ربما يفرض قرار البنك المركزي التركي، في 25 يوليو 2019، بخفض سعر الفائدة، والذي جاء في الغالب تحت وطأة الضغوط التي مارسها الرئيس رجب طيب أردوغان على البنك، تحديات عديدة، يتمثل أبرزها في تصاعد محتمل لمعدلات التضخم في الأشهر المقبلة، وتقويض الثقة الدولية في الاقتصاد نتيجة التدخل السياسي المستمر في السياسات النقدية، فضلاً عن ارتفاع مستويات الديون المستحقة على الشركات في الأجل المنظور.
إجراء واسع:
خفَّض البنك المركزي التركي إعادة الشراء (ريبو) لأجل أسبوع، وهو سعر الفائدة الرئيسي، بنحو 425 نقطة أساس إلى 19.75% ومن مستوى 24% في السابق، وهى خطوة لاقت ترحيبًا من قبل الرئيس أردوغان، الذي صعّد من ضغوطه على قيادات البنك في السنوات الماضية لخفض سعر الفائدة من أجل توفير التسهيلات الائتمانية للشركات بتكلفة منخفضة على أمل دعم النشاط الاقتصادي في البلاد.
وفي هذا السياق، قال أردوغان، في 26 يوليو الجاري، أن قرار البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة مهم، مؤكدًا على أهمية استمرار تيسير السياسة النقدية بوتيرة تدريجية، وذلك في إشارة للبنك المركزي بالاستمرار في سياسة خفض سعر الفائدة حتى نهاية العام الجاري.
وخلال الفترة الماضية، عانى الاقتصاد من صعوبات واسعة بسبب سوء الإدارة الاقتصادية في البلاد بجانب توتر العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع أهم حلفاء أنقرة، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي، وبما ترتب عليه تقلبات واسعة في أسواق المال التركية، بجانب تدهور الليرة بأكثر من ربع قيمتها منذ أغسطس الماضي.
وبحسب معهد الإحصاء التركي، فقد انكمش الاقتصاد بنسبة 2.6% على أساس سنوي في الربع الأول من عام 2019، في الوقت الذي شهدت فيه العملة تقلبات واسعة ولم تستطع الارتداد مرة أخرى إلى مستوى أدنى من 5 ليرات مقابل الدولار الواحد.
ومن اللافت أن خفض سعر الفائدة لم يأت إلا بعد قرار أردوغان بإقالة مراد جتينقايا مؤخرًا وتعيين مراد أويسال محافظًا للبنك المركزي بدلاً منه. وعلى ما يبدو، فإن الأول قاوم ضغوط أردوغان لتعديل سياسة البنك المركزي، حيث كان يتبنى سياسة التشديد النقدي، وقام بزيادة أسعار الفائدة على نحو متكرر في الأشهر الماضية وبـ625 نقطة أساس لتبلع 24 % في سبتمبر 2018، بهدف مواجهة معدل التضخم المرتفع وكبح تدهور سعر الليرة.
دلالات عديدة:
تكشف الخطوة الأخيرة من قبل البنك المركزي عن عدة دلالات: يتمثل أولها، في حدوث تحول جذري في سياسية البنك المركزي نحو الاستجابة لضغوط الرئيس أردوغان المتعلقة بخفض أسعار الفائدة المرتفعة والتي يظن أنها ستعمل على تنشيط الأداء الاقتصادي من خلال زيادة القروض المتاحة للشركات والقطاع الخاص.
ويتعلق ثانيها، بتقليص مساحة الاستقلالية الممنوحة للبنك المركزي، حيث أن تجربة عزل محافظ المركزي السابق ستجعل من الصعب على القيادة الجديدة التحرك بحرية لاتخاذ القرارات السليمة من وجهة نظرها، ويأتي ذلك على الرغم من ادعاء البنك المركزي مؤخرًا بأنه سيواصل العمل بشكل مستقل من أجل استقرار الأسعار كهدف رئيسي.
وينصرف ثالثها، إلى أن أردوغان يعوِّل على دعم النمو الاقتصادي من خلال سياسات شعبوية قصيرة الأمد بغض النظر عن تبعاتها السلبية على المدى الطويل، حيث من المتوقع أن تتسبب في حدوث مزيد من التضخم وتراكم الديون لدى الشركات في الأجل المنظور، أى بمعنى أنه يحاول استعادة التعافي الاقتصادي دون النظر للتكلفة الاقتصادية المحتملة.
ويتصل رابعها، باستمرار تجاهل الانتقادات الدولية بشأن الإدارة الاقتصادية للبلاد، حيث يرى أردوغان أن التقييمات السلبية الأخيرة للاقتصاد وإدارته من قبل العديد من المؤسسات الاقتصادية والتصنيف الائتماني لا تستند على أسس اقتصادية موضوعية.
آثار متباينة:
لكن على نحو غير متوقع، لم تتسبب خطوة البنك المركزي في حدوث تقلبات في سوق المال أو سوق الصرف التركيين، بل على العكس استقرت الليرة منذ اتخاذ القرار الأخير عند حدود 5.70 مقابل الدولار الواحد. وربما ذلك يعكس بعض الآثار الإيجابية المحتملة للقرار، حيث من المحتمل أنه سيساعد على إنعاش الاقتصاد في الأجل القصير مع توفير السيولة للشركات لتعزيز مشروعاتها وبما قد يدعم القطاعات الاقتصادية كافة خاصة البناء والعقارات.
ومع ذلك، لا تزال هذه السياسة محفوفة بالعديد من المخاطر، لا سيما أن معدل الخفض تم بوتيرة كبيرة وبشكل مفاجئ. إذ أنه من المتوقع أن تقوِّض الجهود المبذولة من قبل البنك نفسه بالأشهر الماضية لكبح التضخم، والذي لا يزال عند مستوى مرتفع وبنحو 15.7% في يونيو الماضي، وذلك نزولاً منأعلى مستوى له عند 25.2% في أكتوبر 2018.
كما أن ذلك سيؤدي إلى تكريس حالة فقدان الثقة الدولية في الاقتصاد التركي، حيث حذرت وكالات التصنيف الائتمانية في عدة مناسبات من الآثار السلبية للتدخل السياسي في سياسات البنك المركزي. وعلى هذا النحو، خفضت وكالة "فيتش"، في 12 يوليو الجاري، التصنيف السيادي لتركيا منBBإلى -BB مع نظرة مستقبلية سلبية، وأرجعت ذلك إلى أن عزل محافظ البنك المركزي يهدد اتخاذ السياسات الاقتصادية السليمة ويضعف من مصداقيتها.
فضلاً عن ذلك، فإن احتمال تصاعد أزمة الديون لدى الشركات التركية لم يعد مستبعدًا. وخلال الأشهر الماضية، وفرت العديد من البنوك، وبدعم من الحكومة، قروضًا منخفضة التكلفة للشركات على أمل دعم النمو الاقتصادي، بيد أن ذلك أدى إلى تضخم ديون الشركات حتى بلغت نحو 299.1 مليار دولار بنهاية مارس 2019 (أى ما يمثل 65.9% من إجمالي الديون البالغة 453.4 مليار دولار). في الوقت نفسه، تزايدت القروض المتعثرة في البنوك لتصل، بحسب بعض التقديرات، إلى نحو 10 مليار دولار نتيجة عدم قدرة الشركات على السداد في ظل الأزمة الاقتصادية.
وختامًا، يمكن القول إن الرئيس التركي يحاول الدفع بسياسات اقتصادية قصيرة الأجل تعتمد على زيادة وتيرة الإقراض للشركات من أجل دعم النشاط الاقتصادي، إلا أن ذلك قد يترتب عليه مخاطر اقتصادية واسعة على المدى الطويل.