لم تعد قضية الديون الخارجية ذات أبعاد اقتصادية فحسب، بل باتت تعكس في التعامل معها من قبل القوى الدولية والأطراف الإقليمية أبعادًا سياسية وأمنية وعسكرية، على نحو ما تشير إليه حالات مختلفة، تمثلت في تأثير الضغوط الاقتصادية والعقوبات الأمريكية، وتجاوز الانتقادات الدولية بشأن ترحيل جماعات الهجرة غير النظامية، ودعم إعادة بناء الدول العربية "المأزومة"، وإعادة إعمار المدن المحررة من سيطرة التنظيمات الإرهابية، والحفاظ على استقرار بعض الدول، وتصاعد حدة الصراع على السلطة "ذات الرأسين" في بؤر الصراعات العربية، وارتفاع فاتورة علاج المواطنين العرب بعد عام 2011، وتأثيرات استمرارية الصراعات الداخلية المسلحة ذات الامتدادات الإقليمية، واستعادة الثقة عبر تحول التفاعلات الثنائية من الصراعية إلى التعاونية، وتسوية القضايا العالقة في العلاقات العربية البينية.
وقد شهدت الأعوام القليلة الماضية تأثيرًا انتشاريًا للديون الخارجية على تفاعلات دول الإقليم، وهو ما تكشف عنه المؤشرات التالية:
عقوبات ضاغطة:
1- الضغوط الاقتصادية والعقوبات الأمريكية: تشير كتابات عديدة إلى أن إيران سوف تستغل الزيارة التي سيقوم بها الرئيس حسن روحاني، في 11 مارس الجاري، إلى بغداد، لإجراء مباحثات حول عدة قضايا، منها ملف الديون الإيرانية، خاصة أن هذه الزيارة تأتي في ظل أوضاع اقتصادية خانقة وعقوبات صارمة تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران.
وهنا برز اتجاه يرجح أن روحاني قد يطرح فكرة مفادها أن تقوم الحكومة العراقية بتسديد ديون إيران الخارجية إلى الدول الغربية، وفق الاستحقاقات المترتبة، بدلاً من الحصول على تلك الأموال من الحكومة العراقية مباشرة ودفعها إلى الدول الدائنة، وذلك لتجنب التعامل بالدولار في ظل العقوبات الأمريكية. غير أن هذه الآلية المحتملة قد تسبب حرجًا لبغداد مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا سيما في ظل التزام العراق بمسألة العقوبات الأمريكية على طهران.
عمليات الترحيل:
2- تجاوز الانتقادات الدولية بشأن ترحيل جماعات الهجرة غير النظامية: وهو ما ينطبق على الجزائر منذ عام 2014، إذ أوضح مدير مركز العمليات للهجرة بوزارة الداخلية حسان قاسيمي، في 26 إبريل 2018، أن "الجزائر التي تعاني من حملة شعواء بسبب ملف المهاجرين غير الشرعيين، مسحت ما قيمته 3,5 مليار دولار ديون لـ14 دولة إفريقية، خلال الخمس سنوات الأخيرة لأسباب إنسانية".
وأضاف قاسيمي: "إنها حملة بنيت على صورة خيالية للوضع، والجزائر قامت بهذه الخطوة بدون أى شروط ولم تنتظر أى مقابل من أحد"، بل إن هناك تخوفات جزائرية على أمنها الوطني من القادمين من عدة دول إفريقية مثل مالي والنيجر وبوركينافاسو وغينيا وكوت ديفوار، لا سيما أن بعضهم عالق في ليبيا، على نحو يمكن أن يساعدهم في دخول الجزائر وتجاوز إجراءات المراقبة الأمنية على طول الحدود الرخوة، بسبب عدم تمكنهم من الوصول إلى إحدى الدول الأوروبية.
متطلبات البناء:
3- دعم إعادة بناء الدول "المأزومة": على نحو يبدو جليًا في حالة الصومال، إذ أكد وزير الشئون الخارجية والتعاون الدولي أحمد عيسى عوض، في القمة العربية التنموية التي استضافتها بيروت في 20 يناير 2019، على أن "الصومال تشهد اليوم تقدمًا ملموسًا في كافة المجالات الأمنية والسياسية والاجتماعية، وذلك من خلال بناء وإصلاح المؤسسات الحكومية والهيئات المالية، والعمل على مضاعفة الإيرادات الحكومية، وتحديث القوانين واللوائح المختلفة لتمهيد الطريق لتشجيع الاستثمار والتعاون الاقتصادي".
ودعا عيسى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية إلى مضاعفة جهودها والعمل على إعفاء الصومال من الديون الخارجية، وتوفير الدعم الفني اللازم للمساهمة في تنفيذ خطة التنمية الوطنية، وفي مقدمتها تقديم دعم مالي عاجل بهدف تعزيز موازنة الحكومة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن معظم الديون المترتبة على الصومال ترجع إلى عهد نظام سياد بري الذي حكم البلاد خلال الفترة (1969-1991)، وتمثل القروض العسكرية قسمًا كبيرًا من هذه الديون.
إعمار المناطق:
4- إعادة إعمار المدن المحررة من سيطرة التنظيمات الإرهابية: وجه العراق، في 2 إبريل 2018، دعوة إلى كوبا لمعالجة الديون العراقية المترتبة في ذمة الأخيرة، وتوقيع مذكرات تفاهم في مجالات مختلفة، يأتي على رأسها إعادة إعمار المدن، لا سيما المحررة من سيطرة تنظيم "داعش"، على نحو ما جاء في لقاء وزير الخارجية العراقي السابق إبراهيم الجعفري مع السفير الكوبي ألكسيس باندريش فيغا.
ويأتي ذلك التوجه في ظل ما تمر به العراق من ظروف اقتصادية ضاغطة نتيجة انخفاض أسعار النفط وتكاليف الحرب ضد "داعش". وحسب تصريح المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية أحمد محجوب، في 5 إبريل 2018، فإن "الديون العراقية المترتبة على كوبا تبلغ تقريبًا 70 مليون دولار، كانت من عهد النظام السابق".
تجاوز الأزمة:
5- الحفاظ على استقرار بعض الدول: لا سيما في ظل ضغوط واحتجاجات داخلية تواجهها على نحو ما ينطبق على السودان، إذ أعلن رئيس مجلس الوزراء السابق معتز موسى، في 2 نوفمبر 2018، عن "موافقة الصندوقين الكويتي والسعودي على إعادة جدولة ديون بلاده لمدة أربعين عامًا، لدعم خطوات الإصلاح الاقتصادي بالبلاد، وهو ما يكشف عن حسن نية هذه الدول تجاه مساعدة السودان لتجاوز أزمته الاقتصادية التي يمر بها كما تمثل خطوة هامة لتخفيف ديون السودان الخارجية".
حكومات موازية:
6- تصاعد الصراع على السلطة ذات الرأسين في بؤر الصراعات العربية: تتراكم الديون على ليبيا منذ عام 2011، بعد انقسام البلاد إلى حكومتين إحداهما في طبرق بالشرق والأخرى في طرابلس بالغرب، بسبب الصراع على السلطة بعد انهيار نظام معمر القذافي. وفي هذا السياق، أشارت تقارير، في 6 مارس الجاري، إلى قيام حكومة الشرق ببيع سندات بأكثر من 23 مليار دولار لتمويل فاتورة أجور موظفي الحكومة بحيث تجاوزت البنك المركزي في طرابلس، وهو ما سيترتب عليه، وفقًا لذلك، عجز مالي محتمل في حالة إعادة توحيد البلاد.
العلاج بالخارج:
7- ارتفاع فاتورة علاج المواطنين العرب بعد عام 2011: أجرى رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، في 2 ديسمبر 2018، مباحثات مع العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في عمان، تطرقت إلى ملف الديون المستحقة لمستشفيات خاصة في المملكة تلقى فيها الآلاف من الجرحى الليبيين العلاج بعد الثورة ضد نظام القذافي. وقد تم تشكيل لجنة مشتركة لبحث هذه المسألة، وفقًا لبيان صادر عن الديوان الملكي.
وينطبق ذلك أيضًا على معالجة الليبيين في المستشفيات التونسية، حيث اتفق وكيل الصحة بحكومة الوفاق محمد هيثم، في 10 ديسمبر 2018، مع وزير الصحة التونسي عبدالرؤوف الشريف، على إنشاء فرق عمل بين الوزارتين لتسديد الديون المستحقة على ليبيا في تونس مقابل علاج المرضى الليبيين.
طاحونة الفوضى:
8- تأثيرات استمرارية الصراعات الداخلية المسلحة ذات الامتدادات الإقليمية: وهو ما تعكسه الحالة اليمنية بعد سيطرة المتمردين الحوثيين على السلطة، في الثلث الأخير من عام 2014، حيث اندلعت حرب ممتدة بين الميلشيا المسلحة الانقلابية المدعومة من إيران والحكومة الشرعية التي تدعمها قوات التحالف العربي. وفي هذا السياق، قال نائب وزير المالية الروسي سيرغي ستورتشاك، في 19 يناير 2018، أن "اليمن توقف عن دفع المستحقات المترتبة على الديون أمام روسيا"، مضيفًا أن "إمكانية الدفع لدى اليمن تغيرت.. لقد كان مقترضًا جيدًا وكان يدفع بشكل منتظم حتى بعد بدء العمليات القتالية، ولكن الآن توقف".
في حين قررت الحكومة الصينية، في 18 أكتوبر 2017، إعفاء اليمن من ديون تصل لأكثر من 100 مليون دولار (730 مليون يوان صيني)، وهو ما تضمنته مذكرة التفاهم التي سلمها السفير الصيني لدى اليمن، تيان تشي، خلال لقائه بوزير الخارجية اليمني السابق عبدالملك المخلافي.
تعويضات الغزو:
9- استعادة الثقة عبر تحول العلاقات الثنائية من الصراعية إلى التعاونية: على نحو تشير إليه الحالة العراقية- الكويتية، حيث كانت الديون أو التعويضات إحدى المشكلات التي ترتبت على الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990. وفي هذا السياق، قال رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لتقدير التعويضات خالد المضف في الاجتماع الـ58 للجنة الأمنية في جنيف، في 6 نوفمبر 2018: "إن الكويت تلقت في العام الماضي (2017) ثلاث دفعات قيمة كل منها 90 مليون دولار، وفقًا لآلية الدفع المنصوص عليها في المقرر 267 لعام 2009، وأن المبلغ المتبقي للكويت حوالي 4,4 مليار دولار سيتعين سدادها مستقبلاً". وأشار المضف إلى أن "مواصلة الإيداع في صندوق التعويضات ستقرب الجميع من الإنجاز النهائي لمهمة مجلس الإدارة والحصول على كامل التعويضات المخصصة للكويت".
ديون متبادلة:
10- تسوية القضايا العالقة في العلاقات العربية البينية: والتي لم تصل إلى درجة تصاعد حدة التوتر بين بعض الدول العربية، ويبدو ذلك واضحًا في الخلافات بين العراق والأردن حول الديون المستحقة لدى كل منهما إزاء الطرف الآخر. ففي يناير 2019، طالبت الأخيرة الأولى بديون تتجاوز المليار دولار ترتبط بدور الأردن في برنامج النفط مقابل الغذاء حينما كانت العراق محاصرة في عقد التسعينات من القرن الماضي.
في حين أكد مقرر اللجنة المالية في البرلمان العراقي هوشيار عبدالله أن "البيانات المتوفرة تشير إلى أن للعراق ما بين 3 و5 مليارات دولار على الأردن منذ نظام صدام حسين، سواء لشخصيات تابعة للنظام أو أموال أودعت بأسماء شخصيات توفت". وفي هذا السياق، تظهر أهمية الزيارة التي قام بها العاهل الأردني عبدالله الثاني إلى بغداد للنقاش حول هذه المسألة.
خلاصة القول، يبدو أن ملف الديون الخارجية سوف يكون أحد محاور التفاعلات التي تجري بين الدول العربية، أو بينها وبين بعض الأطراف الإقليمية والدولية، حيث تتجاوز تأثيراته مجرد تخفيف الأعباء على كاهل الدول المدينة إلى دور الدول الدائنة في دعم الاستقرار ومحاربة الإرهاب وفرملة الفوضى ورفع منسوب الثقة، خاصة على مستوى العلاقات العربية البينية.