تصاعدت حدة المشكلات أو الأزمات التي واجهت تشكيل أو استمرار الحكومات الائتلافية في تونس ولبنان والعراق وإسرائيل، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، خلال الأشهر القليلة الماضية، لا سيما في ظل تآكل قدرة مختلف القوى السياسية والحزبية على تحقيق الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية التي تؤهلها لتشكيل الحكومة دون الائتلاف مع غيرها من الأحزاب والقوى السياسية، وهو ما يمكن تفسيره بعدة اعتبارات تتمثل في تعمق الانقسامات داخل الأحزاب الحاكمة، والنفوذ المتزايد لبعض الأطراف السياسية الداخلية، وغياب الكتلة البرلمانية الداعمة لرئاسة الحكومة، وكثرة الأحزاب السياسية الصغيرة، والتباين في الرؤى بين شركاء الائتلاف الحاكم تجاه الأزمات الخارجية أو التهديدات الأمنية.
وعلى الرغم من أن الحكومات الائتلافية تصنف في أدبيات النظم السياسية باعتبارها إحدى أهم آليات التعامل مع التعددية السياسية واستيعاب الانقسامات المجتمعية في إطار الديمقراطية التشاركية، إلا أن هذا النمط من الحكومات عادة ما يصاحبه عدة إشكاليات تؤدي لعدم الاستقرار السياسي في عدد من دول الإقليم، وهو ما يفسر تزايد مشكلات تأليف أو إعاقة عمل الحكومات الائتلافية، على النحو التالي:
تناقضات الحكم:
1- تعمق الانقسامات داخل الأحزاب الحاكمة: على نحو ما يحدث في تونس، حيث عارض جناح داخل حزب "نداء تونس" التعديل الوزاري الأخير في 5 نوفمبر الجاري، بدعوى أنه انقلاب على نتائج الانتخابات التي فاز فيها عام 2014، وعين آنذاك الحزب الحبيب الصيد رئيسًا للحكومة، قبل أن يقال ويتولى يوسف الشاهد رئاسة الحكومة حيث حاول الرئيس الباجي قايد السبسي إقالته لولا تمسك حركة "النهضة" ببقائه. فضلاً عن معارضة السبسي للمسار الذي انتهجه الشاهد بخصوص التعديل الوزاري، الذي وصفه بأنه متسرع ويعبر عن سياسة فرض الأمر الواقع.
ويعكس ذلك أزمة الحكومة في تونس، حيث تشكل ائتلاف حكومي هجين، يتكون من أحزاب "النهضة" (68 مقعد في البرلمان) و"الائتلاف الوطني" (35 مقعد) و"مشروع تونس" (14 مقعد) و"المبادرة" (غير ممثل في البرلمان الحالي)، وهو ما يمنح رئيس الحكومة الثقة اللازمة للبقاء في منصبه بعد فقدان حزب "النداء" صفته الأغلبية في البرلمان لصالح حركة "النهضة". لذا، يرى البعض أن هذه الحكومة تعد حكومة "النهضة" التي عينت الشاهد رئيسًا لها. ورغم أن الحكومة حظيت بثقة البرلمان في منتصف نوفمبر الجاري، إلا أن ثمة مخاوف من تعطيل عملها، لا سيما أن النظام السياسي المعتمد يعطي سلطات أكبر لرئاسة الحكومة وليس لرئاسة الجمهورية.
فائض القوة:
2- النفوذ المتزايد لبعض الأطراف السياسية الداخلية: وهو ما ينطبق على حالة لبنان، منذ تكليف سعد الحريري في 24 مايو الماضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية في أسرع وقت ممكن بسبب الأوضاع الاقتصادية والمخاطر المتزايدة في الإقليم، غير أن المشاورات بين الأطراف السياسية واجهت عقبات عديدة، بسبب إصرار "حزب الله" على تنفيذ مطالبه لشعوره بفائض قوته حسب رؤية بعض الاتجاهات. لذا، قال الحريري في 14 نوفمبر الجاري: "إن الحكومة جاهزة، غير أن هناك قرارًا من قيادة حزب الله بتعليق تأليفها"، حيث استند إلى مبررات عديدة كان آخرها ما يسميه البعض حاجز "سنة 8 آذار" خاصة بعد رفض الحريري توزير النواب السنة المستقلين في حصته.
ولعل ذلك يعكس رفض تيار "المستقبل" الضغوط التي تتم ممارستها على الحريري، منذ عدة أشهر، ورفض الحريري تحكم "حزب الله" في حصة السنة من الحقائب الوزارية، في حين يسعى "التيار الوطني الحر" إلى انتزاع "الثُلث المُعطِّل" داخل الحكومة الجديدة، وذلك من خلال الحصول على 10 وزراء كحد أدنى من أصل 30 وزيرًا، وبما يمنحه حق الاعتراض وعرقلة إصدار القرارات الحكومية، وهو الأمر الذي يتحسب منه الحريري، حيث يرفض منح ذلك النفوذ لأى فصيل سياسي داخل الحكومة.
ظهير غائب:
3- غياب الكتلة البرلمانية الداعمة لرئاسة الحكومة: يفتقد رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي للقاعدة البرلمانية التي تؤهله لاتخاذ قرارات مستقلة، خاصةً أنه ليس عضوًا في أى تيار سياسي، ولم يكن مرشح ائتلاف محدد، وكذلك لا يُتوقع أن يسعى لبناء كتلة سياسية من داخل مجلس النواب وخارجه، وهو ما يفسر حرصه، حسب اتجاهات عديدة، على استرضاء مختلف الأطراف لأنه جاء إلى موقع رئاسة الحكومة خلافًا لما هو متعارف عليه منذ عام 2003، حيث يقضي الدستور الدائم لعام 2005 بأن "يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددًا بتشكيل مجلس الوزراء".
قد شهد إسناد رئاسة الحكومة قفزًا مباشرًا من دور الكتلة الفائزة في تحديد اسم رئيس الحكومة إلى تكليف الرئيس برهم صالح مباشرة لعبدالمهدي. وعلى الرغم من الملمح التوافقي خاصة بين الكتلتين الرئيسيتين الفائزتين بأغلبية المقاعد النيابية وهما "سائرون" و"الفتح"، بشأن تولي عبدالمهدي رئاسة الحكومة، إلا أن ذلك ليس كافيًا لتشكيلها، على نحو ما يعكسه الصراع على الحقائب الوزارية نظرًا لترسخ نظام المحاصصة الطائفية. ولا يتوقع من حكومة عبدالمهدي انتهاج مسار مختلف عما اعتادت أن تسلكه الحكومات العراقية السابقة على مدى العقد ونصف الماضي.
فقد اختار عبدالمهدي من 4 إلى 5 وزارات، في حين تم فرض 9 وزارات من قبل الكتل السياسية. وفي هذا السياق، يمكن فهم الضغوط التي يمارسها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر حيال رفض ترشيح فالح الفياض رئيس "الحشد الشعبي" ومستشار الأمن الوطني السابق لمنصب وزير الداخلية في الحكومة المقبلة، في حين لا تملك كتلة "البناء" التي يتزعمها هادي العامري خيارًا بديلاً عن الفياض بما ينهي تلك الأزمة، التي تجعل حكومة عبدالمهدي أسيرة التناقضات. فثمة خلاف شيعي- شيعي حول المرشح لوزارة الداخلية وسني– سني حول المرشح لوزارة الدفاع.
العتبة الانتخابية:
4- كثرة الأحزاب السياسية الصغيرة: يؤدي انتشار تشكيل الحكومات الائتلافية إلى تعزيز دور الأحزاب الصغيرة في العملية السياسية، لأنها تساهم في استكمال الأغلبية التشريعية الداعمة للحكومة الائتلافية، مما يدفع الأحزاب الكبرى إلى محاولة استرضاءها لاستقطاب تأييدها من خلال منحها مناصب وزارية مهمة أو تخصيص وظائف إدارية لكوادرها بشكل يؤدي إلى تفتيت بنية النظام الحزبي للدولة وتزايد الأحزاب الإقليمية محدودة الانتشار التي يمكنها ممارسة تأثير سياسي أكبر من حجمها والضغط على الحكومات الائتلافية وتقييد قدرتها على البقاء، على نحو ينطبق بشكل كبير على الحالة التونسية التي يفوق عدد الأحزاب السياسية فيها الـ200 حزب، وأكثرها ينتمي لفئة الأحزاب الصغيرة.
وفي هذا السياق، صادقت لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين الانتخابية في البرلمان التونسي، في 16 نوفمبر الجاري، على مشروع قانون جديد، يرفع عتبة الدخول إلى البرلمان من 3 إلى 5 في المئة من أصوات الناخبين، وهو ما يعني تعثر دخول نحو 13 حزبًا (على غرار تحالف "الجبهة الشعبية"، وحزب "التيار الديمقراطي"، و"حركة الشعب"، وحزب "آفاق تونس"، وحزب "المبادرة التونسية") والمستقلين البرلمان في الانتخابات التشريعية المقررة في عام 2019. وأبدت عدة أحزاب سياسية ومنظمات حقوقية استياءها من هذا القانون الجديد، الذي ينتظر عرضه على أعضاء البرلمان في جلسة لاحقة، لأنه يؤدي إلى تكريس قوة الأحزاب السياسية المهيمنة، وتحديدًا "نداء تونس" و"النهضة".
تهديدات أمنية:
5- التباين في الرؤى تجاه الأزمات الخارجية: تعرض الائتلاف الحاكم في إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو لأزمة جديدة، على خلفية قرار وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان بالاستقالة من منصبه، احتجاجًا على اتفاق التهدئة مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، حيث دعا ليبرمان زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" إلى إجراء انتخابات مبكرة في مارس المقبل، الأمر الذي أثار تساؤلات حول مصير الحكومة، لا سيما بعد رفض نتنياهو منح حقيبة الدفاع لحزب "إسرائيل بيتنا" مرة أخرى.
وبانسحاب حزب ليبرمان صارت غالبية الائتلاف المكون للحكومة في الكنيست تعتمد على مقعد واحد، وهو ما يعني أن انسحاب أى حزب آخر من الائتلاف سيؤدي إلى سقوط الحكومة. وقد أجرى نتنياهو محادثات مع رؤساء أحزاب الائتلاف الحكومي، لإنقاذ حكومته، حتى إجراء الانتخابات المقررة في نوفمبر 2019، ونتج عنها إعلان وزير التعليم وزعيم حزب "البيت اليهودي" المتطرف نفتالي بينيت بقاءه في الحكومة، الأمر الذي ينهي الأزمة مؤقتًا، ويضعف احتمال إجراء انتخابات مبكرة نسبيًا.
أزمة نظام:
خلاصة القول، إن تعقيدات تشكيل الحكومات الائتلافية أو تعطل عملها في حالات مختلفة داخل بعض دول الإقليم تعبر عن تنازع قوة التحكم داخل مؤسسات الدولة أو صراعات أجنحة في الأحزاب الحاكمة، وهيمنة النظم الحزبية غير المستقرة، وتعثر استمرار التوافق بين القوى السياسية المشاركة في الائتلافات على برامج سياسية قابلة للتطبيق تحظى بالقبول المجتمعي، وضعف الكفاءة الحكومية في التعامل مع الملفات الخدمية والسياسية، الداخلية والخارجية، وعدم تلاقي الإرادات الخارجية على ضرورة استكمال التشكيل الحكومي في بعض الحالات المأزومة. ومن ثم، يمكن اعتبار ما سبق بمثابة أزمة مزمنة لنظم تستعصي على تشكيل مؤسسات تدار بآليات ديمقراطية في أغلب الأحيان، واستدامة الاستقرار الداخلي حتى يمكنها مواجهة الفوضى القادمة من مناطق مختلفة داخل الإقليم.