مع نهاية أول شهر في عام 2020، من المتوقع أن تتجه بريطانيا إلى إنهاء إجراءات البريكست، على أن تُنهي كافة الإجراءات المتعلقة بإبرام صفقة تجارية شاملة بحلول آخر شهر في عام 2020، وهو ما يرتبط بتمكن حزب المحافظين من الاستحواذ على الأكثرية البرلمانية وقدرته على فرض رؤاه حول البريكست والقضايا المرتبطة، إذا استطاع استثمار حالة القلق وعدم اليقين لدى المواطنين البريطانيين لصالحه. غير أنه لا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجه "جونسون"، وعلى رأسها قضيتا: أيرلندا، وأسكتلندا.
توازنات المشهد السياسي:
أسفرت النتائج البريطانية الأخيرة عن تحقيق حزب المحافظين فوزًا ساحقًا، بعد تمكنه من الحصول على 365 من أصل 650 مقعداً وهو أكبر عدد من المقاعد يحققها منذ عام 1987، في مقابل تسجيل حزب العمال هزيمة تاريخية بما فيها الخسارة في دوائر كانت تُعتبر معاقل تاريخية لناخبيه، والتي تُعرف بـ"الحزام الأحمر".
ووصف الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الفوز الذي حققه "بوريس جونسون" على رأس حزب المحافظين بالرائع، فيما اعتبر "جونسون" أن نتائج هذه الانتخابات تاريخية "وستمنح فرصة لتشكيل حكومة تحترم الديمقراطية وإرادة الشعب البريطاني". وكشفت هذه النتائج عن عددٍ من التوازنات بين القوى السياسية في المشهد السياسي البريطاني:
1- تراجع الليبراليين الديمقراطيين: حيث كانت زعيمة الحزب "جو سوينسون" تحاول الاستثمار في تبرم الناخبين من التنافس الحاد بين "بوريس جونسون" و"جيريمي كوربين" لإحداث اختراق يُصيب الاصطفافين التقليديين (يمين - يسار) على طريقة "إيمانويل ماكرون" في فرنسا، وكسب المعتدلين من الطرفين، ولكن يبدو أنها دفعت ثمن إصرارها الشديد على إلغاء عملية البريكست، حيث ساهم هذا الإصرار في تصويرها كمعادية للديمقراطية في نظر عدد كبير من الناخبين، ومن ضمنهم مؤيدو المشروع الأوروبي، مما أدى إلى تقهقر حزبها وخسارتها مقعدها.
2- اضطراب داخلي بحزب العمال: كشفت الانتخابات الأخيرة عن وجود حالة من التشتت والاضطراب الداخلي لدى حزب العمال، وعدم قدرة القيادة المتمثلة في "جيريمي كوربين" على إدارة دفة الأمور بنجاح، إذ يرى بعض المحللين أن النتيجة المخيبة التي حققها حزب العمال تعود إلى ضعف القيادة، وسوء إدارتها للمعركة الانتخابية، واعتقاد "كوربين" بأن البريكست ليس هو الأولوية الأساسية التي تهم الناخبين البريطانيين في هذه الانتخابات، فيما أظهرت النتائج عكس ذلك.
3- سياقات مواتية للمحافظين: لا يزال "حزب المحافظين" أقوى الأحزاب المسيطرة في المشهد السياسي، لا سيما وأن "بوريس جونسون" نجح في استغلال القلق لدى شريحة كبرى من الناخبين الناتج عن 3 أعوام من عدم الاستقرار والضبابية فيما يخص ملف البريكست، فجاء شعار الحملة الانتخابية الأساسي الذي اختاره GET BREXIT DONE صائبًا في استقراء رغبات الناخبين، مما أدى إلى تصويت فئة لا يستهان بها من ناخبي حزب العمال لصالح حزب المحافظين، وسيتأكد استغلال عامل القلق في حال لم يتكرر تصويت هذه الفئة لحزب المحافظين في الانتخابات القادمة، وعودتها إلى انتمائها التاريخي في اختيار حزب العمال كممثل لها.
4- توظيف النظام الانتخابي: على الرغم من حيازة الأحزاب المؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي على ما يقدر بحوالي 47% من الأصوات (حزب المحافظين، وحزب البريكست) في مقابل 53% للأحزاب المؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي وإجراء استفتاء ثانٍ حول البريكست (حزب العمال، حزب الليبرالي الديمقراطي، القوميون في أسكتلندا، حزب الخضر)؛ إلا أن المعسكر المؤيد للخروج نجح أيضًا في استغلال النظام الانتخابي المعمول به في بريطانيا، والقائم على دورة واحدة فقط والنجاح بأكثرية الأصوات من دون اشتراط تخطي عتبة الـ50% (الأغلبية المطلقة) للفوز عبر تنسيق الترشيحات في الدوائر. حيث قام حزب البريكست بقيادة "نايجل فاراج" بسحب مرشحي حزبه في بعض الدوائر ودفع مناصريه للتصويت لمرشحي حزب المحافظين، فيما أدى تفرق أصوات الأحزاب المعارضة للبريكست إلى تضييع فرصة ترجمة أكثريتهم العددية إلى أغلبية برلمانية، مما أدى إلى دفع هذا المعسكر ثمن انقسامهم.
الانعكاسات على البريكست:
من المتوقع أن يترتب على توازنات المشهد السياسي الحالي، لا سيما مع سيطرة المحافظين، عددٌ من التداعيات، خاصة فيما يتعلق ببريكست، والتي يمكن الإشارة إلى أبرزها فيما يلي:
1- إنهاء إجراءات البريكست: حصل رئيس الوزراء البريطاني "بوريس جونسون" على موافقة في البرلمان على اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي في 20 ديسمبر 2019، في أول خطوة نحو تنفيذ تعهد قطعه خلال حملته الانتخابية بتنفيذ الانسحاب من التكتل بحلول الموعد المحدد في 31 يناير المقبل، على أن تجري المراحل النهائية من عملية التصديق على اتفاق الخروج بعد عطلة عيد الميلاد، ولدى مجلس العموم حتى التاسع من يناير للتصديق على التشريع المرتبط بالاتفاق، ثم يصبح هناك 3 أسابيع فقط للتصديق عليه من مجلس اللوردات، ثم الحصول على الموافقة الملكية، وحتى يتحقق الخروج في موعده المقرر فإنه يحتاج أيضًا إلى مصادقة البرلمان الأوروبي عليه. وستُعزز النتيحة التي حصل عليها "بوريس جونسون" في الانتخابات من موقفه في المفاوضات التجارية التي ستلي الخروج.
2- المعضلة الأيرلندية: سيؤدي الطرح الذي تبناه "جونسون" في الاتفاق الذي توصل إليه مع الاتحاد الأوروبي بجعل الحدود بين الاتحاد وبريطانيا في بحر أيرلندا الشمالية، والذي أغضب حزب الوحدويين؛ إلى تعزيز طرح توحيد الجزيرة الأيرلندية الذي يؤيده حزب "الشين فين" المعارض للوحدويين. ولقد لعب هذا الطرح لصالح "الشين فين" في الانتخابات ضمن الدوائر الأيرلندية، حيث استطاع التقدم والحصول على 7 مقاعد بفارق مقعد واحد عن الوحدويين الذين من الممكن أن يزداد ضعفهم أكثر في ظل تخلي "جونسون" عنهم، ومعاقبتهم على مواقفهم السابقة من عدم تمرير الاتفاق على البريكست، وتصويتهم المعارض له، خصوصًا أن الأكثرية التي حصل عليها "جونسون" تُمكّنه من التصرف بحرية دون الحاجة إلى التحالف مع الوحدويين. وبالتالي فإن الانقسام بين الجمهوريين والوحدويين مرشح للتفاقم أكثر حول مستقبل الجزيرة الأيرلندية مع المضيّ قدمًا في تطبيق اتفاق البريكست.
3- المطالبة باستفتاء أسكتلندي: أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة صعود النزعة الاستقلالية في أستكلندا، حيث استطاع الحزب القومي الاسكتلندي الحصول على 48 مقعدًا، مما دفع رئيسة الوزراء الأسكتلندية "نيكولا ستارجن" إلى المطالبة بإجراء استفتاء ثانٍ جديد حول استقلال أسكتلندا عن المملكة المتحدة بعد الاستفتاء الأول الذي حصل في عام 2014 والذي خسره الاستقلاليون. ويرفض "بوريس جونسون" هذه الفكرة، ولكن النتيجة المحققة في أسكتلندا ستساهم في تعزيز الضغط نحو إجراء استفتاء جديد. ويعتبر مراقبون أن معارضة الأسكتلنديين الكبيرة للبريكست يمكن أن تؤدي إلى محاولة الاستقلال عن بريطانيا. ومن شأن تجدد النقاش حول الاستقلال أن يُكرر مشهد الانقسام الأيرلندي الداخلي في أسكتلندا حول مسألة وجود حدود مع بريطانيا، لأن هناك فئة من الأسكتلنديين تعارض بشدة وجود حدود مع بريطانيا.
4- أوضاع الرعايا الأوروبيين: حيث سيسعي حوالي 3.8 ملايين مواطن أوروبي يعيشون في المملكة المتحدة لتغيير نوع إقاماتهم فيها، حيث كانوا في ظل وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي يتمتعون تلقائيًّا بحق السكن والعمل في بريطانيا؛ إلا أنهم وبعد الخروج في 31 يناير سيضطرون للمسارعة لتسجيل أنفسهم تحت خانة (settled status) ضمن مهلة تمتد إلى 31 ديسمبر 2020.