بدأ المحافظون الأصوليون في تصعيد حملة انتقاداتهم ضد حكومة الرئيس حسن روحاني، خاصة بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية من جولتها الأولى التي أجريت في 19 مايو 2017، حيث ركزوا في هذا السياق على متغيرات عديدة، يتمثل أبرزها في ضعف نتائج السياسات التي تبنتها الحكومة على المستويين السياسي والاقتصادي، ومحدودية سلطات الرئيس في بعض الملفات الداخلية والخارجية، واستقلالية المؤسسات الأخرى عنه على غرار المؤسسة العسكرية.
ومن هنا، بدا جليًا أن الأصوليين يسعون إلى فرض خيارات محدودة أمام الرئيس حسن روحاني من أجل تقليص قدرته على فتح الملفات الخلافية خلال فترته الرئاسية الثانية، التي سوف تبدأ في أغسطس القادم. ومع ذلك، فإن هذه الجهود في مجملها ربما لا تحقق في النهاية نتائج بارزة، لأسباب متعددة، ينصرف أهمها إلى الضعف الشديد الذي يعاني منه تيار المحافظين الأصوليين في الفترة الحالية، والانقسامات الحادة التي يتوقع اتساع نطاقها خلال الفترة القادمة، خاصة في ظل الصراع على قيادة التيار في مرحلة ما بعد الهزيمة في الانتخابات الرئاسية.
حملة متواصلة:
كان لافتًا أن بعض أقطاب تيار المحافظين الأصوليين سعوا خلال الفترة الأخيرة إلى شن هجمات حادة ضد الرئيس حسن روحاني. فبعد فترة هدوء نسبي نتيجة الانشغال في متابعة التطورات الإقليمية الخاصة بتأسيس الممر الاستراتيجي بين إيران والعراق وسوريا وإدارة التنسيق مع الميليشيات الطائفية الموالية لإيران في الدولتين الأخريين، صعد قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني من حدة انتقاداته للرئيس روحاني، على خلفية الدعوات التي وجهها الأخير لتقليص النفوذ الاقتصادي للحرس.
إذ استخدم سليماني في هذا السياق النشاط الذي يقوم به "الباسدران" على الساحة الخارجية لتوجيه رسائل داخلية، خاصة إلى رئيس الجمهورية، مفادها أن الحرس هو المحور الأساسي الذي عولت عليه إيران في دعم دورها الإقليمي وتعزيز حضورها في الأزمات الإقليمية المختلفة، على غرار الأزمتين العراقية والسورية، حيث قال خلال مؤتمر عسكري عقد في مدينة كرمان في 4 يوليو 2017، أنه "لولا الحرس لما بقيت إيران"، مضيفًا أن "نثر بذور التشكيك حيال الأركان الأساسية في النظام خيانة عظمى".
هذه التصريحات تطرح دلالة مهمة تتمثل في أن الحرس ربما يسعى في المرحلة الحالية إلى استحصال مكاسب سياسية واقتصادية جديدة جراء الجهود التي يبذلها على الساحة الخارجية، خاصة أنه يحاول تصوير نفسه على أنه الجهة التي استطاعت حماية إيران، في ظل المزاعم التي يروجها وتتأسس على أن انخراطه في أدوار خارجية كان الهدف منها هو مواجهة الخصوم في أراضي دول الجوار قبل وصولهم إلى إيران، وهى مزاعم لا تستقيم مع المعطيات الموجودة على الأرض التي تشير إلى أن إيران سعت إلى الوصول لتفاهمات وعلاقات قوية مع معظم هؤلاء "الخصوم المفترضين"، على غرار التنظيمات الإرهابية التي تتواجد بالقرب من حدودها.
المرشد المحتمل:
بالتوازي مع هجوم "الباسدران" ضد روحاني، كان لافتًا أن رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني، الذي تشير تقارير عديدة إلى أنه أحد المرشحين المحتملين لخلافة المرشد الأعلى للجمهورية على خامنئي في منصبه، حرص على تقليص أهمية ودور موقع رئيس الجمهورية داخل مؤسسات صنع القرار في النظام الإيراني، حيث رفض لاريجاني، وهو شقيق رئيس مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) علي لاريجاني، في 29 مايو 2017، أى دور للرئيس في رفع الإقامة الجبرية عن قادة ما يسمى بـ"الحركة الخضراء" مير حسين موسوي ومهدي كروبي، معتبرًا أن القضاء هو الجهة الوحيدة التي تمتلك صلاحية إدارة هذا الملف.
واللافت في هذا السياق، هو أن "الدور الجديد" الذي بدأ يضطلع به صادق لاريجاني بدأ يحظى بدعم خاص من جانب المرشد، الذي دعا، خلال استقباله كبار مسئولي السلطة القضائية في 3 يوليو 2017، إلى توسيع نطاق المهام التي يقوم بها القضاء، لتشمل متابعة بعض القضايا الدولية على غرار العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، والدعاوي القضائية التي تستند إليها بعض القوى الدولية لاستخدام الأرصدة المالية الإيرانية المجمدة في الخارج من أجل دفع تعويضات خاصة بها، فضلا عن الاهتمام بما يمكن تسميته بـ"القضايا الطائفية" على غرار قضية زعيم "الحركة الإسلامية الشيعية في نيجيريا" إبراهيم الزكزاكي الذي لم يخف من قبل اهتمامه بتطبيق النموذج الإيراني في نيجيريا.
ملء الفراغ:
وهنا، ربما يمكن تفسير تصاعد الجهود المبذولة لدعم دور صادق لاريجاني في ضوء محاولة النظام تعزيز نفوذ خصوم الرئيس روحاني في السلطة، من أجل فرض مزيد من الضغوط على الأخير وتضييق هامش الخيارات المتاح أمامه في فترته الرئاسية الثانية التي سوف تبدأ الشهر المقبل.
لكن قد يكون الهدف الأهم هو محاولة البحث عن قائد جديد لتيار المحافظين الأصوليين، في ظل "الفراغ القيادي" الذي يعاني منه خلال الفترة الحالية والانقسام الواضح الذي يشهده في مرحلة ما بعد الهزيمة المدوية التي منى بها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث بدا جليًا أن ثمة اتجاهات عديدة داخل التيار تسعى إلى توسيع نطاق نفوذها وقيادة التيار خلال الفترة القادمة.
ففي هذا السياق، بدأ أمين المجلس الأعلى للأمن القومي السابق وممثل المرشد في المجلس سعيد جليلي في محاولة استقطاب أقطاب وكوادر من داخل التيار لتعزيز فرصه في تولي قيادته، حيث كان لافتًا في هذا السياق أنه حرص على شن حملة قوية ضد الرئيس روحاني، خاصة فيما يتعلق بإدارة مفاوضات الاتفاق النووي مع القوى الدولية. وقد دعا في مرحلة ما بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى تشكيل "حكومة ظل" في إيران، في إشارة إلى أنه يسعى إلى قيادة التيار المناهض للحكومة خلال الأعوام الأربعة القادمة.
وفي مقابل ذلك، لا يبدو أن المرشح الرئاسي الخاسر في الانتخابات إبراهيم رئيسي يتجه إلى الانزواء عن المشهد السياسي بعد هزيمته القوية من الجولة الأولى، إذ قد يسعى إلى استثمار حصوله على نحو 15.8 مليون صوتًا ليس من أجل الحفاظ على موقعه داخل تيار الأصوليين، وإنما بهدف قيادته في المستقبل، في مواجهة تيار المعتدلين، بشكل قد يعزز من احتمال وصوله إلى رئاسة أى من المؤسسات الرئيسية في النظام، وقد يدعم من قدرته على استقطاب دعم أكبر من جانب الأصوليين في الانتخابات الرئاسية القادمة، رغم أن إيران لم تعتد على احتمال نجاح مرشح خاسر في الانتخابات الرئاسية في مرحلة تالية.
تعزيز الانقسام:
وهنا، ربما يتجه روحاني إلى محاولة تعزيز الانقسام داخل تيار الأصوليين خلال المرحلة القادمة، التي سوف تشهد إجراء الانتخابات البرلمانية في عام 2020، حيث يسعى روحاني إلى تكريس سيطرة تيار المعتدلين على البرلمان وتعزيز فرص أحد أقطابه في الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة في عام 2021 والفوز بها، لا سيما أن روحاني لن يتمكن من الترشح في تلك الانتخابات.
ولذا، فإن روحاني سوف يسعى، على الأرجح، إلى الوصول لتفاهمات سياسية مع عدد من كوادر الأصوليين من أجل وضع عقبات عديدة أمام قدرة التيار الأخير على توحيد صفوفه في مواجهته، وهو ما يبدو جليًا في إصراره على تأسيس علاقات قوية مع بعض الكوادر الرئيسية للتيار في مجلس الشورى، على غرار رئيسه علي لاريجاني ونائبه على مطهري. كما أنه قد يتجه إلى محاولة "تحييد" بعض القيادات الأخرى أو على الأقل تجنب الدخول في صراع مفتوح معها، مثل صادق لاريجاني.
وفي النهاية، ربما لا يمكن استبعاد أن يتفتت تيار المحافظين الأصوليين إلى أكثر من جناح سياسي، على غرار ما حدث قبل وصول الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد إلى السلطة في عام 2005، لتشهد إيران خريطة جديدة لتوازنات القوى، سوف تحدد، بدرجة كبيرة، مدى قدرة تيار المعتدلين على الاستمرار في السلطة واستثمار هذا الصراع الأصولي لصالحه خلال المرحلة القادمة.