تباينت آليات تعامل الحكومات العربية مع الزوايا الدينية، خلال الفترة الماضية، ما بين الدعم أو الحصار، الاحتواء أو التجميد أو الاستبعاد للمنتسبين لها، لا سيما في المناطق العشوائية والشعبية والطرفية، على نحو ما حدث في السودان وليبيا والجزائر والمغرب ومصر وتونس، بما يحقق عدة أهداف تمثلت في تعزيز المرجعية الدينية، ودعم الشرعية السياسية، والتصدي للسلفية المدخلية، ومنع تفريغ الأفكار المتطرفة، ووقف أعمال العنف الداخلي المحتمل، وضمان الاستقرار في دول الجوار، وتعزيز الدبلوماسية الدينية في دول القارة الإفريقية.
وتشير خبرات الدول العربية في إدارة ملف الزوايا الدينية إلى عدد من المحددات الحاكمة، على نحو ما توضحه النقاط التالية:
إسلام منفتح:
1- تعزيز المرجعية الدينية: وهو ما تجسده حالة مؤسسة الرئاسة في الجزائر، منذ وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للحكم في إبريل 1999. ولعل ما يدعم ذلك قيام الرئيس بوتفليقة، في 15 مايو الجاري، وهو على كرسيه المتحرك بإزالة الستار عن لوحة تدشين زاوية الشيخ محمد عبداللطيف بلقائد في بلدية بئر خادم في العاصمة لتبدأ الزاوية بالاستعداد لاحتضان أيام الدروس المحمدية خلال شهر رمضان.
واللافت للنظر تزامن هذه الزيارة مع الاحتفال باليوم العالمي للعيش بسلام، بما يعني أنها كانت تهدف إلى توجيه رسالة تربط بين الإسلام المعتدل وفكرة السلام، إذ تتمثل خيارات النخبة الحاكمة في دعم المؤسسة الدينية المعتدلة من ناحية وعدم الإخلال بالواجبات الشرعية للزاوية من ناحية أخرى. ووفقًا لذلك الاتجاه، تؤدي الزوايا "الصوفية" دورًا جوهريًا في تعزيز سماحة ووسطية الإسلام في الجزائر.
تأييد الحكم:
2- دعم الشرعية السياسية: يسود اتجاه في الأدبيات مفاده وجود علاقة بين صانع القرار في الجزائر والزوايا، حيث أعاد الرئيس بوتفليقة المكانة والسلطة المعنوية لشيوخ الزوايا بعد سنوات تراجع فيها دورهم منذ فترات الحصول على الاستقلال في الستينيات من القرن الماضي، وبصفة خاصة في فترة الرئيس هواري بومدين، وبشكل أقل في فترة الرئيس الشاذلي بن جديد.
إذ بدأ التحالف دينيًا واتخذ طابعًا سياسيًا، حيث دعمت الزوايا ترشح الرئيس في ولايته الأولى ثم امتدت إلى الولايات الأخرى، وكان لها دور كبير في استمالة قطاعات واسعة من مريديها ومؤيديها لدعم بوتفليقة، ووصل تحالف الرئيس والزوايا إلى حد إعلان بعضها، في نوفمبر 2017، أن "التفكير في مرشح آخر لرئاسة الجمهورية غير بوتفليقة حرام"، الأمر الذي يشير إلى تحضيرات محتملة لترشح بوتفليقة لولاية خامسة في الانتخابات الرئاسية القادمة.
مواجهة السلفية:
3- التصدي للسلفية المدخلية: صدر قرار عن الغرفة الأمنية المركزية في بنغازي ورئاسة أركان قوات عملية الكرامة، في 9 إبريل 2018، موجه إلى نقيب عام السادة الأشراف في ليبيا عزالدين بلعيد الشيخي، ويتضمن الموافقة على إعادة فتح الزوايا الصوفية وممارسة دورها في نشر تعاليم الإسلام السمح، وهو ما أثار رفض السلفية المدخلية، التي اتسع نطاق خلافاتها مع الصوفية بشكل كبير.
فقد قامت مجموعات مسلحة سلفية بتدمير عشرات المواقع الدينية، بما في ذلك مساجد وأضرحة ومقابر ومكتبات تحوي مخططات قديمة، وبصفة خاصة منذ عام 2012، الأمر الذي تسبب في تخويف وترهيب المنتسبين للطرق الصوفية، ومنهم شيوخ، بل تم اختطاف ناشطين مدنيين صوفيين، واتجه بعضهم إلى مغادرة ليبيا خوفًا من الاضطهاد، وفقًا لما ذكرته تقارير حقوقية عربية ودولية.
كما يواصل وزير الشئون الدينية في الجزائر محمد عيسى تطبيق خطط الحكومة لمحاربة الفكر المتطرف، وهو ما أفسح المجال للزاوية لأن تكتسب مكانة بارزة على حساب تيارات دينية أخرى في البلاد. وتصاعدت أيضًا دعوات داخل تونس تؤكد أن الزوايا الصوفية هى التي يمكن أن تواجه الفكر التكفيري الذي كان أحد الأسباب التي جعلت تونس المصدر الرئيسي لمقاتلي "داعش" في الإقليم.
منابر التشدد:
4- منع تفريغ الأفكار المتطرفة: توجه انتقادات محددة للزوايا المنتشرة في عدد من المحافظات المصرية- والتي ترفع شعارات تحفيظ القرآن ويعمل معظمها بلا رخصة قانونية ويخالف بعضها قوانين البناء- تتمثل في تسلل عناصر من جماعة "الإخوان المسلمين" الإرهابية، وغيرها من الجماعات العنيفة إليها. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد إحصاء رسمي يحدد عدد هذه الزوايا، بل تقدرها إحصاءات غير رسمية بنحو 120 ألف مسجد صغير، لا تتبع وزارة الأوقاف، لكن أغلبها يخضع لإشراف الأهالي أو بعض جماعات الإسلام السياسي.
وفي هذا السياق، أكد وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة، في 22 يناير 2018، على أن "بعض الزوايا استخدمتها الجماعات الإرهابية خلال السنوات الماضية لنشر الأفكار المتطرفة"، كما رصدت تقارير رسمية انطلاق فتاوى التكفير من داخل بعضها. لذا، قضت محكمة مصرية، في مارس 2016، بأحقية الأوقاف في ضم جميع المساجد الصغيرة والإشراف عليها.
وأضاف جمعة: "إن مصر لن تسمح ببناء الزوايا مستقبلاً، وإن الزوايا الموجودة حاليًا سيقتصر دورها على أداء الصلاة فقط، أما الدروس الدينية وتحفيظ القرآن فستكون مقصورة على المسجد الجامع". لذا، يمكن تفهم مطالبة دكتور جمعة المحافظين في أقاليم مصر بعدم إصدار أى ترخيص بناء للزوايا، حيث يقتصر منح التراخيص على المسجد الجامع، الذي سيكون بمثابة مركزًا دينيًا تقدم فيه خدمات التوعية والدروس الدينية وتحفيظ القرآن وصلاة الجمعة.
فرملة التوتر:
5- وقف أعمال العنف الداخلي المحتمل: جمدت الأجهزة الأمنية السودانية، في 16 يناير 2016، نشاط ما عرف بزاوية الأمين عمر الأمين في الخرطوم، ومنعت تجمع روادها، تفاديًا لأية احتجاجات قد تتطور إلى أعمال عنف منظم، على خلفية الأحكام القضائية بالإدانة التي صدرت بحق منسوبي تلك الزاوية، الأمر الذي يسلط الضوء على مخاطر احتماء بعض المواطنين السودانيين بزوايا دينية.
حديقة خلفية:
6- ضمان الاستقرار في دول الجوار: توظف الأجهزة الأمنية في الجزائر علاقتها الوثيقة بالزوايا الدينية في الجنوب الجزائري، لنفوذها القوي وعلاقاتها المتشعبة في عدد من دول الجوار مثل موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينافاسو، بهدف ضمان الاستقرار في شمال مالي، ومنع تزايد نفوذ التيار السلفي الجهادي في منطقة الساحل بشكل عام، بعد أن حصل على موطئ قدم في تلك المنطقة، والحيلولة دون امتداد مؤثرات الفوضى إلى الداخل. بعبارة أخرى، ثمة نفوذ للزوايا في منطقة الساحل الإفريقي، التي توصف بأنها "الحديقة الخلفية للجزائر".
تنافس إقليمي:
7- تعزيز الدبلوماسية الدينية في القارة الإفريقية: تشير بعض الكتابات إلى تنافس بين الجزائر والمغرب في مجال الدبلوماسية الدينية بالدول الإفريقية جنوب الصحراء، الأمر الذي تعكسه الجمعية العامة لرابطة علماء ودعاة وأئمة دول الساحل، والتي تهدف إلى نشر ثقافة السلم ونبذ العنف في الدين والتشجيع على التعايش. وكذلك الحال بالنسبة لمعهد محمد السادس للعلماء الأفارقة الذي يهدف إلى توحيد جهود علماء المغرب وباقي الدول الإفريقية لخدمة مصالح الدين الإسلامي وتشجيع الأبحاث والدراسات في مجال الفكر والثقافة الإسلامية.
بخلاف ذلك، يوجد لدى كل من المغرب والجزائر عدد من الزوايا، وهى مؤسسات دينية صوفية، وتحظى برعاية ملكية ورئاسية خاصة، وتخصص ميزانيات مالية لها، وتترك تأثيرات على التفاعلات السياسية والاجتماعية داخل كل دولة على حدة، وتحظى بدعم مريدين لها في دول الجوار الإفريقي، وتنظم عدة ملتقيات إقليمية بهدف دعم تأثيرها الدبلوماسي في القارة، لا سيما أن المغرب تنشط داخل الاتحاد الإفريقي أكثر من فعالية دورها داخل جامعة الدول العربية.
أدوار مختلفة:
خلاصة القول، إن الزوايا الدينية تسهم بأدوار مختلفة في عدة دول عربية، فإذا كانت خبرتها في بعض الحالات تتمثل في دعم التشدد والتطرف والإرهاب، لا سيما في ظل خروج عدد منها عن إشراف وزارة الأوقاف، فإن الزوايا الصوفية برز دورها في مواجهة السلفية المدخلية والجهادية في الجزائر وليبيا، وخاصة في الأولى التي تعد مؤسسات دينية واجتماعية وعلمية اضطلعت بالعديد من المهام الفقهية والإصلاحية، فضلاً عن تعزيز شرعية حكم الرئيس بوتفليقة، إلى جانب دعم العلاقات بين الزوايا العابرة للحدود الوطنية لمنع تمدد نفوذ التيارات المتطرفة في منطقة الساحل الإفريقي.