لا يبدو الحديث عن الأدوار المستقبلية التي يمكن أن تمارسها الميليشيات العابرة للحدود التي قامت إيران بتكوينها وتدريبها لدعم أدوارها في المنطقة، جديدًا. فقد بدأ منذ فترة لا تقل عن عام، وتحديدًا منذ تغير توازنات القوى العسكرية لصالح النظام السوري الذي بات يسيطر على نحو 60% من مساحة الأراضي السورية، وتعرض تنظيم "داعش" لهزيمة عسكرية داخل العراق، حيث تدعي طهران وتلك الميليشيات أنها مارست أدوارًا رئيسية في هذا السياق.
فمع انتفاء السبب المُعلن لتكوين هذه الميليشيات، على افتراض أنه يعبر عن الأهداف الحقيقية من ذلك، أو على الأقل استنفاد أغراضه، بدا أن ثمة ضرورة في تحديد مهام جديدة سوف تقوم بها في المستقبل، إلى جانب ما تدعي أنها تمارسه بالفعل على الأرض، على غرار العمل على منع "داعش" من العودة مجددًا إلى المناطق التي سبق أن سيطر عليها.
وهنا، جاءت أزمة السيول التي اجتاحت إيران منذ 19 مارس 2019، وفشلت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في التعامل معها أو تقليص حدة تداعياتها، حيث أسفرت عن مقتل 76 شخصًا ونزوح حوالي 220 ألف شخص إلى مراكز إيواء، وأدت إلى خسائر تقدر بما يتراوح بين 2.5 و3 مليار دولار، بسبب المشكلات التي واجهت شبكات الطرق والجسور والمنازل والأراضي الزراعية.
إذ تدفقت أعداد كبيرة من قادة وكوادر تلك الميليشيات لدعم الجهود التي يبذلها الحرس الثوري في التعامل مع تداعيات هذه السيول. وبدا لافتًا أن وسائل الإعلام، الرسمية وغير الرسمية، حرصت على تنظيم تغطية بارزة للأنشطة التي تقوم بها تلك الميليشيات في المناطق التي اجتاحتها السيول، والاجتماعات التي عقدت بين قادتها والمسئولين الإيرانيين، على غرار اجتماع قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، مع نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" العراقية أبو مهدي المهندس، في مدينة شادگان التابعة لإقليم الأحواز الذي تقطنه القومية العربية ويحظى بقسم أكبر من الثروات الطبيعية الإيرانية دون أن يعود ذلك بالإيجاب على أوضاعه المعيشية بسبب سياسات التمييز والتهميش التي تتبناها الحكومات المتعاقبة. كما شاركت عناصر من ميليشيا "حزب الله" اللبناني في مواجهة أزمة السيول في الإقليم نفسه.
أهداف عديدة:
ورغم أن هذا الحضور اللافت من جانب الميليشيات الموالية لإيران في أزمة السيول قوبل باعتراض من جانب بعض نواب مجلس الشورى، على غرار بهرام بارساى النائب عن دائرة شيراز الذي اعتبر أن هذا الدور مخالف للدستور، خاصة في ظل الطبيعة العسكرية لتلك الميليشيات، إلا أن هذه الاعتراضات لم تقلص من إصرار النظام الإيراني على الاستعانة بها في المناطق التي اجتاحتها السيول. ربما يمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استمرار مفعول "الجهاد الكفائي": وهى الفتوى التي أصدرها المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني خلال الفترة التي بدأ يتصاعد فيها نشاط تنظيم "داعش" في العراق، في منتصف عام 2014. وقد اتسع نطاق الجدل حول تلك الفتوى ومدى إمكانية استمرارها في مرحلة ما بعد إعلان الانتصار على تنظيم "داعش"، خاصة عقب ظهور اتجاه يرى أنها كانت مؤقتة ومرتبطة بالانتصار على "داعش"، إلا أن الاتجاه الغالب، الذي تدعمه إيران، يدعي أن هزيمة "داعش" لا تعني انتفاء الحاجة للميليشيات التي تم تكوينها.
ويحاول هذا الاتجاه الاستناد إلى مبررات أخرى لإكساب رؤيته مزيدًا من الزخم، على غرار أن التهديدات التي تواجه العراق لم تنته بالهزيمة التي منى بها التنظيم، وأن هناك مجالات أخرى لما يطلق عليه "المقاومة" يمكن أن تنخرط فيها تلك الميليشيات، التي بدأت في المرحلة الحالية، على سبيل المثال، في الترويج إلى أن الوجود العسكري الأمريكي في العراق يعتبر أحد أسباب استمرار وجودها ونشاطها.
2- توجيه رسائل تهديد: خاصة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصدرت قرارًا، في 8 إبريل الجاري، بتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية أجنبية، وهو القرار الذي يمكن أن يفرض مزيدًا من العقبات أمام الأدوار التي يقوم بها "الباسدران" على الساحة الإقليمية، على المستويين الاقتصادي والعسكري. وهنا، فإن إيران تحاول توجيه إشارات بأن نفوذها لدى الميليشيات التي قامت بتكوينها للدفاع عن مصالحها في دول الأزمات المختلفة، قد يدفعها، في مرحلة ما، إلى الإيعاز لتلك الميليشيات بتهديد المصالح الأمريكية أينما كانت.
وبمعنى آخر، فإن إفساح المجال أمام انخراط تلك الميليشيات في عمليات إغاثة في المناطق التي اجتاحتها السيول، يعني أنها يمكن أن تقوم بأدوار أخرى غير المشاركة في القتال إلى جانب النظام السوري وفي الحرب ضد تنظيم "داعش"، وأن هذه الأدوار قد لا تقتصر على أعمال الإغاثة على غرار ما هو قائم بالفعل في إقليم الأحواز مثلاً، وإنما قد تتجاوز ذلك بدرجة كبيرة وتصل إلى المشاركة في مواجهة غير مباشرة ربما تندلع بين طهران وواشنطن، في حالة ما إذا اتجهت الأولى إلى الإقدام على اتخاذ خطوات تهدف إلى رفع كلفة الإجراءات العقابية التي تبنتها الثانية ضدها، وهى مجازفة ما زالت طهران نفسها تتحسب لها، باعتبار أن أى تصعيد غير محكوم قد يفرض عواقب لا تبدو محمودة بالنسبة لها.
3- احتواء الاستياء الداخلي: أبدى الشارع الإيراني، في مناسبات عديدة، استياءه من الدعم المتواصل الذي تقدمه إيران لتلك الميليشيات، واعتبر أنه خصم من قدرة الحكومات المتعاقبة على إدارة شئون الدولة، بدليل الفشل في احتواء الأزمات المتتالية التي تفرضها بعض الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والسيول. وقد بدا ذلك جليًا في الاحتجاجات التي اندلعت في إيران في نهاية عام 2017 وتواصلت على فترات خلال عام 2018.
ومن هنا، يبدو أن النظام يحاول، عبر الإيعاز لتلك الميليشيات بالمشاركة في عمليات الإغاثة، توجيه إشارات إلى الداخل بأن تلك الميليشيات يمكن أن تقدم خدمات حيوية للإيرانيين، وأن الدعم الإيراني المقدم لها صب في النهاية في صالح إيران، باعتبار أنه دفعها لمساندة مؤسسات النظام في احتواء تداعيات السيول.
4- تحذير روحاني: كان لافتًا أن تلك المشاركة البارزة التي قامت بها تلك الميليشيات جاءت بإشراف من جانب الحرس الثوري تحديدًا، وليس الحكومة، وهو إجراء متعمد من جانب مؤسسات عديدة في النظام ما زالت مصرة على تحميل الأخيرة مسئولية تردي الأوضاع الداخلية بعد سقوط رهانها على الاتفاق النووي، الذي تقلصت عوائده الاقتصادية بشكل كبير، وما زالت حريصة في الوقت ذاته على إبراز دورها الرئيسي في إدارة الشئون الداخلية للدولة بالتوازي مع المهام التي تقوم بها لخدمة أهداف إيران الخارجية.
ولذا كان لافتًا أن روحاني سارع إلى القيام بزيارات جديدة للمحافظات التي اجتاحتها السيول، على غرار محافظة لرستان، التي زارها في 20 إبريل الجاري، وهى خطوة متعمدة من جانب الرئيس لتأكيد اضطلاع حكومته بدور بارز في جهود احتواء آثار السيول.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران تحاول، عبر إشراك تلك الميليشيات في التعامل مع أزمة السيول، الإشارة إلى أنها قد تقدم على إتاحة مزيد من الفرص أمام الأخيرة لخدمة مصالحها سواء في الداخل أو في الخارج، خاصة خلال المرحلة القادمة، التي ستتعرض فيها لضغوط وعقوبات أكثر قوة بسبب سياستها المتشددة في الملفات المختلفة.