أخبار المركز

"التوجه شرقاً":

دوافع وانعكاسات تقارب تونس مع إيران والصين

28 يونيو، 2024


تتبنى تونس سياسة خارجية براغماتية تهدف إلى تعزيز العلاقات التونسية مع بعض القوى الإقليمية والدولية ومنها إيران والصين، في محاولة لتطوير نمط العلاقات القائم بين تونس وهذه القوى على كافة المستويات، ولاسيما السياسية والاقتصادية.

مُؤشرات مهمة:

توجد مجموعة من المؤشرات المهمة الدالة على تبني النظام السياسي التونسي سياسة خارجية تسعى إلى تحقيق نوع من التقارب السياسي والاقتصادي والأمني مع بعض القوى الإقليمية والدولية المحسوبة على المعسكر الشرقي، ومن أهمها ما يلي:

1. زيارة سعيد للصين: قام الرئيس التونسي قيس سعيد بزيارة رسمية للصين خلال الفترة من 30 مايو إلى 5 يونيو 2024، للمُشاركة في فعاليات المؤتمر الوزاري العاشر لمنتدى التعاون العربي الصيني، وفي شهر يناير الماضي اجتمع الرئيس سعيد مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في تونس؛ وتم الاتفاق وقتها على أهمية تطوير العلاقات التونسية الصينية في عدد من المجالات السياسية والاقتصادية (الزراعة، البنية التحتية، الطاقات المتجددة) إلى جانب الصحة والرياضة، وفي شهر مايو الماضي قام نائب أمين عام الحزب الشيوعي الصيني جيو فنكي بزيارة لتونس، وفي مطلع العام الجاري أيضاً احتفلت الدولتان بمرور الذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين تونس وبكين.  

2. إلغاء التأشيرات للإيرانيين: أصدرت وزارة الخارجية التونسية قراراً بإلغاء تأشيرة الدخول إلى تونس بالنسبة لحاملي جوازات السفر الإيرانية العادية بدءاً من 15 يونيو 2024، وذلك ضمن قرار يشمل إلغاء تأشيرة الدخول إلى تونس بالنسبة لحاملي جوازات السفر العراقية، وجاء هذا القرار عقب الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس التونسي قيس سعيد إلى إيران لتقديم واجب العزاء في وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي؛ إذ التقى سعيد خلال الزيارة مع المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي لأول مرة، ورغم الحديث عن أن قرار إلغاء تأشيرة دخول الإيرانيين لتونس جاء بعد اتخاذ إيران القرار نفسه من جانبها في هذا الخصوص في شهر فبراير الماضي، فإن في ذلك مؤشر مهم على توجه تونسي لتنويع العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية غير الغربية. وقبل وفاة الرئيس الإيراني رئيسي كان هناك اتفاق مع نظيره التونسي سعيد على تنظيم عدد من الزيارات المتبادلة لمسؤولي الدولتين وعلى رأسهم رئيسا الدولتين.

أهداف مُحددة:

تسعى تونس من خلال توجهها الراهن نحو الشرق (إيران، الصين) إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المتنوعة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية، ومن أبرزها ما يلي:

1. إقامة تحالفات استراتيجية: تهدف السياسة الخارجية التونسية الراهنة إلى تطوير نمط العلاقات الثنائية القائم في شتى المجالات سياسياً واقتصادياً وأمنياً مع عدد من القوى الإقليمية والدولية ذات الثقل الكبير على الصعيديْن الإقليمي والدولي، فمنذ عام 1990 تم تشكيل لجنة تونسية إيرانية للبحث في سبل تعزيز المصالح الثنائية المشتركة ونجحت هذه اللجنة في توقيع الدولتيْن خلال السنوات الماضية على أكثر من 20 بروتوكولاً في عدّة مجالات استراتيجية، وفي الوقت ذاته تسعى تونس لمتابعة تنفيذ ما تم توقيعه من اتفاقيات لتعزيز التعاون الثنائي مع الصين في كافة المجالات وصولاً إلى إقامة تحالفات استراتيجية في المستقبل القريب.

2. تعظيم المكاسب الاقتصادية: تسعى تونس من خلال تطوير علاقاتها الثنائية مع كل من إيران والصين، لتحقيق مكاسب اقتصادية، وذلك على النحو التالي:

- تُعد الصين الشريك التجاري الرابع لتونس بعد كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين حوالي 6 مليارات دولار، وترغب تونس في إقامة شراكات اقتصادية مع الشريك الصيني، وتحسين مستوى العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تونس وبكين، وقد شهدت الزيارة توقيع اتفاقات تعاون اقتصادي بين تونس وبكين في مجالات التعاون الإنمائي وتنمية المبادلات التجارية والتنمية المستدامة والتكنولوجيا الحديثة، كما تعهدت الصين بتنفيذ مشروعات في قطاعات الصحة والبنية التحتية والطاقة والنقل والبحث العلمي والسياحة.

ورغم ذلك؛ فإن فريقاً من المراقبين يرون أن زيارة سعيد للصين لم تترتب عليها نتائج مُعتبرة على صعيد تطوير الاقتصاد التونسي، وخاصة فيما يتعلق بمناقشة عجز الميزان التجاري للصين بحوالي 2 مليار دولار، وأيضاً فيما يخص دمج تونس في مجموعة دول "البريكس"، كما لم تتم مناقشة سبل جذب الاستثمارات الصينية؛ إذ تطالب الصين الحكومة التونسية بتحسين مناخ الاستثمار.

وفي المقابل، يرى فريق آخر من الخبراء أن هناك فرصاً مُتاحة أمام تعزيز العلاقات الاقتصادية التونسية الصينية خلال الفترة المقبلة، وذلك استناداً إلى حجم الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين الدولتين خلال السنوات الماضية، كما تأمل تونس في الاستفادة من الاستثمارات الصينية الموجهة للدول الإفريقية والمقدرة بحوالي 400 مليار دولار، كما أن منتدى التعاون الصيني الإفريقي يمثل إطاراً مؤسسياً لتعزيز التعاون الاقتصادي بين الصين والدول الإفريقية ومنها تونس، كما أن مشاركة تونس في مُبادرة الحزام والطريق الصينية تفتح المجال أمام تونس لتحقيق مكاسب اقتصادية من ورائها.  

- تتطلع تونس للاستفادة من تقاربها السياسي مع إيران لتحقيق بعض المكاسب الاقتصادية الناتجة عن توافر الرغبة المشتركة بين الدولتين لتطوير علاقاتهما الاقتصادية، والسعي الإيراني للدخول إلى الأسواق الإفريقية عبر البوابة التونسية لتسويق منتجاتها الصناعية وعلى رأسها السيارات الكهربائية؛ ومن ثم يمكن التعاون بين الدولتين في مجال تجميع السيارات وتوريد الفوسفات التونسي للصين، وتعزيز التعاون في مجال الشحن البحري، كما تحرص إيران على تطوير حجم التبادل التجاري مع تونس، الذي بلغ حوالي 12 مليار دولار في عام 2017، ويمكن تطوير هذه العلاقات عبر تفعيل اتفاقية خفض الرسوم الجمركية الموقعة بينهما في عام 2007.  

3. مواجهة الضغوط الغربية على تونس: يهدف التوجه التونسي إزاء الشرق (إيران، الصين) في أحد جوانبه، إلى الضغط على الدول والمؤسسات الدولية المانحة وعلى رأسها الدول الأوروبية وصندوق النقد الدولي من أجل تخفيف الضغوط التي تمارسها على تونس؛ ومن ثم تعزيز الموقف التفاوضي لتونس مع صندوق النقد الدولي، بما يساعدها على الحصول على قروض ومساعدات اقتصادية، وذلك لمنع تونس من تعزيز علاقاتها مع الصين وإيران، ومن التخلي عن شراكاتها الاستراتيجية مع دول الاتحاد الأوروبي.

دلالات مهمة:

يكتسب التقارب التونسي مع إيران والصين مجموعة من الدلالات السياسية المهمة، من أبرزها ما يلي:

1. سياسة براغماتية: يعكس تطور نمط العلاقات الثنائية القائم بين تونس وكلٍ من إيران والصين، تبني النظام السياسي التونسي سياسة خارجية تتسم بقدر كبير من البراغماتية الساعية لتعظيم المكاسب التونسية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية، ورفضه تدخل الدول الأجنبية في الشؤون الداخلية للبلاد، وتوظيف ذلك على المستوى الداخلي في تونس لتعزيز شرعية النظام القائم برئاسة قيس سعيد قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة.

2. تنويع الشركاء: يعكس اتجاه تونس صوب الشرق، رغبة تونس في تنويع شركائها وخاصة فيما يتعلق بتطوير العلاقات الاقتصادية، بما يسهم في إنعاش الاقتصاد التونسي الهش؛ وهو ما برز في مخرجات زيارة الرئيس قيس سعيد الأخيرة للصين؛ إذ يرغب الرئيس التونسي في إيصال رسائل عدة إلى الداخل والخارج مُفادها استقلالية عملية صنع واتخاذ القرارات السياسية وخاصة فيما يتعلق بعلاقات تونس مع شركائها الإقليميين والدوليين، وتطوير هذه العلاقات وصولاً لإقامة علاقات استراتيجية في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، وعدم الاقتصار فقط على العلاقات التونسية التقليدية مع الدول الغربية.

3. مُناورة سياسية تونسية: يُشير السعي التونسي أيضاً لتعزيز العلاقات مع كل من إيران والصين في الوقت الراهن، إلى رغبة تونس في توظيف التقارب الحاصل في العلاقات مع هذه القوى، كورقة ضغط للتخفيف من حدة الضغوط الغربية التي تواجهها الحكومة التونسية، وعدم الرضوخ للضغوط الأوروبية والخروج من تبعيتها السياسية والاقتصادية، وذلك على خلفية تصاعد الخلافات التونسية الأوروبية بسبب عدم استجابة الرئيس سعيد لشروط صندوق الدولي لمنحه قرضاً بقيمة حوالي 1.9 مليار دولار، وخاصة فيما يتعلق برفع الدعم الحكومي وخفض الأجور والرواتب وتقليص أعداد موظفي الدولة، وهو ما رفضه الرئيس سعيد، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الداخل، وتجنب إثارة الرأي العام ضده، ولاسيما قبل الانتخابات القادمة.

كما أثارت زيارة سعيد الأخيرة للصين ردّة فعل الاتحاد الأوروبي الذي أعرب عن قلقه إزاء تطور العلاقات التونسية الصينية على النحو الذي قد يخصم من النفوذ الأوروبي في تونس ومنطقة المغرب العربي؛ ولذلك فقد سارع بنك الاستثمار الأوروبي عقب انتهاء زيارة سعيد للصين، بتقديم 450 مليون يورو في صورة قروض ومساعدات لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في تونس، وذلك في مُحاولة أوروبية لتأكيد استمرار الدعم الأوروبي للاقتصاد التونسي، رغم الخلافات المُثارة بين الطرفين في الوقت الحالي.

4. الخروج من العزلة الدولية: يُمثل التقارب التونسي الإيراني فرصة أمام تونس لتحقيق بعض المكاسب السياسية والاقتصادية، فهذا التقارب تنظر إليه إيران باعتباره مخرجاً لها من العزلة الدولية المفروضة عليها، في ظل العقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي من جهة، والتوتر في علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية من جهة أخرى؛ ومن ثم فإن طهران تسعى لتعزيز علاقاتها مع تونس، وكذلك في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا؛ الأمر الذي يمنحها هامشاً أكبر من الحركة الخارجية؛ ومن ثم التخفيف من تداعيات العزلة الدولية المفروضة عليها.

وفي التقدير، فإن التقارب الحاصل في العلاقات التونسية مع كلٍ من إيران وروسيا، يُشير إلى تغير نوعي في توجهات السياسة الخارجية التونسية في الوقت الراهن، من أهم ملامحه الاتجاه لتنويع الشركاء وإقامة شبكة تحالفات استراتيجية على الصعيديْن الإقليمي والدولي، وذلك بعد أن ظلّت العلاقات التونسية مُقتصرة على الدول الغربية فقط، وذلك في إطار تبني سياسة تعدد الأقطاب، في ضوء الصعود الصيني المتسارع كقوة دولية يمكن الاعتماد عليها لتحقيق جملة من المكاسب السياسية والاقتصادية؛ ومن ثم الحفاظ على المصالح الاستراتيجية للدولة.

وفي الوقت ذاته يمثل توافق الرؤيتين التونسية والإيرانية إزاء الحفاظ على المصالح الاستراتيجية لكل منهما من جهة، وإزاء بعض القضايا الدولية المُثارة وعلى رأسها القضية الفلسطينية من جهة أخرى، مُرتكزاً قوياً يمكن الاعتماد عليه لتطوير نمط العلاقات التونسية الإيرانية خلال الفترة المقبلة.

وفي ضوء ما سبق، فإن التوجه التونسي باتجاه الشرق يأتي في إطار سياسة تنويع الشركاء، مع استبعاد أن يؤدي ذلك إلى ابتعاد تونس الكامل عن حلفائها وشراكاتها الاستراتيجية القائمة مع الدول الأوروبية في إطار ما تحققه من فوائض مالية على مستوى علاقاتها التجارية مع هذه الدول.