ربما لم تكن تركيا تعتقد أن حليفها السابق مسعود برزاني سيذهب حتى النهاية في خيار إجراء الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان؛ إذ إنها كانت ترى أن الأمر مجرد مناورة سياسية من قبله لتحسين شروط التفاوض مع الحكومة العراقية بعد أن تراكمت الخلافات بين الأخيرة وأربيل على قضايا النفط والميزانية والمناطق المتنازع عليها، وغيرها من الخلافات التي جعلت من الانفصال حقيقة واقعة.
أَمَا وقد أُجري الاستفتاء الذي أظهرت نتائجه تأييد أغلبية الأكراد انفصال إقليم كردستان، فإن موقف أنقرة ينصب بقوة نحو منع إقامة دولة كردية مستقلة، على اعتبار أن الأمر يتعلق بجوهر الأمن القومي التركي. وعليه يمكن فهم التصعيدي التركي ضد خطوة الاستفتاء، والذي وصل إلى حد التحالف مع إيران وبغداد ضد استقلال الإقليم.
أسباب الرفض:
ينطلق الرفض التركي لإقامة دولة كردية من سببين رئيسيين. يتعلق أولهما بإدراك أنقرة أن إقامة دولة كردية مستقلة في العراق ستكون لها انعكاسات كبيرة على قضيتها الكردية في الداخل، حيث بها أكثر من عشرين مليون كردي محرومين دستوريًّا من هويتهم القومية ومن أي حكم محلي خاص بهم. كما أن السلطات التركية في حرب دموية معهم منذ نحو نصف قرن باسم مكافحة إرهاب حزب العمال الكردستاني.
وبحكم التطورات التي شهدتها تركيا وتلك التي تشهدها دول الجوار (سوريا والعراق)، باتت الأولى تجد نفسها أمام جغرافيا كردية خارج حدودها تُلقي بظلالها على أوضاعها الداخلية، الأمر الذي أضحى يُشكِّل تهديدًا مباشرًا لأمنها الوطني؛ وعليه تخشى من أن يؤدي الاستفتاء إلى تشكيل مرجعية لإعلان دولة كردية مستقلة عن العراق في المرحلة المقبلة، وسط اعتقاد بأن ذلك سيدفع أكراد تركيا إلى رفع سقف مطالبهم القومية، وربما المطالبة باستفتاء مماثل على طريق إقامة دولة كردية واحدة من شأنها تغيير الخرائط الجغرافية في المنطقة التي قسمتها اتفاقية سايكس - بيكو قبل قرن من الزمن.
ويتمثل السبب الثاني في الاعتقاد التركي بأن للولايات المتحدة الأمريكية دورًا في خطوة استفتاء إقليم كردستان رغم الرفض المعلن للإدارة الأمريكية لهذا الاستفتاء؛ حيث ترى أنه جاء في ظل توتر أمريكي – تركي على خلفية دعم واشنطن للأكراد في سوريا والعراق بالأسلحة، وكذلك في ظل توجه أنقرة إلى التحالف مع روسيا، وإعادة النظر في مجمل سياستها الإقليمية لصالح التقارب مع طهران وبغداد.
فقد جاءت خطوة الاستفتاء لتدفع بأنقرة إلى إحداث تغيير في سياستها السابقة تجاه الحكومة العراقية. فبعد أن كانت تصف تلك الحكومة بالطائفية، والتابعة لإيران، دخلت معها في تحالف ضد خطوة الاستفتاء الكردي. ويكشف هذا التغير عن قناعة تركيا بأن إقامة دولة كردية ستغير من واقع الاصطفافات الإقليمية في المنطقة، لا سيما في ظل الدعم الإسرائيلي الصريح لإقامتها؛ إذ من شأن دولة كردية متحالفة مع تل أبيب بناء واقع إقليمي جديد في المنطقة يغير من معادلة التنافس الإيراني - التركي على الدور والنفوذ في المنطقة، وخاصة في العراق وسوريا، ما سيؤثر في التحليل الأخير على الاستراتيجية التركية المستقبلية.
أوراق الضغط:
تمتلك تركيا العديد من أوراق الضغط التي قد تستخدمها ضد إقليم كردستان ما لم يتراجع عن خطوات الاستقلال، ومن أهمها ما يلي:
1- العلاقات الاقتصادية: تركيا ذات أهمية اقتصادية لإقليم كردستان بعد أن اتجه خلال السنوات الماضية إلى الارتباط بها اقتصاديًّا وتجاريًّا، لا سيما بعد تصدير النفط والغاز عبر الأراضي التركية. وتشير تقديرات إلى أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وإقليم كردستان بلغ قرابة خمسة مليارات دولار، وأن حجم الاستثمارات التركية في الإقليم تجاوزت أربعين مليار دولار.
فمنذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 انخرطت أنقرة بقوة في بناء علاقات اقتصادية وتجارية قوية مع الإقليم، إلى درجة أنه أصبح جسرًا للتجارة التركية إلى العراق ودول الخليج العربي بعدما انقطعت تجارتها عبر الأراضي السورية في أعقاب اندلاع الأزمة السورية. فضلًا عن أن نفط كردستان إلى العالم الخارجي يمر عبر الأراضي التركية.
وعليه يمكن القول إن ورقة العلاقات الاقتصادية وعلى الرغم من أهميتها للجانبين؛ إلا أنها تبقى ورقة قوية لممارسة المزيد من الضغط على الإقليم الذي يجد نفسه اليوم محاصرًا تمامًا في ظل الحديث عن إغلاق كلٍّ من تركيا وإيران المعابر الحدودية معه.
2- العلاقات السياسية: ارتبطت تركيا مع إقليم كردستان بعلاقات سياسية مميزة إلى درجة أن أنقرة كانت تستقبل برزاني بالسجاد الأحمر لأنها كانت تراهن عليه في إضعاف حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره منظمة إرهابية. لكن توجه أنقرة إلى التنسيق مع إيران، بعد أن كانت تقول إنها تهيمن على قرار العراق عبر سياستها الطائفية، يؤشر إلى سعيها لممارسة المزيد من الضغط السياسي على الإقليم.
ويكشف إبلاغ تركيا ممثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود برزاني بمغادرة أراضيها، ومن قبل ممثل الاتحاد الوطني الكردستاني، وكذلك تحديد حركة سفر الأشخاص من الإقليم إلى تركيا؛ عن خطوات مدروسة بدأت تتخذها الدولة للضغط السياسي على قيادة الإقليم.
3- الخيار العسكري: مع استبعاد بعض المحللين أن تلجأ تركيا إلى الخيار العسكري ضد كردستان، إلا أنه ينبغي عدم استبعاده، لا سيما في حال أعلنت قيادة الإقليم عن إقامة دولة مستقلة، إذ فوض برلمان الدولة الجيش بالقيام بمثل هذه الخطوات. وبالفعل دخلت أنقرة في مناورات عسكرية مشتركة مع العراق، بالتزامن مع مناورات عسكرية إيرانية على حدود كردستان وسط تهديدات من الطرفين بمعاقبة قيادة الإقليم.
ربما لتركيا هدف أهم من المناورات العسكرية المشتركة مع طهران والعراق يتمثل في محاولة القضاء على حزب العمال الكردستاني في معاقله بجبال قنديل وكذلك سنجار، إذ إنها ترى أن الفرصة متاحة في ظل التحالف مع طهران وبغداد ضد الصعود الكردي.
4- ورقة التركمان: تجاهلت تركيا خلال السنوات الماضية مع تحسن علاقاتها مع أربيل الحديث عن تركمان العراق، إلا أنها بدأت في استثمار تلك الورقة في ظل خلافها مع كردستان من خلال إظهار نفسها حامية لهم، والتهديد بأن أي خطوة ضدهم ستؤدي إلى تدخل أنقرة، خاصة في ظل أيديولوجيا اليمين التركي المتطرف الذي يعتبر "كركوك" أرضًا تركية تاريخيًّا، وأنها انسلخت عنها بموجب اتفاقية عام 1926 مع بريطانيا، وأن شأن كركوك اليوم ينبغي أن يكون مثل قبرص التركية التي غزتها تركيا عام 1974.
خياران تركيان:
إن ما يُقلق تركيا هو استقلال إقليم كردستان وليس الاستفتاء في حد ذاته؛ وعليه فإن موقفها سيعتمد على المسار الذي سيسلكه الإقليم في المرحلة المقبلة، إما الاستفادة من الاستفتاء كمرجعية لتحسين شروط التفاوض مع الحكومة العراقية على القضايا الخلافية، أو مرجعية لإعلان الاستقلال والانفصال عن بغداد. وبين المسارين فرق هائل واستراتيجي بالنسبة لأنقرة، وهي بذلك أمام خيارين رئيسيين، هما:
الخيار الأول: تبني سياسات للضغط على قيادات الإقليم لإجبارهم على التفاوض مع بغداد، والتراجع عن الاستقلال، وذلك من خلال اتخاذ مزيد من الخطوات ضد الإقليم وصولًا إلى الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي الشامل عليه، مع أقصى درجات التنسيق مع العراق وإيران. وهذا ما تفعله تركيا في الوقت الراهن، حيث ترى أنها خطوات مجدية في ظل الأزمة الاقتصادية التي يُعاني منها الإقليم، واعتماده عليها بشكل أساسي.
الخيار الثاني: التدخل العسكري، وهو خيار مطروح بقوة في ظل تصريحات الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" الذي بات يصف برزاني بالخائن، وتلويحه الدائم بالتدخل العسكري على غرار التدخل في شمال سوريا.
في ظل هذين الخيارين، يبقى عامل الوقت مهمًّا، إذ إن إقليم كردستان يراهن على هذا العامل لتغيير المواقف الإقليمية والدولية تدريجيًّا، وهو في تطلعه هذا يمزج بين استراتيجية التفاوض والصمود في مواجهة الضغوط مع أن تجربة دولة مهاباد الكردية عام 1946 التي كان والد مسعود برزاني شريكًا فيها تحمل بصمة عدم التأييد الدولي لتطلع الأكراد إلى إقامة دولة مستقلة.