من الملاحظ أن الاجتماعات المثيرة للاهتمام المتعلقة بطهران هي التي تُعقد من دونها.
من جهتها؛ تشير طهران إلى أن «العمل كالمعتاد»؛ فقد كانت جداول اجتماعات المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس حسن روحاني مزدحمة في الأسابيع الستة الماضية؛ كان هناك لقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد؛ وهو الأول منذ عام 2010، ثم كان استقبال عادل عبد المهدي رئيس الوزراء العراقي في زيارة رسمية الأولى له إلى طهران منذ توليه السلطة. في هذا تحاول طهران الإشارة إلى أن حلفاءها يظلون مخلصين لها، وأن الشراكات الاستراتيجية التي بنتها في المنطقة مثمرة، ويرجع ذلك أساساً إلى نشاط قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني. لكن الحقيقة هي أن إيران غير مستقرة، وتشعر بالقلق حيال الاجتماعات السياسية التي لم تتم دعوتها إليها، لا سيما الاجتماعات التي عقدت الشهر الماضي في موسكو، والتي قد تُملي تغييرات على خطط لا تنوي هي تنفيذها.
لنبدأ ببغداد: في أوائل شهر مارس (آذار) الماضي قام روحاني بزيارة إلى العراق تمَّ خلالها التوصل إلى كثير من التفاهمات، وتوقيع كثير من الاتفاقيات الدبلوماسية والاقتصادية بين طهران وبغداد. ونظراً لنجاح الاجتماعات، فقد قام عبد المهدي برد الزيارة إلى طهران في أوائل هذا الشهر، وأعلن خلالها هو وروحاني التعاون المكثف بين البلدين. في الواقع؛ قررا تنفيذ برامج ثنائية، مثل إصدار تأشيرات مجانية للسفر بين البلدين، وبناء خط سكة حديد بين الدولتين، وفي المستقبل تطوير شراكات اقتصادية.
يحاول كل من العراق وإيران إظهار أن علاقاتهما تقوم على المصالح المتبادلة، رغم أن الربح الكبير سيعود إلى طهران، لكن العراق يحاول إرضاء إيران حسب السياسة التي يتبعها. لقد نجحت إيران في تعزيز قبضتها في العراق، وهي تحث الحكومة العراقية على طرد القوات الغربية من أراضيها من أجل تحييد أي تأثير معاكس على صانعي القرار في العراق. وإضافة إلى ذلك، فقد حولت إيران العراق إلى أرض تدريب لـ«فيلق القدس»؛ الأمر الذي يمكنها من أن تشكل تهديداً برياً لأعدائها في الخليج العربي. إنها تنفذ طريقة العمل نفسها التي قامت بها من قبل في سوريا ولبنان، لذلك نعرف ماذا ستكون النتيجة.
قبل أكثر من شهر؛ في أواخر فبراير (شباط) الماضي، قام الأسد بزيارة «تاريخية» إلى إيران، وكان ذلك بمثابة موقف تضامني في وجه كل الذين يحاولون زرع «المؤامرات» بين دمشق وطهران، كذلك لتقديم كلا الجانبين على أنه فائز: الأسد كرئيس لسوريا ذات السيادة يقوم بأول زيارة خارجية إلى إيران التي يتم التنازع على وجودها في سوريا. لقد سارع قائد «فيلق القدس» سليماني إلى نشر صور من الزيارة على «إنستغرام»، حيث قدَّم نفسه على أنه مهندس لعلاقات البلدين. حتى «حزب الله» لم يخرج خالي الوفاض، فقد حضر محمد قصير أحد كبار مسؤوليه الاجتماع بين الأسد وخامنئي بصفة «مترجم»، إنما في الوقت نفسه لتذكير الجميع بأن هناك طرفاً آخر يتقاسم الأرباح. لكن يبدو أن شيئاً مهماً لن يتغير في العلاقات بين الدولتين إثر زيارة الأسد. الشيء المهم الذي سيتغير بالنسبة إلى إيران هو موقف روسيا من ذلك. لم توافق موسكو على زيارة الأسد إلى طهران. فالسوريون والإيرانيون لم ينسقوا الزيارة مع موسكو، وهذا أثارها بشدة؛ إذ فسرت الزيارة على أنها رغبة من الأسد في الحفاظ على تورط إيران في سوريا رغم رفض الكرملين.
الانقسام بين روسيا وإيران ليس بالأمر الجديد. لقد أدركت موسكو منذ فترة أن طهران تشكِّل خطراً على مصالحها في الشرق الأوسط، ويمكن أن تجد سوريا نفسها في يوم من الأيام في حالة حرب أخرى بسبب مصالح إيران التي قد تزعزع استقرار المنطقة أكثر، ولمنع روسيا من تحقيق مصالحها الجغرافية - السياسية، ورغم أنها تمتنع عن التصريحات الدبلوماسية الرسمية، فإنه من الواضح أن روسيا غير راضية عن هذا الشريك، وسيكون من دواعي سرورها إجراء بعض التغييرات في السياسة الإيرانية، بما في ذلك الحد من وجود قواتها في سوريا ومنع إنشاء قواعد عسكرية لها هناك.
في الوقت الحالي، يتصاعد التوتر بين روسيا وإيران، ويُعزى ذلك جزئياً إلى زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو الشهر الماضي؛ إذ كشفت التقارير التي تلت الاجتماع عن أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونتنياهو ناقشا استراتيجيات طويلة الأمد لتحقيق أهداف متبادلة في سوريا. في الواقع؛ قررا إنشاء مجموعة عمل مشتركة لمعالجة انسحاب القوات الأجنبية من سوريا. تدرك روسيا الحاجة إلى إزالة الطابع الإيراني في سوريا، وقد وجدت في إسرائيل شريكاً مناسباً لدعم هذا الهدف. يجمع إسرائيل وروسيا معارضتهما وجود القوات الإيرانية في عمق سوريا أو على حدودها.
ثم عقد اجتماع مهم آخر لأول مرة في موسكو بين بوتين والرئيس اللبناني الجنرال ميشال عون، وتم وضع أسس العلاقات الاستراتيجية بين البلدين بعد سنوات كثيرة من العلاقات غير المستقرة. ترمز الزيارة إلى فصل جديد في العلاقات، والطرفان مسروران. إن قرار لبنان بتعميق التعاون في مجال النفط والغاز، كما يتضح من دخول شركتين روسيتين كبيرتين سوق الطاقة اللبنانية، إنجاز اقتصادي مهم. ويقول المراقبون إن حضور شخصيات بارزة في الاقتصاد الروسي الاجتماعات؛ يدل على موقف موسكو الجاد تجاه علاقاتها مع لبنان.
بالإضافة إلى ذلك، وعدت روسيا بالتعاون العسكري في المستقبل قبل الزيارة المقبلة لوزير الدفاع اللبناني إلى موسكو. تبقى هذه مبادرات لا تخل بالعلاقات العسكرية اللبنانية ـ الأميركية على وجه التحديد. تريد روسيا التأكيد على أنها تعدّ لبنان حليفاً إقليمياً استراتيجياً مهماً لاستقرار الشرق الأوسط، ولمعاملة سوريا للاجئين. ربما لم تكن هذه هي النتيجة التي أرادت إيران رؤيتها من هذا النوع من العلاقات.
في كل مواقفها، توجّه موسكو إلى طهران رسائل واضحة؛ بأنها إذا اتخذت إجراءات من جانب واحد، فستكون هناك تداعيات. رغم أن موسكو لا تستطيع بالضرورة تغيير سياسة طهران تجاه سوريا، فإنها بالتأكيد تستطيع الضغط على الأسد للقيام بذلك. من هنا؛ ورغم أن إيران تحاول إبراز الإنجازات الدبلوماسية، فإنه قد يتعين عليها أن تدفع غالياً مقابل هذه الإنجازات. سيكون من المثير للاهتمام معرفة الأحداث المقبلة التي ستقع في سوريا فيما يتعلق بالصراع العلني والسري بين مختلف القوى والتحالفات القديمة - الجديدة.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط