منحت الولايات المتحدة الأمريكية إعفاءات لثماني دول لتتمكن من مواصلة شراء النفط الإيراني لمدة ستة أشهر مقبلة، بعد أن أثبت بعضها جدية في التجاوب مع الضغوط الأمريكية على مدار الأشهر الماضية لتقليص الواردات النفطية من إيران. وبخلاف ذلك، يبدو أن تحرك واشنطن لمنح هذه الإعفاءات يأتي مدفوعًا برغبتها في تجنب حدوث صدمة للسوق بسبب تطبيق الجولة الثانية للعقوبات على إيران منذ 5 نوفمبر الحالي. وفي العام المقبل، سيتوقف اتجاه الإدارة الأمريكية لتمديد الإعفاءات لمستوردي النفط الإيراني على اعتبارات عديدة تتعلق بوجود إمدادات كافية من النفط بالاسواق العالمية، وجهود الدول المُعفاة في العثور على بدائل للنفط الإيراني، فضلاً عن مسارات التفاوض بين هذه الدول والإدارة الأمريكية لتمديد الإعفاءات.
تحركات متعددة:
في اللحظات الأخيرة، أبدت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرونة ملحوظة في سياستها للحد من صادرات النفط الإيرانية للأسواق الدولية، حيث سمحت لثماني دول بمواصلة شراء النفط الإيراني، وذلك بعد الضغوط التي مارستها على الكثير منها لوقف وارداتها بالكامل. وضمت قائمة هذه الدول كلاً من الصين والهند وتركيا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وإيطاليا واليونان، وذلك وفق تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في 5 نوفمبر الجاري.
وفيما يبدو، فإن الإدارة الأمريكية ترغب في مكافأة بعض الدول السابقة التي أبدت تعاونًا معها في الأشهر الماضية للحد من وارداتها النفطية من إيران، على غرار كوريا الجنوبية التي قلصت وارداتها إلى مستوى الصفر بداية من يوليو وحتى أكتوبر الماضيين، كما بدأت اليابان أيضًا في تخفيض مستويات مشترياتها في الأشهر الأخيرة بأكثر من النصف، فيما تمسكت دول أخرى، مثل تركيا والصين والهند، بمواصلة شراء النفط الإيراني.
وقد سمحت الإدارة الأمريكية للعراق باستيراد الكهرباء والغاز من إيران، كما ستتمكن أفغانستان من استيراد المشتقات النفطية منها، طبقًا لتصريحات هارون تشخانسوري المتحدث باسم الرئيس الأفغاني، وذلك بجانب إعفاء تنفيذ ميناء تشابهار الإيراني من العقوبات ضد إيران، وهو مشروع يربط بين أفغانستان والهند وإيران.
وحتى الآن، لم تتضح بشكل كامل ملامح الخطة الأمريكية للإعفاءات الممنوحة للدول السابقة، من حيث الكميات المسموح باستيرادها أو وسائل الدفع المحتملة. لكن على الأرجح، سوف تتم تسوية المعاملات النفطية بين إيران والدول المستوردة من خلال العملات المحلية على أن يتم الاحتفاظ بها في بنوك محلية تابعة للدولة المستوردة وعدم استخدامها من قبل إيران إلا لشراء السلع غير الخاضعة للعقوبات الأمريكية، وخاصة الأغذية والأدوية.
وبالنسبة للصين، تشير الترجيحات إلى أن الإدارة الأمريكية سوف تمنحها- باعتبارها أكبر مشتري للنفط الإيراني- إعفاء لشراء 360 ألف برميل يوميًا، بما يمثل أقل بالنصف من متوسط مشترياتها السابقة البالغة نحو 655 ألف برميل يوميًا في الفترة من يناير إلى سبتمبر الماضيين.
ومن المحتمل أن تتمكن كوريا الجنوبية من استيراد حوالي 130 ألف برميل يوميًا من إيران وفق الحكومة الكورية، على أن تتم تسوية المدفوعات بالعملة الكورية مع إيران وإيداعها في المصرف الصناعي الكوري. وبالمثل أيضًا، من المتوقع أن تواصل مصافي النفط الهندية شراء النفط الإيراني بالروبية الهندية في الفترة المقبلة لحساب أحد البنوك الهندية.
تداعيات محتملة:
يتماشى منح واشنطن إعفاءات لثماني دول لمواصلة استيراد النفط مع رغبتها في تصحيح الأسعار العالمية للنفط، التي واصلت ارتفاعها منذ بداية العام الجاري وحتى أكتوبر الماضي بأكثر من 10 دولارات للبرميل، أى إلى 76 دولارًا للبرميل. وبدون هذه الإعفاءات، كان من الممكن أن تتجاوز أسعار النفط حاجز 80 دولارًا للبرميل، خاصة مع استمرار اضطراب الإنتاج في بعض الدول على غرار فنزويلا وليبيا.
وقد انعكس الاتجاه السابق في تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 5 نوفمبر الجاري، التي أكد فيها أنه بإمكانه دفع صادرات النفط الإيرانية إلى نقطة الصفر على الفور ولكن هذا الأمر قد يسبب صدمة للسوق وارتفاعًا أكبر في أسعار النفط في المستقبل المنظور. ولا شك أن هذا التحرك بالفعل منح أسواق النفط العالمية بعض الاطمئنان بوجود إمدادات كافية من النفط في الأجل القصير وسط الجهود الدبلوماسية التي تقودها الإدارة الأمريكية لإقناع منتجي النفط بمنظمة "أوبك" بتعويض نقص الإمدادات القادمة من إيران.
ونتيجة لذلك، تجاوبت أسواق النفط مع التحركات الأمريكية، حيث سجل خام برنت خلال اليوم التالي لتطبيق الجولة الثانية من العقوبات 72.13 دولارًا للبرميل، كما وصل الخام الأمريكي غرب تكساس إلى 62.21 دولارًا للبرميل.
أما بالنسبة لإيران، يبدو أن الخطوة الأمريكية ستمكنها من الحفاظ على مستوى الصادرات عند 1.1 مليون برميل يوميًا حتى نهاية العام الجاري، لكنها أقل بطبيعة الحال بالمقارنة بمتوسط قدره 2.4 مليون برميل يوميًا في النصف الأول من العام الجاري، وهو ما قد يمنح اقتصادها بعض الحيوية في مواجهة العقوبات الأمريكية، حيث يسمح لها بمواصلة استيراد احتياجاتها من السلع الغذائية والإنسانية على أقل تقدير.
السيناريو المقبل:
تسعى الإدارة الأمريكية، بلا شك، إلى فرض قيود شديدة على الصادرات النفطية الإيرانية لتصل إلى مستوى الصفر في الفترة المقبلة، بهدف إرغام إيران على إعادة التفاوض على الاتفاق النوي. ورغم ذلك لم تتضح بعد النوايا الحقيقية للإدارة الأمريكية فيما يتعلق بشأن صادرات إيران.
فهناك اتجاه داخل الإدارة يدعو إلى ضرورة الضغط على كافة الدول لوقف كافة مشترياتها من إيران على غرار الممثل الأمريكي الخاص بإيران برايان هوك الذي يعتبر أنه من الممكن وقف صادرات النفط الإيرانية والمكثفات من السوق العالمية دون زيادة في أسعار النفط. فيما يبدي اتجاه آخر مرونة أكبر، حيث يفضل السماح لإيران بمواصلة تصدير كمية من نفطها حتى في ظل العقوبات الأمريكية.
ومن دون شك، فإن ترجيح أى من الاتجاهين السابقين سيتوقف على اعتبارات موضوعية عديدة: يتعلق أولها، بمسار المفاوضات بين الدول المستوردة والإدارة الأمريكية في العام المقبل لتسمح لها أو تمنعها من مواصلة شراء النفط الإيراني بعد فترة الستة أشهر المقبلة، وربما يرتبط ذلك أيضًا بقدرة هذه الدول على إقناع إيران أيضًا بإعادة التفاوض مجددًا مع الولايات المتحدة.
وينصرف ثانيها، إلى مدى تعاون أعضاء منظمة "أوبك" والمنتجين المستقلين مع الإدارة الأمريكية لتعويض نقص الإمدادات الإيرانية في الفترة المقبلة، وإن كانت المؤشرات الأولية لا تعكس هذا الاتجاه، حيث تشير بعض الترجيحات إلى إمكانية قيام المنظمة بخفض إنتاجها في عام 2019 بعد التحرك الأمريكي بمنح الإعفاءات لبعض الدول.
ويتمثل ثالثها، في مدى قدرة الدول المُعفاة على إيجاد بدائل للنفط الإيراني، حيث أن دولاً عديدة سوف تتجه لاستيراد النفط من مصادر أخرى لتعويض تراجع وارداتها من النفط الإيراني، بل إن بعضها، مثل تايوان، لا يرى أى مأزق في التوقف بشكل كامل عن شراء النفط الإيراني، وهو ما أشار إليه رئيس شركة "فورموزا" للبتروكيماويات، وهى شركة تكرير النفط الوحيدة في تايوان، الذي قال أنه من السهل العثور على بدائل أخرى، كما أن النفط الإيراني لا يمثل الآن سوى 2% من الواردات النفطية الإجمالية.
وختامًا، يمكن القول إنه من الصعب التكهن بنية الإدارة الأمريكية إزاء تمديد الإعفاءات من عدمه في العام المقبل، حيث يعتمد ذلك على ديناميكية أسواق النفط. لكن على الأرجح سوف تعمل الإدارة الأمريكية على فرض توازن بين المسارات الخشنة والناعمة في تعاملها مع إيران من أجل دفعها في نهاية المطاف إلى القبول بإعادة التفاوض حول الاتفاق النووي.