواتف المحمولة وتذاكر الطائرات أرخص بكثير في أوروبا وآسيا مقارنةً بالولايات المتحدة، وفروق الأسعار مذهلة.

ففي عام 2018، كان متوسط التكلفة الشهرية لاتصال الإنترنت (ذي النطاق العريض) 29 دولارًا في إيطاليا، و31 دولارًا في فرنسا، و32 دولارًا في كوريا الجنوبية، و37 دولارًا في ألمانيا واليابان، بينما يكلف الاتصال ذاته 68 دولارًا في الولايات المتحدة، مما جعل البلاد على قدم المساواة مع مدغشقر وهندوراس وسوازيلاند.

ويشير "مسح نفقات المستهلك" من مكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العمل إلى أن الأسر الأمريكية تنفق حوالي 100 دولار شهريًّا على خدمات الهاتف المحمول، بينما تدفع الأسر في فرنسا وألمانيا أقل من نصف هذا المبلغ، وفقًا لخبيري الاقتصاد "مارا فاشيو" و"لويجي زينغاليس".

لم يحدث أيٌّ من هذا بالصدفة. ففي عام 1999، كان لدى الولايات المتحدة أسواق حرة وتنافسية في العديد من الصناعات، والتي كانت -في الوقت ذاته- تحت سيطرة احتكارات القلة في أوروبا، ولكن تبدلت المواقف اليوم. ففي فرنسا يمكن الاختيار من بين خمسة أو أكثر من مقدّمي خدمات الإنترنت؛ بينما نادرًا ما يملك المواطن الأمريكي فرصة الاختيار بين شركتين فقط تُقدمان هذه الخدمة. وكذلك أصبحت صناعة الطيران الأمريكية احتكارية بالكامل، لتبلغ الأرباح (لكل ميل مسافر) الآن ضعف ما في أوروبا التي تتنافس فيها شركات الطيران منخفضة التكلفة بقوة مع الشركات القائمة.

يعود هذا الخلل في المقارنة بين الولايات المتحدة ودول أوروبا -جزئيًّا- إلى تأثر الدول الأوروبية بنظام السوق الحرة الأمريكية الذي نضج تمامًا في التسعينيات، مما دفعها إلى تطوير أنظمتها الاقتصادية، بينما شعرت واشنطن بالرضا -وربما الكمال- مما جعلها تتخلّف عن ركب الاقتصاد العالمي.

ففي أواخر التسعينيات من القرن الماضي، ولكي تؤسس شركة تجارية بشكل قانوني في فرنسا، كان يجب أن تنهي 15 خطوة إدارية خلال 53 يومًا، بينما في عام 2016، بات يستغرق الأمر أربعة أيام فقط. لكن خلال الفترة ذاتها، زادت الفترة المطلوبة لتأسيس شركة تجارية في الولايات المتحدة من أربعة أيام إلى ستة أيام. بمعنى آخر، كان تأسيس أي نشاط تجاري في واشنطن يتم بوتيرة أسرع بكثير من مثيله في باريس، لكنه أصبح الآن أبطأ إلى حد ما.

مستوى التنافسية في أوروبا

المفارقة هي أن أفكار السوق الحرة ونماذج الأعمال التجارية الأوروبية، التي تعمل حاليًّا بكفاءة عالية وتعود بالفائدة على المستهلكين الأوروبيين، إنما هي مستوحاة من اللوائح الأمريكية منذ عام 1990. فالولايات المتحدة هي الدولة التي وضعت قوانين مكافحة الاحتكار، مع ذلك تجد الآن أن الشركات الكبرى القائمة تزيد من قوتها السوقية من خلال ما تقوم به من عمليات ضم للشركات المنافسة الناشئة، وعمليات الضغط التي تمارسها على صانعي القرار، بجانب الإنفاق الضخم على الحملات السياسية.

فمن المفترض أن تُعاقب السوق الحرة تلك الشركات الخاصة التي لا تهتم بالحفاظ على عملائها. ولكن اليوم، أصبحت العديد من الشركات الأمريكية مهيمنة على السوق، إلى درجة أنها قد لا تتأثر عندما تقدم خدمة سيئة للجمهور، أو تفرض أسعارًا ورسومًا باهظة، أو تقوم باستغلال وبيع بيانات عملائها.

في أوروبا، تبيّن أن زيادة التكامل بين الاقتصادات الوطنية تشكل قوة لزيادة المنافسة داخل تلك الاقتصادات، حيث أنشأ الاتحاد الأوروبي هيئات تنظيمية أكثر استقلالية من نظيرتها في الولايات المتحدة. وللمفارقة، لم يكن ذلك نتيجة وعي اقتصادي متطور، وإنما نتج عن انعدام الثقة المتبادلة داخل الاتحاد الأوروبي، فكافة الدول تفضل الخضوع لهيئات مستقلة عن التعرض لأهواء الأعضاء الآخرين عندما يكونون في موضع المسؤولية.

وقد قدّمت حالة العمالقة الصناعية "ألستوم" و"سيمنز" اختبارًا مثاليًّا لهذه القاعدة. فبعد أن قررت شركة سيمنز الألمانية وألستوم الفرنسية في عام 2017 دمج أنشطتهما في مجال السكك الحديدية، أرادت الدولتان الأكبر والأكثر نفوذًا في الاتحاد الأوروبي قبول الاندماج. لكن مفوضة شؤون المنافسة بالاتحاد الأوروبي "مارغريت فيستاجر"، كانت عقبة أمام إتمام هذا الاندماج، فقد خلصت هي وفريقها إلى أن الاندماج "كان من شأنه أن يقلل المنافسة بشكل كبير" في مجال معدات الإشارات والقطارات عالية السرعة، "مما يحرم العملاء، بما في ذلك مشغلو القطارات ومديرو البنية التحتية للسكك الحديدية، من اختيار الموردين والمنتجات". وفي النهاية منعت المفوضية الأوروبية عملية الاندماج في فبراير 2019.

في الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته، أصبح تطبيق مكافحة الاحتكار أقل صرامة، في حين أن الجدل الدائر حول المنافسة في السوق أصبح أيديولوجيًّا للغاية، وغير مرتبط بما تظهره البيانات بالفعل.

صعوبة دخول الأسوق

يستعرض الكاتب الحجة المركزية لـ"مدرسة شيكاغو" فيما يتعلق بعمليات مكافحة الاحتكار، تأسيسًا على مبدأ "دعه يعمل دعه يمر". وتقوم تلك الحجة على أن القوة الاحتكارية هي قوة سريعة الزوال، لأن الأرباح العالية تجتذب منافسين جددًا، فإذا ارتفعت الأرباح في صناعة ما يتوقع المرء دخول المزيد من الشركات الجديدة إلى أسواق تلك الصناعة، وهو أمر كان صحيحًا حتى أواخر التسعينيات، وقد أقنع هذا المبدأ المنظمين الأمريكيين بأن يكونوا أقل حذرًا وأكثر مرونةً تجاه عمليات الاندماج والضم بين الشركات.

منذ بداية الألفية الجديدة، انفك الارتباط بين تحقيق صناعة ما لأرباح عالية وبين دخول منافسين جُدد إليها. وبالتالي فَقَدَت السوق الأمريكية الآلية الأساسية التي كانت تُعيد إليها التوازن، بل وصارت الأرباح العالية في أي صناعة عقبة أمام دخول منافسين جُدد إليها. فمدرسة شيكاغو افترضت أن الدخول المجاني للمنافسة في السوق والصناعات هو أمر مُسلَّم به، واستهانت بالعديد من الطرق التي يمكن بها للشركات الكبرى إبعاد المنافسين الجدد.

وما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن صعوبة دخول الأسواق والصناعات يكون بسبب اللوائح والقوانين مُفرطة التعقيد. ففي بعض الصناعات، تستبعد قواعد الترخيص مباشرة المنافسين الجدد، وفي حالات أخرى تكون اللوائح معقّدة بما فيه الكفاية، بحيث لا تستطيع الامتثال إليها سوى الشركات الكبرى. وهنا يرى الكاتب عبثية الجدل الأيديولوجي الدائر بين اليسار واليمين حول فكرة التنظيم، سواء بالاتجاه نحو المزيد من التعقيد أو المزيد من التبسيط، لأن الجدل الحقيقي يجب أن يدور حول فكرة حماية السوق الحرة، وإزالة الحواجز أمام دخول المنافسين الجُدد إلى الأسواق.

ففي الولايات المتحدة، تُشكِّل الشركات جماعات ضغط يتجاوز تأثيرها في السياسات الاقتصادية نظيرتها في أوروبا أكثر من مرتين إلى ثلاث مرات. وكذلك تبلغ مساهمات تلك الشركات في الحملات الانتخابية السياسية 50 ضعف مساهمات نظيرتها في أوروبا. لنجد في نهاية الأمر أن الولايات المتحدة تُنفق ما لا يقل عن خمس ناتجها المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية، ولديها نتائج صحية أسوأ بكثير من أي دولة أخرى ذات دخل مرتفع. وذلك لأن نظام الاحتكار يمتص كافة الأموال المتدفقة إلى هذا القطاع لصالح الأطباء والمستشفيات وشركات التأمين وشركات الأدوية، بحيث لا يتبقى للمواطن العادي أي عائد خدمي فعّال.

معاناة الطبقة الوسطى

لقد أدّت القوة الاحتكارية الزاحفة في الولايات المتحدة إلى خنق الطبقة الوسطى ببطء ولكن بثبات. من عام 2000 إلى عام 2018، ارتفع متوسط الدخل الأسبوعي للعاملين بدوام كامل من 575 دولارًا إلى 886 دولارًا، بزيادة قدرها 54%، لكن مؤشر التضخم قد ازداد بنسبة 46%. ونتيجة لذلك، نما دخل العمالة الحقيقي للعامل النموذجي بأقل من 0.33% سنويًّا، ولمدة عقدين تقريبًا. وهذا يفسر جزئيًّا سبب عدم ثقة الطبقة الوسطى بالسياسيين، واعتقادها أن النظام الاقتصادي مُصاب بالعوار، وبالتالي ترفض الرأسمالية تمامًا.

ويرى الكاتب أن السبب الرئيسي في خنق الطبقة الوسطى يرجع إلى الأموال التي تستطيع قوة الاحتكار جمعها من المستهلكين. ويُعد قطاع الاتصالات وشركات الطيران من أسوأ المخالفين والمحتكرين، ولكن يجب أن ننتبه إلى أن رسوم الدخول في تلك الأسواق -تحديدًا- تساهم أيضًا في رفع أسعار خدمات تلك الشركات. وكذلك فإن الاحتكار في مجال المستشفيات وشركات الأدوية ساهم في ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة إلى مبالغ باهظة.

ومن خلال بحث الكاتب حول عمليات الاحتكار في الاقتصاد الأمريكي، قدّر أن سلّة السلع والخدمات التي كانت تستهلكها الأسرة النموذجية في عام 2018 كلفتها ما بين 5% إلى 10% أكثر مما كانت لتصبح عليه إذا استمر نظام المنافسة القائم عام 2000. فالأسعار التنافسية كانت لتوفر ما لا يقل عن 300 دولار شهريًّا لكل أسرة، أي إننا نتحدث هنا عن مدخرات سنوية على المستوى القومي بقيمة 600 مليار دولار. وهذا الرقم لا يُجسد سوى نصف المكاسب التي قد تجنيها البلاد فقط من تعزيز التنافسية، لأن النصف الآخر يتمثل في تعزيز عمليات الإنتاج والتوظيف ورفع الأجور.

آفاق المستقبل

يشير الكاتب إلى أنه في السنوات الأخيرة، كان الاستثمار الخاص -بما يشمل المصانع والمعدات والبرمجيات والبحث والتطوير والملكية الفكرية- ضعيفًا بشكل كبير، وذلك على الرغم من انخفاض أسعار الفائدة وارتفاع الأرباح القياسية وأسعار الأسهم. فالأرباح الاحتكارية لم تُترجم إلى زيادة في الاستثمار، كما تنبأت مدرسة شيكاغو، وإنما تدفقت إلى أرباح الأسهم وعمليات إعادة الشراء.

لذلك، يُقدر الكاتب أنه إذا استطاعت الولايات المتحدة العودة إلى مستوى المنافسة الذي كانت عليه عام 2000، فإن إجمالي الناتج المحلي الأمريكي سيزيد بنحو تريليون دولار، وكذلك ستزيد إيرادات العمل بنحو 1.25 تريليون دولار، بينما ستنخفض الأرباح بنحو 250 مليار دولار. ولكن الأهم من ذلك هو أن المنظومة المالية ومستويات المعيشة ستُصحح نفسها، وستحدث عملية إعادة توزيع كبيرة بين أصحاب الأجور، بحيث تزيد دخول الأسر المتوسطة.

يرى الكاتب أن الولايات المتحدة إذا ما أرادت استعادة صيغة المنافسة والسوق الحرة في اقتصادها، فليس عليها سوى تذكر التاريخ والتعلم من الدروس التي منحتها لبقية دول العالم في السابق. ويبدو أن علماء القانون والمسؤولين المنتخبين بدأوا في التركيز من جديد على مكافحة الاحتكار، ولكن هذه المرة ينصب تركيزهم على منصات الإنترنت الرئيسية، بينما يجدر بهؤلاء التركيز على مكافحة كافة الاحتكارات، القديمة قبل الجديدة، مثل جوجل وفيسبوك وشركات الأدوية والاتصالات.

وبغض النظر عن التحديات التي يمكن التنبؤ بها، فإن تجديد التزام أمريكا التقليدي بالسوق الحرة هو مسعى جدير بالاهتمام، لأن السوق الحرة والمنافسة تقوم بمراقبة الأرباح وتحفيز الشركات على الاستثمار والابتكار.

بيانات الكتاب:

Thomas Philippon, "The Great Reversal: How America Gave Up on Free Markets", (Massachusetts, Harvard University Press, 2019).