نجحت جهود المجتمع الدولي خلال الفترة الأخيرة في تقليص مصادر تمويل كثير من التنظيمات الإرهابية بمنطقة الشرق الأوسط. ويمثل تنظيم "داعش" أحد النماذج الدالة على ذلك، حيث أدت العمليات العسكرية التي شنتها قوات التحالف الدولي، منذ سبتمبر 2014، إلى تراجع مصادر تمويل التنظيم من النفط والتجارة غير المشروعة، لتتسبب في خسائر مالية كبيرة للأخير.
وبالمثل أيضًا، فرضت السلطات الأمريكية كثيرًا من القيود على بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى مثل "حزب الله" بموجب القانون الأمريكي المعروف بـ"حظر التمويل الدولي عن حزب الله". لكن بالرغم من ذلك، يبدو أن الخطورة الأكبر خلال الفترة المقبلة تكمن في تجفيف تمويل الخلايا الإرهابية الصغيرة أو الإرهابيين الأفراد أو ما يعرف بـ"الذئاب المنفردة" في المنطقة، الذين هم في العادة ليسوا بحاجة لأموال كبيرة لتمويل أنشطتهم، حيث يعتمدون في توفير الأموال على التمويل الشخصي أو التحويلات المالية التي لن تثير شبهات البنوك المحلية أو العالمية، وهو النموذج الذي كشفته كثير من الحوادث الإهاربية التي وقعت في أوروبا خلال آخر عامين.
وفي ظل النموذج المالي السابق، قد تواجه السلطات المحلية ببعض دول المنطقة صعوبات في الكشف عن مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية، وهو ما يتطلب رفع مستوى التعاون الأمني والمالي فيما بينها لتتمكن من تجفيف شبكات التمويل الإرهابية.
تجفيف التمويل:
استطاع تنظيم "داعش" عبر السنوات الماضية التي سيطر فيها على مناطق واسعة في كل من العراق وسوريا تبني نموذج مالي متين يعتمد على إيرادات وفيرة من بيع النفط والضرائب والتجارة غير المشروعة، حيث تجاوزت إيراداته المالية، حسب بعض التقديرات، نحو 2.4 مليار دولار في عام 2015.
إلا أن قوات التحالف الدولي التي قامت بشن هجماتها العسكرية ضد التنظيم بداية من سبتمبر 2014، نجحت في تقليص مصادر التنظيم من النفط، حيث استهدفت عسكريًا كثيرًا من المنشآت النفطية التي سيطر عليها ومستودعاته المالية بالمدن العراقية. وبتحرير مدينة الموصل في يوليو الجاري، فقد التنظيم كل أراضيه في العراق ليخسر بذلك أهم مصادر تمويله من النفط والضرائب.
وبدرجة مؤثرة أيضًا، وبموجب القانون الأمريكي رقم 2297 والمعروف بـ"حظر التمويل الدولي عن حزب الله"، نجحت السلطات الأمريكية في فرض كثير من القيود على تعاملات التنظيم داخل لبنان وخارجها. فبمقتضى القانون، لن يكون بإمكان الأشخاص أو الكيانات التابعة للتنظيم التعامل مجددًا مع البنوك اللبنانية أو البنوك العالمية وذلك بالتزامن مع فرض عقوبات على من ينتهك القانون. بالإضافة إلى السابق، فقد تمكن المجتمع الدولي بالتعاون مع السلطات الأمريكية من تجفيف بعض مصادر التنظيم من التجارة غير الشرعية من المخدرات وغيرها.
أنماط جديدة:
وعلى النقيض من التنظيمات الإرهابية الكبيرة، ربما لا تجد الخلايا الإرهابية الصغيرة أو الإرهابيين الأفراد أو ما يعرف بـ"الذئاب المنفردة" صعوبة في توفير احتياجاتها المالية، خاصة أنها في العادة لديها متطلبات تمويل صغيرة للغاية، لأنها لا تسيطر على أراضٍ كما أنها لا تقوم بعمليات تجنيد أو دعايا ولا تسعى إلى تقديم خدمات اجتماعية، بل كل ما تتطلبه في العادة توفير آليات الهجوم وبعض الخدمات اللوجستية المحدودة.
وفي أوروبا، على سبيل المثال، كشفت دراسة صادرة عام 2015 عن مركز أبحاث الدفاع النرويجي أنه من بين 40 هجمة إرهابية تعرضت لها أوروبا خلال الفترة بين عام 1994 وعام 2013 كان 75% منها بتكلفة أقل من 100 ألف دولار، وهى تكلفة مرتبطة بالحصول على بندقية هجومية أو متفجرات أو تدريب، وما إلى ذلك من متطلبات قد تكون في واقع الأمر منخفضة التكلفة.
وفي العادة، فإن هؤلاء الإرهابيين الأفراد أو الخلايا الإرهابية الصغيرة تعتمد إما على أساليب تحويل الأموال من الخارج مع تجنب التعرض لعمليات مراقبة من النظام المالي الدولي أو الأموال الشخصية، والتي تعد مصدرًا هامًا آخر لـ"الذئاب المنفردة" في أوروبا. وقد بدأت اتجاهات عديدة في التحذير من احتمال أن تشجع الدعوات التي أطلقها "داعش" في السنوات الماضية لتنفيذ عمليات إرهابية بالاعتماد على تكتيكات هجومية غير مكلفة مثل القتل بالسكين أو الدهس باستخدام السيارات بعض العناصر على تبني هذا النموذج المالي.
وفي هذا السياق، شهدت أوروبا على مدى السنوات الماضية بعض الحوادث الإرهابية التي استخدم فيها مرتكبوها أدوات مثل السكين والفأس أو استقلوا سيارات لدهس الأفراد، على غرار عملية الدهس التي وقعت على جسر ويستمنستر في لندن في 22 مارس 2017.
وقد حذرت وزارة الخارجية الأمريكية، في بداية مايو 2017، المواطنين الأمريكيين من استمرار تهديدات التنظيمات الإرهابية في أوروبا، حيث أشارت إلى أن العمليات الإرهابية التي وقعت في فرنسا والسويد وبريطانيا تظهر أن لدى التنظيمات الإرهابية، خاصة تنظيم "داعش"، القدرة على تخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية داخل بعض الدول الأوروبية.
ومن دون شك، تواجه بعض دول المنطقة المخاطر ذاتها. إذ ربما تؤدي هزيمة "داعش" في الموصل وتراجع سيطرته على بعض المناطق في سوريا إلى تحفيز بعض العناصر الإرهابية على ارتكاب عمليات إرهابية جديدة اعتمادًا على أموالهم الذاتية بشكل قد يزيد من الصعوبات التي تواجه السلطات المحلية في بعض دول المنطقة التي تسعى إلى بذل مزيد من الجهود لمكافحة شبكات التمويل الإرهابية، خاصة أن بعض هذه العناصر غير معروف بعد بالنسبة لأجهزة الأمن، فضلا عن أن المبالغ المالية التي يحصلون عليها عبر التحويلات المالية أو النظام المالي العالمي قد لا تثير الشبهات نظرًا لصغر حجمها.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول في النهاية إن تتبع مصادر تمويل الخلايا الإرهابية أو "الذئاب المنفردة" يتطلب نهجًا استباقيًا ينطلق من أساس أمني واستخباراتي يشمل رصد المتعاطفين مع التنظيمات الإرهابية وتتبعهم، إلى جانب تعزيز التعاون حول تبادل المعلومات المالية فيما بين دول الإقليم وتشديد الرقابة على التحويلات المالية الإقليمية.