تكثر هذه الأيام عناوين مقالات وورشات عمل ومؤتمرات تحمل شعارات ما بعد الاضطراب الديني، وما بعد الاضطراب السياسي. وفي عمّان بالأردن عقدت مؤسسةٌ جديدة مؤتمرها الأول وأعطته عنوان: النهضة أو تجديد الرسالة الحضارية. وفي محاضرتي بالمؤتمر ذكرتُ أنّ عنوان النهضة العربية، جاء في أُطروحةٍ لمستشرق ألماني حملت عنوان: نهضة الإسلام(1922). وقصد المستشرق بذلك القرن الرابع الهجري/ العاشر والحادي عشر للميلاد. وفي ذهن "آدم متز" واعتباره أنّ ذاك القرن شابهت أحداثه الفكرية والثقافية زمن النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي. ويأتي التشابُه من التحرر الفكري من السطوة البابوية، والالتفات إلى الجذور اليونانية والرومانية؛ فكذلك قرن النهوض الإسلامي استند إلى الترجمات عن اليونانية، وسواد منطق أرسطو وعلوم اليونان في الفلك والرياضيات والطب والهندسة لدى فلاسفة الإسلام، ومفكريه الأخلاقيين وحتى المتكلمين وعلماء أصول الفقه. وكان المستشرقون الأوروبيون منذ منتصف القرن التاسع عشر قد أقبلوا على نشر المخطوطات العربية في الفيلولوجيا - فرع من فروع علم اللغة أو اللسانيات- والتاريخ، وعندما تكونت لديهم حصيلة معتبرة من الميراث الفكري والثقافي العربي، صاروا إلى كتابة دراسات في التاريخ الفكري والسياسي والثقافي العربي استناداً إلى المخطوطات التي نشروها خلال نصف قرن ضمن مذهب «التاريخانية» المعتمد على الفيلولوجيا والتاريخ في إدراك الحضارات والثقافات غير الأوروبية مثل الصين والهند وإيران والعرب والإسلام. وما استطاعوا إيجاد علائق بين حضارة اليونان وحضارة الصين وإيران الآرية القديمة؛ لكنهم وجدوا ذلك سهلاً مع الحضارة العربية- الإسلامية.
وقد اندفع المثقفون التحديثيون العرب والمسلمين في نفس توجُّه المستشرقين، فدرسوا النهوض العربي- الإسلامي في السياق ذاته، وفي أذهانهم أنّ النهوض الذي حققه الأوروبيون استناداً إلى الدثائر اليونانية، يستطيع العرب أن يحققوه أيضاً لمعرفتهم بالتراث اليوناني القديم، وتقليدهم للنهوض الأوروبي الحديث. وقد أقبل النهضويون العرب على تحقيق المخطوطات الأدبية والمعاجم وإنشاء الموسوعات العلمية. وطوروا مشروعات ثقافية كبرى في التاريخ الفكري والحضاري والثقافي العربي والإسلامي مثل جورجي زيدان والبستانيين وطه حسين ومحمد كردعلي والرافعي وأحمد أمين ثم اصطدم تيار الأصالة العربية بالأصاليات الاستشراقية. ففي زمن القوميات والدول الحديثة، صار ينبغي أن يكون التاريخ خاصاً ومستقلاً ونابذاً للدخيل في الماضي والحاضر!
كيف نجدد الرسالة النهضوية والحضارية، ونخرج من الصدامات المدمِّرة للأصاليات والأُصوليات؟ اليوم هناك زمانٌ عالمي، وأي رسالةٍ لا بد أن تكونَ لها أبعادٌ عالمية. وهناك اليوم رسالتان نهضويتان حضاريتان عالميتان؛ الأولى لدى الولايات المتحدة التي تسيطر على «أنماط الحياة» في العالم. والثانية لدى الصين التي طوّرت رسالةً إلى العالم تقوم على مكافحة الفقر والتهميش، ونشر مشروع المحيط والطريق (= طريق الحرير) لاستعادة الازدهار الاقتصادي. فالرسالة التي تستحق هذا الاسم، ينبغي أن تتوافر لها بعض شروط المشروعين أو أحدهما. وهو أمرٌ عزيزٌ ولا بد أن نتأهَّلَ له. ولذلك هناك ثلاث أولويات لا بد أن ننهضَ بها ولها وهي: استعادة العافية إلى الدولة الوطنية العربية، واستعادة السكينة في الدين، وتصحيح العلاقات مع العالم. فحتى في تأملات المستشرقين كانت الدولة العربية الأولى(زمن الراشدين والأُمويين) هي الداعية الأول للنهوض. وكان الدين على انسجامٍ مع الدولة، ولا يحاول في تياره الرئيس الحلولَ محلَّها. ثم إنه وإن كان هناك صراعٌ على الأرض مع البيزنطيين؛ فقد كانت هناك شراكةٌ حضارية. إنما ماذا حدث للنهضة والحضارة العربية بحيث تحتاج إلى استعادةٍ الآن في ضوء وعلى نهج النهوض الأوروبي؟ المستشرقون يقولون إنّ الانحطاط حصل عندما أعرض المسلمون عن «علوم القدماء»، والمفكرون المسلمون يقولون إنّ الانحطاط لم يحصل إلاّ مع الاستعمار. وعلى أي حال؛ نحن اليوم في زمان ما بعد الاستعمار، وحال العرب ليس أفضل، وقد يكونُ أسوأ بكثيرٍ منه زمن الاستعمار. فماذا مرةً أُخرى عن زمان ما بعد الاضطراب، وليس عن زمان ما بعد "داعش"؟ إنّ شروط تقويم الوضع واستقامته بعد الاضطراب هي هذه الأولويات الثلاث. وإذا شئنا أن نكونَ موضوعيين غير متفائلين ولا متشائمين؛ فإنّ هذه الأولويات في الدولة والدين والعلاقة بالعالم، هي مشروعنا الحضاري اليوم.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد