تزايدت حالات واحتمالات الانتحار في الشرق الأوسط، خلال العامين الأخيرين، وفقًا لما تشير إليه دراسات وإحصاءات حديثة صادرة عن منظمة الصحة العالمية والمعاهد الدولية المتخصصة وبعض الهيئات المحلية الطبية في بعض دول الإقليم. ولم تكن هذه الحوادث على نمط واحد، بل ارتكبت بأشكال مختلفة ولأسباب متباينة، والتي يعد من أبرزها الميول المجتمعية للاقتداء بالنماذج الانتحارية، والتعقيدات الخاصة بالمراحل الانتقالية، والتأثيرات الحادة للصراعات الداخلية المسلحة، وعدم توافر المصحات العلاجية والنفسية، والتعرض لفضائع ممارسات التنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة، والمساومات المالية للعمالة الأجنبية في بعض دول الخليج.
العنف المستوطن:
طبقًا لدراسة حديثة أعدها علي مقداد مدير مبادرات الشرق الأوسط في معهد مقاييس الصحة والتقييم في جامعة واشنطن، ونشرت في مجلة "international journal of public health" في أغسطس الجاري "تحظى نسبة تزايد عمليات الانتحار وأعمال العنف بين الأشخاص في شرق المتوسط بفارق كبير عن نسبة تزايدها في باقي أنحاء العالم خلال ربع القرن الأخير بحيث أن العنف المستوطن والمستمر يخلق جيلاً ضائعًا من الأطفال والشباب". وهنا تجدر الإشارة إلى أن 600 مليون نسمة يعيشون في 22 دولة هى أفغانستان، باكستان، إيران، مصر، جيبوتي، العراق، الأردن، السعودية، البحرين، الكويت، الإمارات، عُمان، قطر، لبنان، ليبيا، تونس، المغرب، الأراضي الفلسطينية، اليمن، الصومال، السودان، سوريا.
كما رصد الباحثون في هذه الدراسة زيادة كبيرة في حالات الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية في منطقة شرق المتوسط بينها القلق والكآبة، والاضطرابات الثنائية، وانفصام الشخصية. "ففي عام 2015 بلغ عدد من انتحروا نحو 30 ألف شخص. كما لقى 35 ألف شخص حتفهم بسبب العنف بين الأشخاص، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 100% و152% على التوالي خلال السنوات الـ25 الماضية". وأضافت الدراسة: "في أنحاء أخرى من العالم وخلال الفترة نفسها ارتفع عدد الوفيات بسبب الانتحار بنسبة 19% والعنف بين الأشخاص بنسبة 12%".
ولعل هذه الإحصائية تختلف عما كشف عنه تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية لعام 2014 بعنوان "منع الانتحار.. ضرورة عالمية"، بأن عدد المنتحرين في كل عام بلغ 800 ألف شخص، وأن محاولات الانتحار تساوي عشرين ضعف ذلك العدد، في حين أن معدلات الانتحار في الشرق الأوسط تبدو أقل من الأقاليم الأخرى. وتعد دولة السودان أعلى الدول في نسب الانتحار (17,2 حالة بالنسبة لكل 100 ألف)، في حين تتذيل السعودية وسوريا القائمة في معدلات الانتحار.
وقد تعددت وسائل الانتحار بالنسبة للنساء في دول الشرق الأوسط ما بين تناول الحبوب ومبيدات الحشرات وقطع الشرايين وسكب البنزين على الأجساد والخنق في دورات المياه، في حين أن الوسيلة الأكثر انتشارًا لدى الرجال هى الشنق باستخدام الحبال والأقمشة وعبر مراوح السقف، فضلا عن الانتحار من على الجسور أو على الأسطح المرتفعة. وقد يتم استخدام الأسلحة النارية في الانتحار في بعض الأحيان. كما أن معدلات الانتحار مرتفعة نسبيًا بين فئات عمرية محددة في دول الإقليم خاصة بين الشباب من الرجال والنساء الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 29 عامًا، والرجال والنساء من عمر 60 عامًا فأعلى.
إشكالية الأرقام:
ليس هناك وسيلة تؤكد أو تنفي زيادة معدلات الانتحار في هذه الدولة أو تلك، سواء على مستوى الإقليم في العام الواحد أو من حيث الفترة الزمنية، لا سيما أنه لا توجد إحصاءات موثقة وبيانات دقيقة بشأن أعداد حوادث الانتحار في دول الإقليم، يمكن أن يعتمد عليها الباحثون، خاصة أن أهالي المنتحرين يرفضون الإعلان عن ذلك، ويتعاملون معها باعتبارها "فضيحة"، ويتم غالبًا اختلاق أسباب أخرى للوفاة حفاظًا على سمعة الشخص المنتحر وعائلته، وبالتالي لا يتم توثيق أغلب الحالات.
كما أن هناك حالات لا يمكن التحقق منها أو الوصول إليها، خاصة في الدول التي تشهد صراعات داخلية حادة، على غرار سوريا. وقد يحدث التباس ما بين الانتحار وغيره من الحوادث الأخرى. كما لا تشمل الإحصاءات المتداولة محاولات الانتحار الفاشلة أو التهديد بالانتحار أو الحالات التي لا يتم الإبلاغ عنها لمختلف الأسباب.
وبوجه عام، لا يوجد سبب واحد يمكن الارتكان إليه لتفسير تزايد حالات الانتحار في منطقة الشرق الأوسط، بل إن ثمة حزمة من العوامل، يتمثل أبرزها في:
تعاطف مجتمعي:
1- الميول المجتمعية للاقتداء بالنماذج الانتحارية: في بعض الأحيان قد يجد المنتحر دعمًا اجتماعيًا، ففي رؤية اتجاهات عديدة، تراجعت النظرة الدينية "غير الرسمية" التي تحرم هذا الفعل، وهو ما عبر عنه نموذج محمد البوعزيزي في تونس الذي تفجرت الثورة الشعبية بسبب إقدامه كبائع متجول على إحراق نفسه أمام محافظة سيدي بوزيد مع الأخذ في الاعتبار استمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد حتى الآن.
ففي عام 2015، انتحر في تونس 365 من 11 مليون نسمة أى ما يعادل 3,7 حالة انتحار لكل مائة ألف نسمة. وتتراوح أعمار نصف المنتحرين ما بين 30 و39 عامًا. وعلى الرغم من أن حالات الانتحار في تونس بعيدة عن النسب المرتفعة المسجلة في دول أخرى، إلا أن الظاهرة تواصل ارتفاعها لا سيما في حالة مقارنة بيانات مصلحة الطب الشرعي للفترة (1990-2000) بالفترة (2010-2016).
وفي هذا السياق شكلت وزارة الصحة التونسية لجنة لمكافحة الانتحار برئاسة فاطمة الشرفي في عام 2015. وتتمثل مهام اللجنة في وضع استراتيجية وقائية وسجل وطني يتضمن إحصاءات منع الانتحار، وذلك للمرة الأولى في تاريخ البلاد. فبعد الثورة، ارتفعت معدلات الانتحار حرقًا تحت تأثير البوعزيزي، سواء بشكل فردي أو جماعي، خاصة في صفوف خريجي الجامعات العاطلين عن العمل.
فقد حولت ثورة الياسمين المنتحر إلى "شخص أسطوري"، على نحو ما عبرت عنه وسائل الإعلام بوصفها لبوعزيزي بـ"الشهيد البطل" أو "الشهيد الرمز". ففي عام 2015 برز نمط الانتحار حرقًا بنسبة تتجاوز 15% من إجمالي حالات الانتحار، مقابل نحو 60% من الانتحار شنقًا و6,5% الانتحار بتناول الأدوية.
اضطرابات الانتقال:
2- التعقيدات الخاصة بالمراحل الانتقالية: والتي فرضت صعوبات اقتصادية واجتماعية على قطاعات ليست بالقليلة من الرأى العام في هذه الدولة أو تلك من الدول التي شهدت ثورات، على نحو ما شهدته تونس بعد عام 2011. فقد تنامت مؤشرات الإحباط الناتج عن الفشل في إنجاز مشروع حياتي، سواء تعلق بالعمل أو الزواج، وهو ما أسهم في تحول الضغوط إلى حالة من انفصام الذات المحبة للعيش والمقبلة عليه.
مضاعفات الصراعات:
3- التأثيرات الحادة للصراعات الداخلية المسلحة: وما نتج عنها من مضاعفات نتيجة الاقتتال المستمر في بؤر الصراعات مثل ليبيا وسوريا واليمن والعراق وأفغانستان، حيث يشير الباحثون إلى انتشار "اضطرابات الصحة العقلية والنفسية" في أوساط المدنيين وربما المقاتلين نتيجة التغيرات في المزاج العام، سرعان ما تتحول إلى اكتئاب. وتشير بيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2016 إلى أن عددًا كبيرًا من العراقيين ينتحرون لاعتبارات نفسية واقتصادية واجتماعية وخاصة بالنسبة لسكان الموصل أثناء معاناتهم لاستعادة المدينة من تنظيم "داعش".
وفي هذا السياق، قال جوناثان هنري منسق الطوارئ في منظمة أطباء بلا حدود في غرب الموصل في تصريحات صحفية في 6 يوليو 2017: "حقيقة هناك قدر هائل من المعاناة الإنسانية". وأضاف: "تعرض عدد كبير من السكان للصدمة من صراع وحشي للغاية ومروع". وكذلك الحال بالنسبة لانتحار اليمنيين من الرجال والنساء بعد تفاقم تأثيرات الأزمة الغذائية والصحية الناتجة عن سيطرة ميلشيا الحوثي على بعض مؤسسات الدولة وتوقف صرف الرواتب وحصار المدن العصية والاستيلاء على القوافل الإغاثية.
مصحات غائبة:
4- تدهور البنية التحتية الطبية: أى عدم توافر المصحات العلاجية والنفسية، وهو ما حدث في بؤر الصراعات العربية المسلحة، وخاصة في الحالة الليبية، إذ تشير بعض الكتابات إلى أن الشبكات الإجرامية العاملة في الحبوب المخدرة في البحر المتوسط استفادت من رخاوة أجهزة الدولة وباعت عدة أطنان للتجار الليبيين. غير أن نفاذها بشكل مفاجئ ترك عدة آلاف من الشباب المدنيين لمصير مأساوي، خاصة مع ضعف المصحات العلاجية في بلاد تعج بالفوضى منذ اندلاع أزمتها في عام 2011.
وقد برزت ظاهرة الانتحار وخاصة بين الأطفال القصر وفي أوساط الشباب في ليبيا لغياب مراكز العلاج من الإدمان. ففي دول مثل ليبيا والسودان واليمن، فإنه لكل 100 ألف شخص يوجد 0,5 طبيب نفسي، وفقًا لإحدى الإحصاءات المتداولة. وبالمقارنة فإن هذا العدد يرتفع في الدول الأوروبية إلى ما بين 9 و40 طبيب نفسي لكل 100 ألف مواطن.
فظائع الإرهاب:
5- التعرض لفضائع ممارسات التنظيمات الإرهابية: وربما الميلشيات المسلحة التي تعرض فتيات صغار ونساء للخطف والاحتجاز والاغتصاب في مقار لا تخضع لسلطة الدولة "الهشة"، وهو ما حدث في حالتى ليبيا والعراق. فقد خافت عدد من الفتيات الليبيات من تصويرهن في أوضاع مخلة بما يؤدي إلى المساس بشرف عائلاتهن، وفقًا لما ذكرته بعض وسائل الإعلام الليبية الإلكترونية، على نحو دفعهن إلى الانتحار. كما قالت هيئة إنقاذ الطفولة في تقرير حديث لها: "إن التنازل والعيش لسنوات تحت حكم الدولة الإسلامية ألحق أضرارًا نفسية هائلة بأطفال الموصل"، وهو ما قد يدفعهم إلى الانتحار بسبب فقد الأقارب أيضًا إما بسبب الموت أو النزوح أو الخطف.
تعويضات مالية:
6- المساومات المالية للعمالة الأجنبية: وهو ما يفسر ظاهرة "الانتحار العدمي" التي يلجأ إليها بعض الخدم من الجاليات الآسيوية في بعض دول الخليج، والتي أصبحت، في بعض الأحيان، ووفقًا لاتجاهات عديدة، بمثابة عملية تجارية، فإذا نجحت محاولة الانتحار التي يقدم عليها أحدهم يحصل أهله على الدية، وإذا لم تنجح يقدم طلبًا للحصول على تعويض بشأن الإصابات التي تعرض لها، وتحدث مساومات في هذا الشأن.
مسارات متوازية:
خلاصة القول، تتعدد أسباب الانتحار في دول الشرق الأوسط، وإن تزايدت في بؤر الصراعات، ولا شك أن تسويتها تساهم في الاستقرار السياسي والمجتمعي بما يخفف من الضغط النفسي الملقى على عاتق المواطنين أو المهاجرين أو النازحين، على نحو يفرض بلورة برنامج وطني للصحة النفسية تابع لوزارة الصحة داخل كل دولة. فضلا عن التشبيك في الأدوار مع المؤسسات الصحية الدولية، حيث يعتبر الانتحار من الأمراض التي تحظى بالأولوية في برنامج منظمة الصحة العالمية للارتقاء بالصحة النفسية خلال الفترة (2013-2020) بهدف خفض معدل الانتحار بنسبة 10% بحلول عام 2020، إلى جانب التعويل على الجهود المتصاعدة التي تبذلها الجمعية الدولية لمكافحة الانتحار لتقليل حدوثه.