أخبار المركز

الانقسام الداخلي:

تداعيات صعود اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي

26 يونيو، 2024


ما بين السادس والتاسع من يونيو 2024 توجه الناخبون الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب 720 من النواب الذين يمثلونهم في البرلمان الأوروبي، والنتيجة هي تصدر أحزاب أقصى اليمين أو ما يُطلق عليها تصنيفاً لسياساتها المُتبعة "اليمين المتطرف"؛ إذ استحوذ على غالبية المقاعد. فمن أهم الدول التي تصدر فيها اليمين المتطرف في البرلمان: فرنسا وإيطاليا والمجر وبولندا وهولندا وبلجيكا والبرتغال، والنمسا. وباتت التحالفات اليمينية تحل محل تجمعات التيارات الوسطية والديمقراطية الاجتماعية؛ إذ ستقود البرلمان الأوروبي بقياداته وتوجهاته السياسية نحو الرؤى والتنفيذ اليميني للسنوات الخمس المقبلة، وهي فترة الدورة البرلمانية الأوروبية كاملة. 

تساؤلات راهنة:

لم يكن أمراً مفاجئاً صعود اليمين في انتخابات البرلمان الأوروبي، ولكن عنصر المفاجأة جاء من نسب نجاحه وتقدمه الساحق على أحزاب وتحالفات تقليدية ذات ثقل سياسي ووزن استراتيجي داخل خرائط التحالفات والتكتلات الحزبية على المستوى الأوروبي الوطني القومي والفوق وطني القومي. وهذا ما دفع العديد مِمَّن ينتمون إلى دوائر صنع القرار المُعارضِة لليمين المتطرف في أوروبا والدوائر الأكاديمية ومراكز التفكير الاستراتيجي لوضع تصور وتحليل سريع حول دوافع وأسباب نجاح اليمين المتطرف في الاستحواذ على مقاعد البرلمان الأوروبي لعام 2024، وكيف غير اليمين المتطرف خطاباته على مدار السنوات الخمس السابقة لإنجاز خططه حول تعبئة ناجحة للناخبين الأوروبيين واستمالة دعم وتأييد المجتمعات الأوروبية إلى هذا الحد؟ ولماذا جاء هذا النجاح على هذه الشاكلة وفي هذا التوقيت بالذات؟ وماهي أبرز الملفات والقضايا السياسية على المستوى الوطني وفوق الوطني التي ستتأثر بصعود اليمين المتطرف وستشهد تغيراً جذرياً خلال السنوات الخمس المقبلة؟ وكيف سيؤثر هذا الصعود التاريخي لليمين المتطرف بالبرلمان الأوروبي في البرلمانات الوطنية القومية الأوروبية التي ما زالت بعيدة عن موجة أقصى اليمين ولم تشهد حتى الآن استحواذاً مماثلاً لليمين المتطرف على مقاليد الحكم المحلي والسيادة القومية داخل دول الاتحاد الأوروبي الأخرى كأيرلندا ولوكسمبورغ وقبرص وإسبانيا نسبياً، التي ما زال الاشتراكيون فاعلون فيها؟ 

وفي ظل كل هذه التطورات نحو سيطرة الحكم اليميني على البرلمان الأوروبي، فإلى أي مدى سيؤثر ذلك في القيم الأوروبية والاستحقاق وسيادة المشروع الأوروبي في حد ذاته باعتباره النموذج الحصري للمؤسسية الفوق قومية والتكامل الإقليمي السيادي القائم على مبادئ الديمقراطية والحرية والتضامن والحكم الرشيد المبني على نبذ التطرف والعنصرية والإقصاء السياسي؟ هل استحواذ اليمين المتطرف على البرلمان الأوروبي 2024 يعكس دلالة سياسية واضحة حول هشاشة كل هذه القيم الأوروبية وينم عن ازدواجية معايير متطرفة باتت صريحة وواضحة لدى معظم الأنظمة السياسية الحاكمة في أوروبا حول العديد من القضايا السياسية المعاصرة حول العالم؟ 

دوافع متداخلة:

توقع عدد من استطلاعات الرأي قبل انتخابات البرلمان الأوروبي صعود أحزاب اليمين المتطرف بعد تقدمها في عدد من الانتخابات المحلية ووصولها إلى السلطة مؤخراً في عدد من البلدان كإيطاليا وهولندا، فلم يكن بأمر مفاجئ كما سبق الذكر، ويرجع ذلك إلى العديد من الأسباب والدوافع من أبرزها: 

1- تأزم الأوضاع الاقتصادية: فاختيار الناخب الأوروبي لليمين المتطرف في هذا التوقيت جاء على خلفيات معقدة يتقدمها ارتفاع نسب البطالة والتضخم المستمر في أسعار الغذاء والطاقة والعقارات منذ جائحة "كورونا"، فالوضع شديد التأزم من الناحية الاقتصادية، بالإضافة إلى زيادة شرائح دفع الضرائب في معظم الدول الأوروبية خاصة في فرنسا وألمانيا منذ تورطهما مالياً وعسكرياً في دعم أوكرانيا وإرسال قوات للحرب ضد روسيا. 

2- رفض الدعم الأوروبي لأوكرانيا: فالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، ومن ورائها دعم معظم دول الاتحاد الأوروبي، ولاسيما فرنسا وألمانيا، وضعت الكثير على عاتق دافع الضرائب الأوروبي. أضف إلى ذلك، أن الخطابات الأخيرة التصعيدية لماكرون ضد روسيا لم تكن مقبولة على المستوى الشعبي، وهذا ما دفع مارين لوبان رئيسة حزب التجمع الوطني أو الجبهة الوطنية اليمينية، -التي حصل حزبها منفرداً على 30 مقعداً من أصل 81 مقعداً لفرنسا في البرلمان الأوروبي مقابل 13 مقعداً للائتلاف الحاكم مُجتمعاً- إلى القول بعد فوزها مباشرة "إن خطابات ماكرون التصعيدية ضد روسيا تقود فرنسا إلى حرب عالمية ثالثة، وأنا أعارض ذلك أيضاً". وهذا ما توافق عليه جُل الأحزاب السياسية الفرنسية من اليسار الاشتراكي والشيوعي وأقصى اليسار إلى أقصى اليمين واليمين "الديغولي"، المعارضة لمواصلة سياسات ماكرون الداعمة لأوكرانيا عسكرياً ومالياً واقتصادياً وسياسياً. 

وفى هذا الصدد، نُشر استطلاع مؤخراً حول هذا الموضوع؛ إذ أبدى 76% من الفرنسيين؛ اعتراضهم على تورط فرنسا عسكرياً وإرسال قوات إلى أوكرانيا. كما تقاطعت آراء العديد من المجتمعات الأوروبية التي تورطت أنظمتها في الحرب الروسية الأوكرانية مع رأي الفرنسيين. وهذا ما دفع ماكرون عقب إعلان نتيجة انتخابات البرلمان الأوروبي 2024 إلى حل الجمعية الوطنية باعتبارها السلطة التشريعية في فرنسا ودعا إلى انتخابات مبكرة تُجرى دورتها الأولى في 30 من هذا الشهر والدورة الثانية في 7 يوليو 2024، فكيف يمكننا أن نتخيل نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية المحلية؛ إذا كانت النتيجة في البرلمان الأوروبي على هذه الشاكلة؟ ربما سيقود ذلك ماكرون إلى الاستقالة، مثلما فعل رئيس وزراء بلجيكا ألكسندر دي كرو، بإعلان استقالته بعد خسارة حزبه في الانتخابات الأوروبية الأخيرة.

3- تنامي العداء للمهاجرين: يأتي تزايد أعداد اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين في وروبا منذ 2015 كأهم الأسباب الرئيسية التي دفعت الناخب الأوروبي لاختيار اليمين المتطرف المعروف بتشدده ضد اللاجئين والأجانب، خاصة في ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والنمسا وإيطاليا، وتبنيه لسياسات صارمة حول الأنظمة الأمنية والقانونية للحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ولا مانع في خطاباته المتكررة حول ضرورة تمرير استراتيجيات طويلة المدى لتنفيذ خطة طرد الأجانب والمهاجرين واللاجئين الذين يشكلون كتلة سكانية معادية للقيم والعادات الأوروبية ومنافسة لمنظومات الاستحقاق الأوروبي من الأمن والاقتصاد العام، وهذا ما عززته حوادث فردية من عنف وقتل من قبل بعض اللاجئين لعناصر الشرطة أو أفراد من المجتمع المُستضيف. 

قبل الانتخابات الأوروبية الأخيرة حاول البرلمان الأوروبي المنصرم أن يبتكر خطة ترضي جميع الأطراف بشأن اللاجئين؛ إذ أقر قانوناً من أهم بنوده أن تُفتتح مراكز احتجاز للمهاجرين على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي وهناك يتم قبول أو رفض طلب اللجوء، كما أن كل من يُرفض طلبه من اللاجئين يُرحل إلى بلده الأصلي، وفي حال موافقة البلد الأصلي ستمنح أوروبا مواطني هذا البلد تأشيرات سفر أكثر. وهذا ما عارضته أحزاب اليمين على أساس أن ذلك سيزيد من تفاقم الاضطرابات والجرائم على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ويعزز عمل المهربين والجريمة المنظمة. فالحل بالنسبة لليمين يكمن بالأساس في غلق الحدود الخارجية للاتحاد والترحيل القسري الممنهج ضد اللاجئين الموجودين حالياً داخل المجتمعات الأوروبية المُستضيفة، وهذا ما أيدته شرائح واسعة من الناخبين الأوروبيين. 

فمن ناحية، نجد أن الهجرة واللجوء هي ورقة رابحة بالنسبة لليمين المتطرف لجمع أصوات وتأييد الناخبين سواء على المستوى الأوروبي الإقليمي أم الداخلي القومي. إلا أنه من ناحية أخرى، هناك تخبط وعدم اتفاق سياسي واضح بين اليمين المتطرف حول قضية اللجوء والهجرة وهذا ما يرى البعض أنه قد يكون سبباً لاحقاً في جعل الناخب الأوروبي ينقلب على سياسات اليمين بشأن هذا الملف. فعلى سبيل المثال، في إيطاليا صعد إلى سدة الحكم حزب "إخوة إيطاليا" المتشدد بزعامة رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوني، التي كانت تطالب دائماً باستراتيجيات حول الترحيل القسري والحد من المهاجرين إلى إيطاليا، وتشجع على خروج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي لفشله في مواجهة أزمات متتالية على رأسها اللاجئين، ولكنها بعد توليها منصبها الحالي سمحت باستقدام حوالي 500 ألف مهاجر، وذلك لسد العجز والخلل في احتياجات سوق العمالة في إيطاليا. وعلى نفس المنوال، بينما يعارض فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر، ورئيس حزب "فيديسز" اليميني الحاكم، اللجوء والهجرة باعتبارهما "تهديداً خارجياً دائماً" للهوية الأوروبية المسيحية، إلا أنه يمرر استراتيجيات باستقدام المهاجرين كعمال وخبراء لمواجهة مشكلة النقص الدائم في سوق العمالة، وانخفاض معدلات الإنجاب مع زيادة الشيخوخة في أوروبا؛ مما يعرض الاقتصاد برمته لخسارات فادحة طويلة المدى من حيث التأثير والنتائج. 

فصعود اليمين على خلفية توظيف خطابه السياسي ضد اللاجئين والأجانب؛ جاء لتعبئة وتأجيج مشاعر الناخب الأوروبي؛ مستغلاً تأزم الوضع الاقتصادي وتوظيف جزء من الضرائب من أجل تمويل طلبات واحتياجات اللاجئين والقادمين الجدد، إلا أنه سرعان ما يتراجع، وإن كان جزئياً، على أرض الواقع، ويرى البعض أنه مثلما أسهم هذا الملف في تمكين اليمين المتطرف من أغلبية البرلمان الأوروبي الحالي، إلا أنه ربما سيكون السبب في خسارة اليمين شعبيته في المستقبل حينما يتجه نحو تطبيق سياساته على أرض الواقع محاولاً إرضاء الناخب الأوروبي الذي جلبه من ناحية، والموازنة في مواجهة خطابات حقوق الإنسان واللاجئين وقيم التسامح والديمقراطية التي يتبعها الاتحاد الأوروبي بمؤسساته القضائية والرقابية من ناحية أخرى. 

4- تراجع شعبية الأحزاب التقليدية: قد يكون ضعف الأحزاب التقليدية الحاكمة وتخبط هيكلها التنظيمي وآلياتها المُستخدمَة لتمرير خطاباتها وممارساتها للحشد الشعبي ووضع حلول طويلة المدى سبباً مهماً آخر لإفساح المجال أمام صعود اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي 2024، فالتحالفات والتكتلات الحاكمة الآن في معظم دول الاتحاد تواجه استقطابات وانقسامات عميقة حول قضايا داخلية رئيسة. 

فعلى سبيل المثال، يتوَّلى الحكمَ في ألمانيا منذ نهاية العام 2021 ائتلافٌ من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني (SPD)، وتحالف 90 /الخضر (Die Grünen)، والحزب الديمقراطي الحر (FDP) ويترأس هذا الائتلاف المستشار الاتحادي شولتس. وهناك خلافات سياسية واسعة داخل الائتلاف الحاكم حول قضايا دولية مختلفة بدءاً من الحرب الروسية الأوكرانية وإمكانية التفاوض مع روسيا، مروراً بالتعامل مع الأزمات الاقتصادية المتكررة، وانتهاءً بفكرة البقاء في الاتحاد الأوروبي وإعطاء الأولوية للنزعة الوطنية القومية. 

نجد المشهد يتكرر مثلاً في فرنسا؛ إذ قالت مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي عقب فوز حزبها في الانتخابات: "نحن ضد مواطنة أوروبية وضد دولة أوروبية، وضد رئيس أوروبي، وضد علم أوروبي، وضد جيش أوروبي، ما حصل الليلة ليس رفضاً لماكرون فقط، إنما هو رفض لأوروبا، فكرة أوروبا كلها مهددة هذه الليلة بفعل هذه النتائج". جاء نفس الخطاب على نحو مُتكرر، وإن كان بدرجات مختلفة، في معظم الدول الأوروبية التي سيطر عليها اليمين المتطرف. وعليه، باتت فكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي رغبة يطمح إليها الناخب الأوروبي، وهذا ما غذاه اليمين المتطرف من خلال خطاباته الداعمة للنزعة القومية ولفكرة "الوطن أولاً"، ولذلك شكل اليمين المتطرف في معظم البلدان الأوروبية أجندات وبرامج وسياسات انتخابية قائمة على الأولوية للمصالح الداخلية للشعوب على حساب أوروبا ككل. وهذا ما يفسر وجود أحزاب يمينية شعبوية تفضل البقاء بعيدة عن الحرب الروسية الأوكرانية، مُتهِمة الأحزاب الحاكمة من التيارات المعتدلة أو اليسارية بأنها مَن خربت اقتصاد أوروبا بدعم شؤون الغير، والتورط في حروب لم ولن تكون شأناً أوروبياً قومياً قط.  

تداعيات ممتدة:

يرى العديد من المتخصصين في الشأن الأوروبي أن سيطرة تحالفات اليمين المتطرف على مقاعد البرلمان الأوروبي ستعرقل العديد من المقترحات التشريعية التي ستتقدم بها المفوضية الأوروبية بشأن قضايا حرجة سياسية وأمنية واقتصادية وبيئة وغيرها من القضايا على المستويين القومي والفوق قومي؛ والتي من شأنها أن تتسبب في صدع لا مفر منه داخل الديناميات اليومية الوظيفية للاتحاد الأوروبي كتكتل إقليمي. وربما يكون ذلك العتبة الأولى لتفكك الاتحاد الأوروبي كاملاً أو تهميش تأثيره السياسي في مضامين السياسات اليومية لدى الدول الأوروبية.

وقد يكون من أهم الملفات التي قد تشهد تغيراً ملف الهجرة واللجوء، باعتباره أهم الدوافع التي جلبت اليمين المتطرف؛ إذ ستعمل فصائل اليمين جاهدة على تقييد الهجرة إلى أوروبا سواء أكانت نظامية أم غير نظامية من خلال طرح قوانين أكثر تشدداً لحكم وتأمين الحدود الأوروبية الخارجية منها والعابرة للإقليمية؛ وهذا ما سيدفع المزيد من الأشخاص المهاجرين إلى محاولة الوصول إلى أوروبا بشكل غير قانوني وسلك طرق جغرافية أكثر خطورة لتفادي الترحيل القسري عبر كل من البحر المتوسط والمحيط الأطلسي معرضين حياتهم للخطر والموت الحتمي. في هذا الصدد، يتمدد اليمين المتطرف للتعاون أمنياً وتمويلياً مع الأنظمة السياسية الحاكمة المُصدرة للاجئين، وذلك من خلال بناء منظومات استخباراتية أمنية عبر إقليمية تستهدف اللاجئين على سواحل بلدانهم قبل البدء في رحلة الوصول إلى أوروبا. فوفقاً لبعض المنشغلين بدراسات حوكمة وتأمين الحدود والقانون الدولي الإنساني، فإننا سنشهد انتهاكات مستقبلية لا نهاية لها ضد القوانين الدولية لحقوق الإنسان ومواثيق الاتحاد الأوروبي حول الحماية الدولية وبنود تنظيم حقوق اللاجئين على نحو سُيعرّض المؤسسية القانونية والوظيفية الهيكلية للاتحاد الأوروبي للعديد من الانتقادات، وعدم الثقة في فاعلية المشروع الأوروبي برمته.

أضف إلى ذلك، أن اليمين المتطرف قد يحاول تغيير هدف الاتحاد الأوروبي المتمثل في الحياد المناخي بحلول عام 2050؛ إذ تعتقد هذه الأحزاب أن حماية المناخ والبيئة على هذه الشاكلة المُتبعة من الاتحاد الأوروبي تؤثر سلباً في المزارعين والمنظومات الزراعية شديدة التعقيد والخصوصية لكل دولة أوروبية على حدة. كما أنه سيدفع نحو خفض مساعدات التنمية الأوروبية بشكل كبير خارج القطر الأوروبي وتعزيز المصالح الأوروبية القومية على المصالح ما فوق القومية، وهذا ما سيفاقم الاضطرابات السياسية داخل المؤسسات المختلفة التابعة للاتحاد الأوروبي على نحو سيكون أكثر ميلاً للاستقطاب والتفكك لصالح تطبيق الرؤى اليمينية في الفترة المقبلة للبرلمان الأوروبي. 

في ظل ذلك، ترى بعض من التيارات المعتدلة واليسارية المعادية لليمين المتطرف الأوروبي أن كل تلك التغييرات المُنتظرة من البرلمان المُنتخب الحالي هي انعكاس لقلق الناخب الأوروبي من المستقبل في ظل تخوفاته من تزايد الهجرة، وتعقد مستويات التضخم، وتفاقم البطالة والمعاناة الاقتصادية والديون الخارجية والمحلية على نحو غير مسبوق، بالإضافة إلى فشل الاتحاد الأوروبي في ظل حكم تلك التيارات المعتدلة واليسارية في جعل أوروبا ذات ثقل جيوسياسي مؤثر في نحو قيادي عالمياً وإقليماً. إلا أن تلك التيارات ترى في الوقت ذاته؛ أنه لإحداث كل تلك التغييرات على الأصعدة الأمنية السيادية والجيوسياسية والاقتصادية والبيئية وغيرها يجب أن يكون اليمينيون على المستوى القومي وفوق القومي يمثلون جبهة سياسية واحدة موحدة ذات رؤى وخطط وتوجهات متطابقة ومتعاونة في الوقت نفسه؛ وهو الأمر الذي يستبعده معظم الخبراء والمتخصصين في دراسات اليمين والاتحاد الأوروبي حالياً.

انقسام أقصى اليمين:

لا يزال هناك تباعد سياسي كبير بين الأحزاب اليمينية الأوروبية، وينعكس ذلك من خلال انقسام تيارات أقصى اليمين في البرلمان الأوروبي إلى كتلتين، هما: كتلة المحافظين والإصلاحيين، وكتلة الهوية والديمقراطية، ويبدو انصهار هاتين الكتلتين مُستبعداً فهما كالخصوم، نظراً للخلافات السياسية الكبرى بينهما في وجهات النظر وطرق التطبيق. فعلى سبيل المثال، تُعد روسيا من أكثر نقاط الخلاف بين هاتين الكتلتين، فمثلاً حزب الحرية النمساوي وبعض يمينيي إيطاليا، المتمثلين في الكتلة الديمقراطية، انتقدا موفق الغرب المتشدد والاتحاد الأوروبي تجاه روسيا بعد غزوها لأوكرانيا ويرون أن فتح باب الحوار والمفاوضات مع روسيا من شأنه أن يشكل خطوة أولى لإنهاء الحرب وبناء السلام والاستقرار في المنطقة برمتها، بينما حزب القانون والعدالة في بولندا والحزب اليميني الآخر الحاكم في إيطاليا "إخوة إيطاليا"، الممثلان لكتلة المحافظين والإصلاحيين، هما من المؤيدين والداعمين على المستوى السياسي والعسكري والمالي لأوكرانيا وحربها ضد روسيا.  

ختاماً، إن استحواذ اليمين المتطرف على مقاعد البرلمان الأوروبي 2024 هو أمر حتمي وغير مُستغرَب لدى المتخصصين في الشأن الأوروبي الداخلي ودراسات المجتمعات الأوروبية. فالوضع منذ 2015، الفترة التي استقبلت فيها أوروبا، ولاسيما غربيها، آلاف اللاجئين والمهاجرين من دول عالم الجنوب، يعكس تسارع غضب الناخبين الأوروبيين وخوفهم إزاء العبث بالقيم الأوروبية، وأن تتحول مجتمعاتهم إلى وطن لغرباء يحملون قيماً وأولويات ومطالب منافسة. فصعود اليمين المتطرف في أوروبا ما هو إلا انعكاس لما يريده المواطن الأوروبي العادي بعدما مُررَت له العديد من الخطابات والسيناريوهات المُتخيلَة حول مستقبل أوروبا في ظل كل التهديدات والأحداث المتصارعة الجارية. ويتطلب الأمر وقتاً لفهم نتائج إدارة اليمين المتطرف للبرلمان الأوروبي الحالي وكيف سيؤثر في مدى تماسك التشريعات والقرارات المُستخرجَة. وقد يكون من التبسيط عدم الأخذ في الاعتبار المقاربة القائمة على أنه كلما تصاعد وجود وحكم اليمين المتطرف على المستوى الأوروبي الفوق قومي والقومي المحلي، كلما تباعدت المساحات السياسية المشتركة بين المصالح الأوروبية المتباينة داخل الاتحاد الأوروبي ككل، وكلما أصبح احتمالات تكرار تجربة "البريكست" وانفصالات متتالية عن الاتحاد أمراً ليس بمُستبعد مثلما فعلت المملكة المتحدة في 31 يناير 2020، مُعلنة بذلك عن أولوية مصالحها القومية ونزعتها الهوياتية الوطنية على المجموع الأوروبي الفوق قومي، وبالطبع سيؤثر ذلك في البلدان الأوروبية التي ستظل بعيدة عن الاستحواذ اليميني على برلماناتها المحلية أو حصتها في البرلمان الأوروبي.

 كما قد يقيد ذلك تدريجياً السلطة الوظيفية والصلاحيات الرقابية للبرلمان الأوروبي على العديد من الأمور المتعلقة بطرق وأهداف وقنوات التمويل الأوروبي في الداخل والخارج أو بالسياسات الأمنية في الداخل أو على الحدود مثل رفع الرقابة عن هيئة "الفرونتكس"، الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، وتمددها للعمق الإفريقي، على سبيل المثال، لإيقاف اللاجئين قبل البدء في رحلاتهم إلى أوروبا. وهو أمر تزايد خصوصاً بعد صعود اليمين المتطرف في حكم الأنظمة السياسية المحلية لبعض الدول الأوروبية، خصوصاً دول شمال البحر الأبيض المتوسط. فكما كافحت النظريات التاريخية حول التطرف والأنظمة الحزبية؛ فإن النتيجة الخطية للفهم الأبستمولوجي للذاكرة الجماعية لليمين المتطرف في أوروبا تشير إلى أن تقنيات الحكم اليميني تُعيد إفراز نفس السياسات والخطابات والممارسات المُتبعة في أزهى عصور انتعاش الأيديولوجيات النازية والفاشية والنزعة القومية العنصرية والشمولية المتطرفة في ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ولكن بصبغة شديدة الحداثة قائمة على تعقيدات العولمة والتكنولوجيات الذكية وتقنيات الاختلاق والاختراق لروايات مُهيمنة على مسارات كتابة تاريخ الأحداث الحالية.