نجح النظام السوري في تقسيم الغوطة الشرقية إلى ثلاث مناطق، في تكتيك يهدف إلى منع الجماعات المتمردة المختلفة التي تقاتل في هذه المنطقة من التنسيق ضده. ينظر إلى هذا التطور على نطاق واسع كخطوة أخرى إلى الأمام للنظام، في جهوده لاستعادة السيطرة في جميع أنحاء سوريا. كما بدأ كثيرون في الغرب يعتبرون أن النظام السوري يقترب من «النصر» في الصراع، وأن صانعي السياسة والوكالات الدولية يجب أن يجهزوا أنفسهم على هذا الأساس.
لكن مفهوم «السيطرة» المستخدم في الحديث عن سوريا في المجال العام في الغرب، غالباً ما يتم اختزاله إلى الأمور العسكرية. وهذا أمر مثير للجدل؛ لأنه يتجاهل البعد غير العسكري لما تشمله «السيطرة»، مثل الاقتصاد والحوكمة. إن إهمال شمل هذين الجانبين عند الحديث عن «السيطرة» يشوه حقيقة الديناميكيات في سوريا، من حيث صلتها بالأطراف المختلفة المشاركة في الصراع على الأرض، وكذلك الديناميكيات المتعلقة بمشاركة الجهات الأجنبية.
يكشف مسح مشهد الصراع السوري عن الاختلافات بين الديناميكيات العسكرية والاقتصادية والحوكمة في مختلف المناطق. في الشمال الغربي على سبيل المثال، فسر كثيرون الوجود العسكري لهيئة تحرير الشام بأنه سيطرة شاملة. تمكنت هيئة تحرير الشام من فرض سيطرتها العسكرية في إدلب بمستوى أعلى من الجماعات العسكرية الأخرى، لفترة زمنية طويلة، ولكن محاولاتها لوضع يدها على الحكم هناك لم تكن ناجحة. وقد واجهت منظمات المجتمع المدني قيامها بإنشاء «الإدارة المدنية»، كما رفض كثير من المجالس المحلية جهودها في اختراقها.
من الناحية الاقتصادية، تولت هيئة تحرير الشام توفير الكهرباء والمياه في إدلب، لاستخدام توزيع الخدمات كمصدر للدخل. وقررت أيضاً فرض ضرائب على السلع، لا سيما السلع التي تؤمن لها الربح، مثل الإسمنت والوقود، والتي يجري نقلها إلى مناطق تخضع لسيطرتها من المناطق التي تحكمها جماعات مسلحة أخرى. على الرغم من أن هيئة تحرير الشام كانت تحارب بعض تلك الجماعات المسلحة، فإنها كانت تعمل اقتصادياً معهم. وتنطبق الديناميكية نفسها على المجموعات الأخرى في الشمال الغربي، التي غالباً ما تقاتل ويتعامل بعضها مع بعض تجارياً في الوقت نفسه، مثل الجبهة الشامية وشبكات حماية الشعب.
في الغوطة الشرقية، فرض النظام السوري حصاراً لمدة خمس سنوات تقريباً؛ لكن الجماعات الموالية للنظام تعمل أيضاً اقتصادياً مع الجماعات المتمردة داخل الغوطة الشرقية، مثل «جيش الإسلام». حفرت الجماعات الموجودة داخل الغوطة الأنفاق التي يتم من خلالها تهريب البضائع إلى الغوطة الشرقية، ولكن في كثير من الأحيان كانت الكيانات التي تورد تلك البضائع للمهربين مكونة من عناصر مؤيدة للنظام، استفادت اقتصادياً من هذه التجارة مع خصومها.
في حين أن النظام قد يستولي في نهاية المطاف على الغوطة الشرقية بعد معركة دموية شرسة، فإن هذا لن يؤدي بالضرورة إلى توفير الخدمات من قبل الدولة لهذه المنطقة. إذا تم أخذ حالة حلب الشرقية كمثال قابل للمقارنة، فمن المرجح أن يستمر حرمان الغوطة الشرقية من الخدمات الحيوية، وستديرها الميليشيات الموالية للنظام التي تشارك في نهب وابتزاز السكان المحليين.
وحتى في المناطق التي ظلت تحت رقابة النظام، فإن هذه الميليشيات الموالية تقوم بالفعل بنشاطات اقتصادية تقوم على النهب والابتزاز دون تدخل من الدولة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الدولة السورية قلت قدرة مؤسساتها الأمنية والعسكرية، وأصبحت تعتمد على هذه الميليشيات من أجل البقاء، ولكن أيضاً لأنها غير قادرة تماماً على التحكم في أنشطة تلك الميليشيات. إضافة إلى ذلك، كانت العناصر الموالية للنظام مثل بعض النخب التجارية تعمل في تسهيل تهريب وبيع الوقود المنتج في المناطق الواقعة تحت حكم «داعش» إلى إيران.
على مستوى الدولة، يقوم النظام السوري بعرض عقود تجارية واستثمارية على روسيا وإيران، والتي تستند أحياناً إلى وعود بتقديم المصدر نفسه لكليهما، ولكن حجم الموارد المعروضة أصغر من أن يتم تسليمه على مستوى عال لأكثر من لاعب أجنبي واحد.
ما تبينه هذه الديناميكيات هو أن تفسير أي استيلاء عسكري على المساحات الجغرافية في سوريا بأنه «نصر» شامل لأي طرف، هو تبسيط غير دقيق.
بالنسبة للنظام، لا تعني السيطرة العسكرية استعادة سلطة الجيش السوري؛ لأنه يعتمد في كثير من الأحيان على الميليشيات للمحافظة على نفوذه في المناطق التي يستردها، كما هو الحال في شرق حلب. كما لا تعني استعادة الخدمات، فلا تقترن السيطرة العسكرية تلقائياً بإعادة الحوكمة كما كانت خلال الفترة السابقة للحرب. كما لا تعني السيطرة العسكرية أن الدولة ستكون مسؤولة عن المناطق اقتصادياً، أو أنها ستستفيد منها بالكامل في هذا الصدد. إن انتشار الجهات الفاعلة غير الرسمية التي أصبح النظام مضطراً إلى المحافظة على رضاها، سوف يترجم إلى ضغط على موارد الدولة. كما أن العلاقة الزبائنية التي أقامها النظام السوري مع روسيا وإيران، ستجعل الدولة رهينة لهما اقتصادياً.
إن الحملة العسكرية التركية على عفرين، وتوسيع نفوذها على الأرض في سوريا، تعني أيضاً أن النظام السوري سيجد صعوبة في توسيع سيطرته العسكرية في الشمال الغربي؛ لأن ذلك سيضعه في مواجهة مباشرة مع تركيا. هذا يتحدى كذلك فكرة أن النظام السوري «يربح» الحرب في سوريا.
حتى لو تسلم النظام السوري في نهاية المطاف الشمال الغربي، فإن الإسقاطات المتوسطة الأجل للدولة السورية، هي أنها ستواجه ضغوطاً من الأسفل ومن الأعلى: من الجهات الفاعلة غير الحكومية الموالية للنظام التي أنشأتها بشكل مباشر وغير مباشر، ومن رعاتها الخارجيين.
«النصر» العسكري للنظام لن يستعيد سيادة الدولة في سوريا.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط