تكشف زيارة عدد من المسئولين الإسرائيليين للولايات المتحدة (منتصف أغسطس 2017) وروسيا (23 أغسطس 2017)، ومناقشتهم مع مسئولي الدولتين تطورات الصراع السوري، والمخاوف من لبننة سوريا؛ عن مدى اهتمام تل أبيب بنتائج الصراع الذي تنظر إليه كنافذة للفرص التي تسعى من خلالها لتوطيد وتوسيع ملامح شكل وجودها في الإقليم، حيث تُعتبر إيران هي القوة المهدِّدة لأطماعها في تكريس هذا الوجود، وفي الوقت نفسه فرصة للتقارب مع دول الإقليم لمجابهتها.
لكن تطورات الصراع تؤكد تزايد التموضع الإيراني في سوريا، وتعاظم قدرات حليفها حزب الله على الساحتين السورية واللبنانية، الأمر الذي فرض معادلة جديدة لتوازن القوى ليست في صالح المصلحة والأمن الإسرائيلي، خاصة بعد عدم تلبية اتفاقيةِ خفض التصعيد في الجنوب السوري المطالبَ الإسرائيلية بتحجيم نفوذ إيران وإبعاد الميليشيات التابعة لها عن حدودها الشمالية.
أهداف استراتيجية:
يهدف الانخراط الإسرائيلي المباشر وغير المباشر في الصراع السوري إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي:
1- تقليص النفوذ الإيراني: ترى إسرائيل أن طهران، الداعمة والمؤيِّدة بقوة لنظام الرئيس بشار الأسد، التهديد الأكبر لها في منطقة الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي أكدته تصريحات المسئولين الإسرائيليين. فعلى سبيل المثال، ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" في 6 مارس 2017، أن 80% من المشكلات الأمنية التي تواجه دولته تنبع من إيران. كما أكد خلال لقائه الرئيسَ الروسي "فلاديمير بوتين"، في 23 أغسطس الماضي، استعدادَ تل أبيب للتحرك منفردةً لمنع طهران من إقامة وجود عسكري موسَّع في سوريا.
لهذا، ترى إسرائيل أن بقاء نظام بشار الأسد يعني تكريس الوجود الإيراني في سوريا وفي المنطقة. ويُشار في هذا الصدد إلى ما ذكره "مايكل أورين" (السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة) في مقابلة مع صحيفة "جيروسالم بوست"، في سبتمبر 2013، حيث قال: "الخطر الأعظم على إسرائيل هو القوس الاستراتيجي الممتد من طهران إلى دمشق إلى بيروت. ورأينا أن نظام الأسد هو حجر الزاوية في هذا القوس". وأضاف: "لقد أردنا دائمًا أن يذهب بشار الأسد ونفضل دائمًا الأشخاص الأشرار الذين لا تدعمهم إيران على الأشخاص الأشرار الذين تدعمهم إيران".
وفي منتصف مايو الماضي، دعا وزير الإسكان والبناء الإسرائيلي "يواف جالانت"، إلى اغتيال الرئيس السوري "بشار الأسد". مشيرًا إلى أن تل أبيب "عندما تنتهي من ذيل الأفعى يمكن أن تصل إلى رأسها في طهران، وأن تتعامل معه أيضًا".
وقد كشف عدد من المصادر الإسرائيلية عن رفض تل أبيب القاطع لمشاركة الميليشيات الشيعية أو أي قوات تابعة للنظام السوري في مراقبة تنفيذ نزع السلاح في المنطقة الجنوبية المتاخمة لحدودها.
2- وقف تسليح حزب الله: تهدف إسرائيل من الانخراط في الصراع السوري إلى منع الحزب الذي يُساند بشار الأسد منذ بداية الصراع بإرساله الآلاف من مقاتليه لدعمه، من الحصول على الأسلحة والخبرة الميدانية التي قد تُهدد الوجود الإسرائيلي مستقبلًا. ففي مارس الماضي، شنّت مقاتلات إسرائيلية غارةً على أهداف في سوريا منعت وصول ما وصفته بـ"أسلحة متقدمة" مرسلة إلى حزب الله اللبناني.
وفي أعقاب تلك الغارة، نقل موقع الإذاعة الإسرائيلية عن نتنياهو قوله: "إن سياسة إسرائيل الثابتة تقضي بعدم السماح بنقل أسلحة مُخِلّة بالتوازن إلى حزب الله اللبناني"، مضيفًا أنه عندما يتم رصد محاولات لنقل أسلحة متقدمة إلى الحزب الله فإن إسرائيل تعمل على منع ذلك.
3- الاعتراف الدولي بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل: تهدف تل أبيب إلى استغلال ضعف الدولة السورية إقليميًّا ودوليًّا في فرض متغيرات جديدة على هضبة الجولان المحتلة تُمهد لها الحصول على اعتراف أمريكي وروسي ودولي بقرارها عام 1981 بخضوع أراضيها لسيادتها. ويُذكر أن تل أبيب كانت قد قامت بخطوة جديدة من نوعها في 16 أبريل 2016، حيث عقدت لأول مرة منذ احتلالها الجولان اجتماع مجلس الوزراء الأسبوعي عليه. وفي تطور سياسي لاحق أعلنت إسرائيل في يوليو 2017 عزمها إجراء انتخابات المجالس المحلية في قرى الجولان السوري المحتل وفقًا للقانون الإسرائيلي في أكتوبر 2018.
سياسات إسرائيلية:
تنوعت أدوات السياسة الإسرائيلية في التعامل مع ملف الصراع السوري لتحقيق أهدافها من أدوات دبلوماسية، وسياسية، وإنسانية، وأخرى عسكرية. وفي هذا الإطار، نرصد عددًا من أبرز أوجه هذه السياسات على النحو التالي:
1- التنسيق مع روسيا: تَعتبر إسرائيل أن موسكو لاعب مسيطِر على متغيرات الصراع في سوريا مقارنةً بالسياسات الأمريكية غير المنتظمة. وترى أن علاقتها بروسيا ضرورية للحد من تهديد إيران وحزب الله لسيطرتها على مرتفعات الجولان. ويُشار في هذا الصدد إلى ما ذكره وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف"، في 17 يوليو 2017، خلال اجتماع منظمة الأمن الجماعي في مينسك، عن أن "مصالح إسرائيل الأمنية أُخذت بعين الاعتبار بالكامل" في الاتفاق حول تأسيس منطقة وقف التصعيد في جنوب غرب سوريا التي تضم محافظة درعا على الحدود مع الأردن، ومحافظة السويداء القريبة منها، ومحافظة القنيطرة المتاخمة لهضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل.
ويُذكر أن الولايات المتحدة والأردن وروسيا كانوا قد أعلنوا خلال قمة مجموعة العشرين في هامبورج، في 7 يوليو 2017، عن توقيع هذا الاتفاق الذي دخل حيز النفاذ في التاسع من الشهر ذاته.
وتعقد إسرائيل العديد من المقابلات والاجتماعات التنسيقية مع روسيا على كافة المستويات والأصعدة لتفادي أي سوء تفاهم، وتقليل خطر وقوع أي مواجهة جوية إلى أدنى حد. بيد أن مفهوم كلا الطرفين للتهديد الذي تمثله أطراف الصراع السوري مختلف؛ فبينما ترى إسرائيل أن إيران وحزب الله يُشكلان التهديد الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط؛ فإن روسيا تميل إلى النظر للتطرف والإرهاب بوصفه التهديد الأكبر؛ وبهذا المعنى فهي ترى أن إيران نظام أكثر عقلانية، في حين أن التنظيمات الإرهابية تنشر الفوضى والإرهاب الذي أثرت تداعياته على روسيا في القوقاز.
فعلى سبيل المثال، صرح السفير الروسي لدى إسرائيل "ألكسندر شين" قائلا: "الإسرائيليون يتقبلون الدور الروسي في سوريا، ويتفهمونه. التحفظ الوحيد لديهم هو أنهم يفضلون أن يكون هناك تعاون أمريكي روسي لا تعاون إيراني روسي لتخطي الأزمة السورية ومحاربة الإرهاب في الشرق الأوسط".
من ناحية أخرى، ذكر شين في لقاء تلفزيوني مع القناة التاسعة الإسرائيلية، أن روسيا لا تعتبر منظمة "حماس" أو "حزب الله" منظمات إرهابية وفقًا للقانون الروسي، وإنما منظمات راديكالية تحمل أحيانًا رؤى سياسية متطرفة.
ومن ثمّ تختلف رؤية كلا الطرفين لمصالحهما في سوريا؛ فبينما تسعى إسرائيل إلى إيقاف تصاعد نفوذ إيران في سوريا، تتعاون روسيا مع إيران في مواجهة الحركات المسلحة السنية التي تقاتل قوات نظام الأسد.
ويُشار في هذا الصدد إلى أنه بعد الضربة الجوية الإسرائيلية على سوريا في مارس 2017 استدعت روسيا السفير الإسرائيلي للتشاور، وبعد هجوم مطار دمشق في 27 إبريل الماضي أصدرت وزارة الخارجية الروسية بيانًا يحثّ إسرائيل على ممارسة ضبط النفس.
2- التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية: على عكس روسيا، تتفق إسرائيل مع الكثير من الرؤية الأمريكية للصراع في سوريا. وترى أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تُمثّل فرصة جديدة لإعادة تحسين العلاقات بين البلدين. ويُشار في هذا الصدد إلى تصريح ترامب خلال اجتماعه مع الرئيس الإسرائيلي "ريئوفين ريفلين" في 22 مايو الماضي بأن "الأهم هو أن تعلن الولايات المتحدة وإسرائيل بصوت واحد أنه يتعين عدم السماح لإيران على الإطلاق بامتلاك سلاح نووي، وأن عليها وقف تمويل وتدريب وتسليح الإرهابيين والميليشيات، وأن تتوقف عن ذلك على الفور".
وفي مستهل تولي إدارة ترامب هذا العام، أطلقت بارجتان أمريكيتان صواريخ كروز على قاعدة جوية تسيطر عليها قوات الرئيس بشار الأسد يوم 17 أبريل 2017 ردًّا على هجوم كيماوي اتهمت واشنطن فيه الحكومة السورية بالمسئولية عنه. كما شنت ضربة ثانية في 18 مايو 2017 على قوات موالية للرئيس بشار الأسد.
3- التنسيق مع الدول العربية المعارِضة لبقاء نظام الأسد: تُروِّج إسرائيل لأن مصلحتها تلتقي مع معظم الدول العربية التي تُعارض سياسات إيران في المنطقة. ويُشار في هذا الصدد إلى تصريح ترامب أثناء زيارته إسرائيل في 22 مايو 2017 بأن الشعور المشترك بالقلق من إيران يُقرِّب بين إسرائيل ودول عربية كثيرة. وتشارك إسرائيل في عمليات التنسيق التي تُجرَى في الأردن، ويتفق كلا البلدين على ضرورة العمل على إبعاد القوات الإيرانية والميليشيات الشيعية عن حدودهما.
4- تقديم الدعم والمساعدات الإنسانية: أعلنت إسرائيل عن إنشاء وحدة اتصال في مايو 2016 للتنسيق مع السوريين المقيمين في الأراضي الخاضعة لسيطرة المعارضة في جنوب سوريا لتقديم المساعدات الإنسانية والطبية للسكان في جنوب سوريا بمن فيهم المقاتلون المسلحون المحاربون لقوات الأسد والقوات الداعمة لها. وتضع إسرائيل هذه القرارات تحت مظلة سياسة الجوار الحسن Good Neighborhood Policy التي تهدف من خلالها إلى إقناع السكان السوريين في هذه المناطق بنبذ وجود القوات الإيرانية وقوات حزب الله.
من ناحيةٍ أخرى، أعلن "موتي كاهانا" (رجل الأعمال الإسرائيلي الأمريكي، ومؤسس منظمة "أماليا Amaliah" غير الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية) أن إسرائيل وافقت على السماح بتقديم المساعدات الطبية والتعليمية والأغذية، وأشار إلى بدء العمل في هذا الصدد، مع رفضه ذكر جماعات المعارضة التي تُنسّق معها المنظمة، مشيرًا إلى أن موظفي المنظمة لا يذهبون إلى سوريا، وأن قوات الدفاع الإسرائيلي تُسلِّم هذه المساعدات لذوي ثقة لديها. وتقدم إسرائيل المساعدة العسكرية واللوجستية والطبية للمجموعات المعارضة وللسكان في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة على طول الشريط الفاصل. وتؤكد إسرائيل أنها تهدف من وراء هذه المساعدات إلى تحسين صورتها.
5- الضربات العسكرية الجوية: شنت إسرائيل حوالي 20 غارة جوية على سوريا منذ عام 2013 تحت مزاعم مختلفة. وقد صرح نتنياهو في ديسمبر 2015: "نحن نقوم بعمليات في سوريا من وقت إلى آخر لمنع تحولها إلى جبهة أخرى ضدنا". كما ترد تل أبيب على أي اختراق طائش أو خاطئ على مناطق تواجدها؛ فرغم اعتراف الجيش الإسرائيلي بأن سقوط القذائف على إسرائيل من قبيل الخطأ، إلا أنه اعتبره أيضًا "خرقًا غير مقبول" للسيادة.
6- دعم تنظيمات مسلحة معارضة لنظام الأسد: يتهم نظام بشار الأسد إسرائيل بالتعاون مع التنظيمات الإرهابية من خلال تقديم السلاح وتسهيل الحركة للإرهابيين داخل الشريط المحتل. ووفقًا لصحيفة "وول ستريت" في 28 يونيو 2017 فإن الجيش الإسرائيلي يعقد اتصالات منتظمة مع الجماعات المسلحة المعارضة لنظام الأسد، ويقدم مساعدات مالية لقادة هذه الجماعات تساعد في دفع مرتبات المقاتلين وشراء الذخائر والأسلحة. وذكر "إهود يعاري" أحد كُتاب معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في 6 أكتوبر 2014 أن بعض تنظيمات المعارضة السورية على اتصال دائم مع القوات الإسرائيلية، وتعقد معها اجتماعات سرية في طبرية.
من ناحية أخرى، ذكر تقرير الأمين العام للأمم المتحدة في 8 يونيو 2017 أن قوة الأمم المتحدة لفض الاشتباك رصدت 16 حالة تفاعل بين جنود قوات الدفاع الإسرائيلية وأفراد مجهولي الهوية على الجانب السوري؛ بعضهم مسلحون وبعضهم غير مسلحين، وقد استقبلهم أفراد من الجيش الإسرائيلي وتحادثوا معهم.
سيناريوهات مستقبلية:
في ضوء ما سبق، يُمكن القول إن إسرائيل تتمتع بفرص عديدة في كافة الاحتمالات المستقبلية لمسار الصراع السوري المحتدم، وفي هذا الإطار نتناول أبرز هذه السيناريوهات:
1- سيناريو عدم الحسم: وهو مرتبط بإطالة أمد الصراع وعدم الحسم لصالح أحد أطرافه، مما يسمح لإسرائيل بتفادي ظهور قوة على الأرض تعلن حربًا عليها من أجل بناء شرعية جديدة، ويُمكِّن لإسرائيل -في ضوء هذا السيناريو- أن تتخذ خطوات متقدمة تجاه سيطرتها على الجولان وربما توسيع رقعة حدودها إلى خارجه.
2- سيناريو تفتت سوريا إلى دويلات: حيث ينتهي وجود الدولة السورية لصالح إعلان دويلات جديدة، أو إعلان نظام فيدرالي يعكس أطرافه التنافس الإقليمي والدولي في المنطقة. وفي هذه الحالة يمكن تطور احتمالين، أولهما هو سيطرة جماعات موالية لإسرائيل على أراضٍ تقع بقربها مما يسمح لها بعقد تفاهمات قد تصل إلى التنازل وديًّا عن الجولان. أما الثاني فهو سيطرة جماعات مسلحة غير موالية لإسرائيل على المناطق الحدودية المتاخمة لها؛ وهو ما يمكن أن يسمح لإسرائيل بمساحة أكبر من الحركة والمناورة، واتخاذ إجراءات عسكرية غير مسبوقة ضد هذه الجماعات في زخم الحرب على الإرهاب، على نحو يسمح لها بتعزيز فرصها في إخضاع الجولان لسيادتها على المدى الطويل.