إعداد: نانسي طلال زيدان
واجهت اقتصادات الدول الكبرى بعض الصعوبات خلال عام 2015، مما أثَّر على استقرارها الداخلي، حيث سجلت الصين أضعف نمو لها منذ الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009، وتضرر الاقتصاد الروسي جراء العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب دورها في الأزمة الأوكرانية، إضافة إلى هبوط أسعار النفط بشكل كبير.
وفي هذا الإطار، يأتي التقرير الصادر عن المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس"، تحت عنوان: "الحوكمة الاقتصادية العالمية: الفرصة الأخيرة لمجموعة العشرين؟ وهو التقرير الذي أعدته "باولا سوباتشي" Paola Subacchi - مدير إدارة الاقتصاد الدولي في معهد تشاتام هاوس، و"ستفين بيكفورد" Stephen Pickford – باحث بارز في معهد تشاتام هاوس. وقد تناول الكاتبان قضية حوكمة الاقتصاد الدولي، ومدى تأثير الدول الكبرى والأسواق الصاعدة على عمل المؤسسات الدولية، وصولاً إلى وضع استراتيجية لتطوير حوكمة الاقتصاد العالمي.
وبدايةً، استعرض التقرير مراحل تطور الاقتصاد العالمي، مُوضحاً أنه تطور بدرجة هائلة على مدار العشرين عاماً الماضية؛ فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ظل الاقتصاد العالمي خاضعاً لسيطرة الولايات المتحدة والدول الصناعية السبع الكبرى لعقود من الزمن. ومع أواخر تسعينيات القرن الماضي، كانت ثمة نقلة نوعية بظهور القوى الصاعدة، مثل الصين والهند لتشغل حيزاً يُعتد به في الاقتصاد العالمي. ووفقاً لتقديرات عام 2015، انخفض معدل تحكم الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى في الاقتصاد العالمي ليصل إلى 31.6%، فيما ارتفعت نسبة كل من الهند والصين إلى 24.3%.
تغيرات ما بعد الأزمة المالية العالمية
أشار التقرير إلى ما أحدثه انهيار "ليمان براذرز" في سبتمبر 2008، من اضطراب مالي في الولايات المتحدة، وانتقل بحكم سياسة العدوى المالية إلى بنوك أوروبا ومناطق أخرى حول العالم. وقد كان تعامل الحكومات مع الأزمة في جميع أنحاء العالم غير متناسق، حيث خفضت الدول السبع الصناعة الكبرى أسعار الفائدة إلى الصفر تقريباً، وأتبعت ذلك بإدخال سياسات نقدية مختلقة، مثل الدفع بتحفيز مالي أو تعزيز الإنفاق على البنية الأساسية. ولكن مع انتشار الأزمة المصرفية حول العالم، تعثرت الاقتصادات المتقدمة الرئيسية، بالإضافة إلى الاقتصادات متوسطة الحجم، بما يمثل حوالي 85% من إجمالي الناتج الإجمالي العالمي.
وكشفت هذه الأزمة الاقتصادية عن سرعة تأثر الاقتصاد العالمي بالصدمات المالية من خلال الترابط بين النظم المصرفية وأسواق رأس المال. ومع تأثير الصين والأسواق الناشئة الكبرى في النظام المالي الدولي، أصبحت إدارة الاقتصاد العالمي ليست قاصرة على الاقتصادات المتقدمة فقط، بل بات من حق الأسواق الناشئة والبلدان النامية أيضاً الضلوع في عملية صنع القرارات.
تكثيف الجهد الدولي والنهوض بالاقتصاد العالمي
مثلت قمة لندن في عام 2009 ذروة نشاط مجموعة العشرين، حيث تم الاتفاق على عدة إجراءات لاحتواء الأزمة المالية، وتم تكريس الجهود الدولية وتوفير موارد مالية لدعم صندوق النقد الدولي ومصارف التنمية لضمان استقرار السوق والتخفيف من الركود العالمي. كما تعهدت مجموعة العشرين بالدفاع عن نظام تجاري دولي، واشتراك عدة مؤسسات في إصلاح إدارة الشؤون الاقتصادية الدولية، واستيعاب مشكلة حروب العملة التي تؤثر على وضعية الأسواق الناشئة.
وتم تحديد نظام الحصص المنتظمة (الكوتا) للأصوات والمقاعد داخل المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى تعيين موظفين من الأسواق الناشئة، بحيث يكون اختيار رئيس الصندوق وإدارة البنك الدولي بشكل أكثر انفتاحاً. وبحلول نهاية عام 2010 اعتمد صندوق النقد الدولي رسمياً المقترحات الإصلاحية لمجموعة العشرين، والتي عند تنفيذها من شأنها أن تجعل الصين، ثالث أكبر مساهم في صندوق النقد الدولي، مع البرازيل والهند وروسيا من ضمن الدول العشر الكبرى في الصندوق.
لكن ظل الاختلال مستمراً ولم تكتمل الإصلاحات المنشودة في المؤسسات الاقتصادية الدولية، حيث استمرت سيطرة الدول المتقدمة عليها. وأشار التقرير إلى أن مؤسسات بريتون وودز مازالت مستمرة في اتباع قواعد وشروط متماشية مع النفوذ الجيوبولتيكي والاقتصادي الأمريكي.
وكان قادة مجموعة العشرين قد أكدوا في قمة بريسبان باستراليا في عام 2014 أنهم في غاية القلق إزاء تأخر تنفيذ إجراءات الإصلاح المتكاملة في المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. وعلى الرغم من محاولتهم تطوير أسلوب عمل هذه المؤسسات، فإن مشكلتها الحقيقية تكمن في اختلاف تصورات دول مجموعة العشرين بشكل جذري عما هو متبع في المؤسسات المالية الدولية.
الأسواق الناشئة.. المزيد من الإصلاحات
أكد التقرير أن الصين باعتبارها أكبر القوى الصاعدة ذات النفوذ في الأسواق الناشئة، ونظراً لتأثير دورها المتزايد في الاقتصاد العالمي، كانت لها مبادرة فعَّالة في رفض الهيمنة الأمريكية على المؤسسات الاقتصادية الدولية، ولذا دعمت بكين التوجة نحو إصلاح هذه المؤسسات الدولية، والدفع بالتعددية النقدية وتغيير الوضع غير المقبول لتصدر الدولار الأمريكي.
ونظراً لعدم نجاح صندوق النقد الدولي في تحقيق الإصلاحات المطلوبة للنهوض بالمعاملات المالية الدولية، فأعلنت دول مجموعة "البريكس" (تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) عن إنشاء ما يسمى "بنك بريكس" بتمويل يبلغ 100 مليار دولار، كما اشتركت الصين مع بعض الدول المتقدمة مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأستراليا في إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (إيه. آي. آي. بي) AIIB.
ويذكر التقرير أنه على الرغم من الحاجة إلى مثل هذه البنوك الجديدة لسد الفجوة التمويلية للبنى التحتية في الدول النامية، فإنها كانت بمثابة توجه نحو تعزيز نفوذ الدول الناشئة في إدارة شؤون الاقتصاد العالمي، ومدى نفوذ الصين في آسيا، والترويج لعملتها "الرنمينبي" renminbi في التجارة الإقليمية، خاصةً أنه ظهر خلال السنوات الأخيرة اتجاه قوي لتطوير عولمة العملة الصينية (الرنمينبي).
ومن جهتها، لم يكن ثمة ارتياح لدى الولايات المتحدة إزاء محاولات الأسواق الناشئة القيام بدور أكثر أهمية في الشؤون الاقتصادية والنقدية الدولية. وشعرت واشنطن بالقلق إزاء التحركات الصينية بصفة خاصة، في ضوء ما تحمله من تبعات جيواستراتيجية على الوجود الأمريكي في آسيا ومناطق أخرى. وباتت هذه المخاوف الأمريكية واضحة في عام 2015 عندما لم تستطع إدارة "أوباما" إخفاء قلقها، وقيامها بتوبيخ المملكة المتحدة علناً لمشاركتها الصين في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
استراتيجية لتطوير حوكمة الاقتصاد الدولي
ثمة إجراءات عديدة يتعين اتخاذها على جميع المستويات - من قِبل الدول فُرادى أو مجموعة العشرين بشكل جماعي ومؤسسي أو غيرها - من أجل تطوير حوكمة الاقتصاد الدولي، ويوضح التقرير هذه الإجراءات والخطوات المطلوبة كالتالي:
1- بالنسبة للولايات المتحدة: يتعين عليها أن تظهر قيادة حقيقية؛ بمعنى أنه إذا واصل الكونجرس الأمريكي نظريته للمصالح الأمريكية الضيقة وقصيرة الأجل، ورفض التصديق على الإصلاحات المتفق عليها دولياً بخصوص نظام الحصص في صندوق النقد الدولي، ففي هذه الحالة يجب على إدارة الرئيس "أوباما" أن تتصرف كالآتي:
أ- أن تواصل التعبير عن دعمها للإصلاحات في صندوق النقد الدولي، مع البدء في تنفيذ الإصلاحات التي لا تتطلب موافقة الكونجرس، مثل تعديل الإجراءات الضمنية الحالية التي تجعل الأوروبيين يعينون مدير عام صندوق النقد الدولي، فيما يختار الأمريكيون رئيس البنك الدولي، مع ضرورة إحداث تنوع في تعيين الموظفين في المؤسسات الدولية.
ب- أن تُظهر الإدارة الأمريكية الدعم للبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية AIIB، وغيره من المبادرات التي أعلنتها الأسواق الناشئة بخصوص تأسيس مؤسسات جديدة. فهذا من شأنه أن يشير إلى أن الولايات المتحدة لا ترى مثل هذه المؤسسات بديل أو تهديد للمنظمات الدولية القائمة.
2- دور الدول السبع الكبرى G7: يتعين أن تكون مستعدة لدعم مبادرات الأسواق الناشئة، وذلك من خلال:
أ- أن تصبح دولة مثل اليابان عضواً في بنك AIIB، حتى في حالة معارضة الولايات المتحدة لهذه الخطوة.
ب- أن تدعم الدول السبع الكبرى الإدارة الأمريكية في الضغط على الكونجرس للتصديق على إصلاحات حوكمة المؤسسات الدولية.
3- بالنسبة لمجموعة بريكس: ينبغي أن تعترف بريكس بمجموعة العشرين كجزء مهم في النظام الدولي، ويكون ذلك عن طريق الآتي:
أ- أن تعمل مجموعة بريكس على جعل G20 أكثر فعالية، ولا تجعل ذلك مرتبطاً بمواقف مجموعة العشرين من الإصلاحات في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ب- أن تؤكد بريكس ترحيبها بانضمام الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة إلى عضوية بنك AIIB وغيره المؤسسات التي تقودها بريكس.
4- دور الصين: فلدى بكين مسؤولية خاصة لتفعيل دور مجموعة العشرين، خاصةً أنها سترأس قيادة المجموعة في عام 2016. ومن ثم، فمن خلال وضعها أجندة إيجابية ومركزة لعمل مجموعة العشرين، تستطيع الصين أن تؤكد ليس فقط التزامها بالمجموعة كإطار عمل، ولكن أيضاً تبين إمكانات G20 في إحراز تقدم بشأن القضايا الاقتصادية الدولية الصعبة.
* عرض مُوجز لتقرير تحت عنوان: "الحوكمة الاقتصادية العالمية: الفرصة الأخيرة لمجموعة العشرين؟"، والصادر في نوفمبر 2015 عن المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس".
المصدر:
Paola Subacchi and Stephen Pickford, International Economic Governance: Last Chance for the G20? (London: The Royal Institute of International Affairs "Chatham House", November 2015).