لوحت روسيا مؤخرًا بإنهاء عملياتها العسكرية في سوريا بعد استمرار دام أكثر من عامين، وسحب قواتها الميدانية مع الاحتفاظ بقواعدها العسكرية ومراكزها اللوجيستية. وأعلن رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما فلاديمير شامانوف أن القاعدتين العسكريتين الروسيتين في حميميم وطرطوس سوف تستمران في العمل بعد انتهاء العمليات العسكرية وستعمل روسيا على تطوير قدراتها وخصائصها. وقد توازى ذلك مع استمرار الجدل بين موسكو وواشنطن حول مبررات وشرعية البقاء في سوريا، وهو ما يرتبط أيضًا برؤية الطرفين لمسارات الصراع السوري وموقع الأطراف الإقليمية والدولية فيه.
أهداف عديدة:
وفقًا لما أعلنه الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في 6 ديسمبر الجارى، فإن العمليات العسكرية في مواجهة تنظيم "داعش" قد انتهت بالانتصار على التنظيم بعد هزيمة آخر تشكيلاته في سهيل الحسن بدير الزور. وقد أشار بوتين إلى أنه اعتمد في قراره على تقدير موقف قدمه وزير الدفاع سيرجى شويغو، يوضح أن العمليات الرئيسية الخاصة بالقضاء على "داعش" انتهت وأنه لم يعد متبقيًا له سوى بعض الجيوب داخل بعض المناطق.
ويتسق هذا الموقف مع التطورات الميدانية الأخيرة بعد انتهاء العمليات في كل من دير الزور والبوكمال، فى حين كانت هناك بعض الغارات المتقطعة تم الإعلان عنها رسميًا بالتزامن مع إعلان موسكو عن وجود جيب للتنظيم في محيط إدلب، وهو ما يشير إلى أن روسيا ستواصل دورها في إسناد النظام السوري جويًا للقضاء على تلك الجيوب.
ويبدو أن روسيا تسعى من خلال ذلك إلى تحقيق أهداف ثلاثة رئيسية: يتمثل أولها، في الاحتفاظ بقواعدها العسكرية الرئيسية في حميميم وطرطوس، إضافة الى بعض المواقع اللوجيستية مثل مركز المصالحة، وهو ما يعني أن روسيا تركز على البقاء الدائم في سوريا مستقبلاً وتطوير هذا الوجود في إطار مركزي.
وينصرف ثانيها، إلى تكريس دورها الرئيسي في هندسة العملية السياسية في سوريا، والبقاء كطرف أساسي في المشهد السوري مستقبلاً، حيث ارتبطت تلك التصريحات بدعوة بوتين إلى الانتقال للعملية السياسية تزامنًا مع إجراء الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف.
ويتعلق ثالثها، بدفع الولايات المتحدة إلى تحديد استراتيجية موازية، فرغم الانتقادات المستمرة التي توجهها روسيا للوجود العسكري الأمريكي في سوريا، إلا أنها ما زالت حريصة على مواصلة التنسيق الجوي بين الطرفين، حيث تم تجديد اتفاق بهذا الشأن كان قد سبق توقيعه في نهاية عام 2015، بهدف تجنب حوادث الطيران في الأجواء السورية.
ترسيم النفوذ:
يحكم إطار ترسيم النفوذ الأهداف العسكرية والسياسية لكل من روسيا والولايات المتحدة، وهو ما يبدو جليًا في خريطة تمركز القوات التابعة للدولتين في سوريا. إذ تحتفظ روسيا بقاعدتين عسكريتين أساسيتين هما قاعدة طرطوس البحرية التي تضم 1700 عسكري وسفينتى إمداد عسكري وصيانة، وقاعدة حميميم التي تضم 2000 عسكري و32 طائرة و16 مروحية ومنظومتى صواريخ أرض جو.
كما تنتشر الشرطة العسكرية الروسية في جميع المدن السورية بالتوازي مع الاتفاق على مناطق خفض التوتر الأربعة داخل سوريا. ومن المرجح أن تقوم روسيا بتخفيض هذه القوات ربما إلى النصف على النحو السابق في إبريل 2016 عندما أعلنت روسيا عن إمكانية سحب قواتها من سوريا، بهدف تقليل التكاليف، وعلى الأرجح ستحيل العمليات الميدانية في المواجهات التالية إلى قوات النظام السوري وحلفائه من الميليشيات الموالية لإيران.
لكن هناك تقارير محلية تشير إلى وجود 9 قواعد روسية، فبالإضافة إلى القاعدتين الرئيسيتين في طرطوس وحميميم، تكشف التقارير أن اللاذقية بها قاعدتين وليس قاعدة واحدة، إلى جانب 7 قواعد فرعية أخرى. لكن من المتصور أن هذه القواعد السبعة ليست قواعد روسية خاصة وإنما قواعد تابعة للنظام كانت تمثل قواعد مشتركة مع روسيا أيضًا بحسب العمليات الميدانية، وبالتالي من المرجح أن يكون تقليص الوجود الروسي في تلك القواعد.
كذلك من المتوقع أيضًا أن يشمل ذلك الانسحاب الخاص بقوات الشرطة العسكرية من بعض المناطق، مع إحلالها بقوات تابعة للنظام في إطار التحولات السياسية المرتقبة، وتزايد احتمال إرسال قوات من الدول الراعية لبعض مناطق خفض التوتر.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن هناك تقارير محلية تكشف أن هناك 16 قاعدة أمريكية في سوريا. وتشير تقديرات تقييم هذه القواعد إلى أن معظمها قواعد صغيرة ومشتركة مع دول أعضاء في التحالف خاصة بريطانيا وفرنسا، وهى قواعد متاخمة إما للحدود مع تركيا، وبشكل أكثر كثافة في المناطق الكردية، أو الحدود مع العراق.
ولا تتبنى الولايات المتحدة موقفًا مشابهًا لروسيا فيما يتعلق بانتهاء العمليات العسكرية، بل ترى أن تنظيم "داعش" لا يزال موجودًا في سوريا. ووفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية، فإن الولايات المتحدة ستبقى في سوريا "طالما هناك مبررات للبقاء" متجاوزة بذلك الانتقادات المستمرة من جانب روسيا التي تعتبر أن هذا الوجود العسكري غير قانوني، على نحو ما أكد وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف في أكثر من مناسبة.
وفي النهاية، ووفقًا لحسابات التمركز العسكري الروسي والأمريكي في سوريا، يمكن القول إن احتمال انسحاب روسيا من سوريا يبقى ضعيفًا، حيث أنها ستتجه على الأرجح إلى تخفيف وجودها وتركيزه في إطار ما يحقق رويتها الاستراتيجية لمستقبل سوريا على المستويين الأمني والسياسي، وهو ما يعني أن التصريحات الروسية الخاصة بالانسحاب من سوريا هى مجرد خطوة مرتبطة بالتطور الانتقالي من العمليات العسكرية الرئيسية إلى العملية السياسية التى تعمل روسيا بشكل أساسي على صياغتها، بشكل يشير إلى أن سوريا تبدو مقبلة على مرحلة جديدة سوف تشهد تقاسمًا في النفوذ بين روسيا التي تتطلع إلى تكريس دورها في العملية السياسية القادمة، والولايات المتحدة التي تبدو حريصة على الاحتفاظ بوجود في سوريا خلال الفترة القادمة.