أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

ديمغرافية التطرف:

مقاربات بديلة لمواجهة عودة "داعش" بالساحل الإفريقي

17 يناير، 2021


تعطي منطقة الساحل الإفريقي، أو ما يطلق عليه قوس الأزمة، التنظيمات الإرهابية الجهادية فرصة كبرى لإقامة دولتهم الإسلامية المزعومة بعد الهزائم الكبرى التي لحقت بهم في سوريا والعراق. إذ تمثل المناطق الحدودية التي يصعب التحكم بها، وقوات الأمن سيئة التدريب والتجهيز، والتوترات العرقية والدينية؛ عوائق حقيقية أمام نجاح المقاربات الأمنية الوطنية والأممية لإحباط العمليات الجهادية العنيفة. وفي المقابل، قد تلجأ التنظيمات الإرهابية (مثل: داعش، وبوكو حرام، والقاعدة) إلى التنسيق فيما بينها من أجل كسب أراضٍ جديدة، وهو الأمر الذي يحمل معه تداعيات كارثية على الإرهاب العالمي، ولا سيما الحركات الجهادية العنيفة. صحيح أن استمرار الانقسامات الاجتماعية والسياسية والعرقية والدينية في دول الساحل والصحراء يعوق فرص نجاح الجهود الوطنية والدولية لمحاربة الإرهاب؛ لكن -مع ذلك- توجد تساؤلات أخرى حول البدائل والمقاربات الأخرى. ويحاول هذا المقال طرح بعض القضايا التي تعكس طبيعة الحسابات المرتبكة لمناهج التعامل مع الظاهرة الإرهابية في الساحل، وأهمية طرح مقاربات بديلة.

مؤشرات عودة داعش:

على الرغم من تبعات جائحة (كوفيد-19) فقد بات واضحًا أن الجماعات الإرهابية قد وسعت من أنشطتها وعملياتها العنيفة، ولا سيما حول وداخل إقليم بحيرة تشاد. 

ثمة آليات متباينة من التعاون والتنافس بين تنظيم "داعش" و"القاعدة" و"بوكو حرام" وذلك في سياق الحصول على السمعة الدولية وكسب مزيد من الأراضي. كما أن العلاقات المعقدة والمتشابكة بين الجماعات القبلية والعرقية المتمركزة في منطقة الساحل قد تُفضي إلى مزيد من الانقسامات والنزاعات التي يصعب اكتشافها من قبل قوات التحالف، مثل: الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وفرقة الساحل المشتركة، وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. 

وعلى الرغم من تزايد عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، فقد أثبت التطرف الجهادي أنه لا يزال قادرًا على المواجهة والحفاظ على وجوده، مما أدى إلى نتائج كارثية بالنسبة للأمن الإنساني، مثل ارتفاع عدد الوفيات بنسبة 590٪ في بوركينافاسو وحدها خلال العام الماضي. وربما تُعزى قدرة هذه الجماعات الإرهابية على الحركة إلى قدرتها على توفير حواضن اجتماعية، والاندماج في شبكات التهريب الموجودة مسبقًا، والسيطرة على المناطق النائية في إقليم الساحل، حيث تنعدم سيطرة الدولة الوطنية أو تقف عاجزة عن مواجهة أي تهديدات جدية.

في نهاية العام الماضي، اختطفت فرقة تابعة لزعيم بوكو حرام "أبو بكر شيكاو" 344 تلميذًا من مدرسة ثانوية نيجيرية في محاولة على ما يبدو للحصول على فدية. وتمثل هذه الغارة تجسيدًا حرفيًا لاستراتيجية بوكو حرام، حيث إنها قامت بنفس الفعل في عام 2014، عندما اختطفت المجموعة 276 تلميذة من ثانوية بلدة شيبوك. ومع ذلك يُمكن ملاحظة تغير مهم في تكتيكات هذه الجماعة الإرهابية. في السابق كانت المجموعة تقتصر بشكل أساسي على منطقة حوض بحيرة تشاد، ومقرها في ولاية بورنو، التي تشمل تقاطع شمال شرق نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون. بيد أن حادثة اختطاف التلاميذ في ديسمبر 2020 وقعت في كاتسينا شمال البلاد على بعد نحو 500 ميل من معقل الجماعة في بورنو.

أدت الثقة المتزايدة لهذه الميليشيات المتطرفة إلى انتشار نفوذها في جميع أنحاء المنطقة مع ارتفاع معدلات العمليات العنيفة. إذ بالإضافة إلى عملية الاختطاف في ديسمبر الماضي تم ذبح 110 مدنيين بينهم 76 قرويًّا في مزارع الأرز شمال شرق نيجيريا. وتشكل بوكو حرام، إلى جانب داعش في ولاية غرب إفريقيا، مظلة جهادية كبرى في المنطقة، تشمل كلًّا من نيجيريا والكاميرون وتشاد والنيجر. وقد تعهد زعيم الجماعة "أبو بكر شيكاو" بالولاء لداعش في مارس 2015، لكن الاختلافات بين المجموعات الأساسية لبوكو حرام وداعش أدت إلى انقسام الجماعة إلى فصيلين رئيسيين في أغسطس 2016. وعلى أية حال لا يزال هناك الآلاف من المقاتلين الذين يحرضون ويقاتلون من أجل إقامة دولتهم المزعومة.

كما شهد العام الماضي أيضًا قيام بوكو حرام بشن أعنف هجوم جهادي على الإطلاق أدى إلى مقتل 92 جنديًا تشاديًا. كما دبرت المجموعة هجمات عنيفة على مخيم للاجئين في الكاميرون، وقتلت 50 جنديًا نيجيريًا في كمين، وذبحوا 30 من سائقي السيارات، واختطفوا المزيد من النساء والأطفال، على طريق مايدوجوري السريع. وفي الوقت نفسه، قتلت جماعة داعش الإفريقية عمال الإغاثة الفرنسيين في نيامي عاصمة النيجر، وذبحوا ما لا يقل عن 35 جنديًا من النيجر في كمين عسكري آخر، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. 

لقد ظلت بوكو حرام الجماعة الإرهابية الرئيسية الوحيدة التي سجلت ارتفاعًا في النشاط الإرهابي، حتى مع تراجع داعش وطالبان وحركة الشباب المجاهدين. ويصنف مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2020 نيجيريا في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر تضررًا اليوم، متقدمة على سوريا واليمن وباكستان. وشهد العام نفسه تضاعف عمليات قتل بوكو حرام ثلاث مرات في الكاميرون، حيث تصاعدت حدة النزعات الانفصالية في البلاد. كما شهدت بوركينافاسو ومالي زيادة في الهجمات الإرهابية بمقدار خمسة أضعاف منذ عام 2016، حيث سجلت الأولى زيادة هائلة في عدد القتلى بمقدار 22 ضعفًا خلال السنوات الأربع الماضية.

وإلى جانب اندفاع بوكو حرام نحو الغرب، وتوسع فروع داعش في المنطقة، جاءت عمليات عودة الروح لفلول القاعدة مثل حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، ومجموعة نصرة الإسلام والمسلمين.

معضلة الوجود الفرنسي:

لقد وجدت فرنسا نفسها بعد ثماني سنوات من تورطها في منطقة الساحل، مع عمليات سرفال ثم برخان، في مأزق بالغ التعقيد في حربها ضد الجماعات الإرهابية. ففي 2014، اضطر الجيش الفرنسي إلى توسيع نطاق عملياته لتشمل تشاد والنيجر وبوركينافاسو وموريتانيا. كان التفويض الرسمي في منطقة الساحل هو محاربة الجماعات الإرهابية فقط. لكن من الناحية العملية، قامت فرنسا أيضًا بمساعدة الحلفاء السياسيين في المنطقة. على سبيل المثال، تم الدفع بالقوات الفرنسية إلى شمال تشاد في عام 2019 لوقف تقدم المتمردين الذين لم يكونوا جهاديين بأي حال من الأحوال. ومن خلال مساعداتها العسكرية والمالية، ساعدت فرنسا في ضمان بقاء الحكومات التي تفتقر إلى الشرعية الشعبية، وهو ما أدى إلى زيادة السخط الشعبي تجاه الوجود الفرنسي، وزيادة جاذبية الخطاب الجهادي في المقابل. أثناء قتال قوات عملية برخان في شمال مالي، انتهز الضباط الماليون الفرصة للتحضير لانقلاب للإطاحة بالرئيس "إبراهيم بوبكر كيتا" في باماكو في عام 2020.

وهكذا، فإن الحرب ضد الإرهاب قد بررت ليس فقط إفلات المؤسسة العسكرية من العقاب، ولكن أيضًا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي أضفت -كما ذكرنا- الشرعية على "مقاومة" الجهاديين ضد ما أسموه قوات الاحتلال التي تعمل في خدمة "الإمبريالية الغربية" و"قوى الشر" في العالم. لقد اعتبرت السلطات الحاكمة في دول الساحل الوجود العسكري الفرنسي ضامنًا لبقائها واستمرارها، وهو ما يثنيها -في الغالب الأعم- عن إجراء الإصلاحات اللازمة لتطوير مؤسسات الدولة بحيث تصبح أكثر كفاءة في مواجهة الجماعات الإرهابية، ولا سيما في المناطق الريفية والنائية. لقد أضحت فرنسا عالقة بالفعل في عمليات محاربة الإرهاب التي تعكس جميع التناقضات في المقاربات الرسمية حول الطبيعة العالمية للتهديد الإرهابي في منطقة الساحل. والأخطر من ذلك، أنّ فرنسا تُفكر حاليًّا في إجراء حوار مع بعض التنظيمات الإرهابية في الوقت الذي لا تستبعد فيه إمكانية تخفيض قواتها في الساحل. 

المقاربة البديلة:

لقد أدّت الزيادة في الأشكال المختلفة للصراعات العنيفة في منطقة الساحل إلى طرح العديد من التساؤلات حول إشكاليات السلام والأمن الإنساني. تم التركيز بشكل عام على شرح الأسباب الكامنة وراء النزاعات المسلحة والصراع من أجل السيطرة على الموارد والإرهاب العنيف في جميع أنحاء المنطقة. وبالطبع كان محور التحليل يدور حول عدد من العوامل الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية بما في ذلك الفرص الاقتصادية، وارتفاع مستوى الفقر والتهميش السياسي.

ونتيجة لذلك، تم وضع أطر عمل إقليمية وثنائية مختلفة تهدف إلى مواجهة التحديات الأمنية والتهديدات عبر الحدود لدعم منظومة الأمن الإنساني. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى حلول فعالة تم تحقيقها حتى الآن باستخدام هذه الآليات جعل العديد من صانعي السياسات والأكاديميين يشيرون إلى أن وضعية الهشاشة وعدم الاستقرار في منطقة الساحل وغيرها من مناطق جنوب الصحراء تتطلب نهجًا أكثر شمولًا. وقد برز في هذا السياق أهمية العوامل الأساسية الأخرى مثل الديموغرافيا. بعبارة أكثر تحديدًا، إذا كانت عوامل الحوكمة، وارتفاع معدلات بطالة الشباب، وندرة الموارد والفقر، قد ساهمت في هذه الاتجاهات غير المواتية للصراعات؛ فمن الضروري أخذ العناصر الديموغرافية في الاعتبار أيضًا.

ولتحقيق هذه الرؤى البديلة، بدأ مكتب غرب ووسط إفريقيا التابع لصندوق الأمم المتحدة للسكان بدراسة حول موضوع الديموغرافيا والسلام والأمن في السياق الإفريقي. وقد ركزت هذه الدراسة بشكل خاص على العلاقة بين الخصائص الديموغرافية، مثل الهيكل العمري للشباب والصراع العنيف. لقد تبين وجود علاقة واضحة بين وجود كتلة شبابية ضخمة أو ما يسمى "تضخم الفئة العمرية للشباب" وبين خطر العنف السياسي. تم تحديد معدلات البطالة المرتفعة والتهميش السياسي والاقتصادي على أنها بعض الأسباب الهيكلية التي تجعل البلدان تواجه هذه الأشكال من التحديات الديموغرافية، وتصبح أكثر عرضة للنزاع المسلح والإرهاب. وقد أدت هذه النتائج إلى عودة الاستفسار التالي: هل تؤكد ظاهرة تضخم فئة الشباب على التحديات الأمنية المتزايدة في منطقة الساحل؟.

تُعتبر منطقة الساحل أكبر منطقة فتية في العالم نظرًا لوجود نسبة الشباب الكبيرة فيها. كما أنها تعد أيضًا إحدى المناطق التي تضم عددًا كبيرًا من دول العالم المتخلفة وغير المستقرة. وطبقًا لأحد الدارسين فإن "جيل اليوم من الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا (يبلغ نحو 1.8 مليار) يعيش حوالي 90% منهم في البلدان النامية، ويعيش حوالي 140 مليون شاب في 36 دولة مصنفة من قبل بنوك التنمية متعددة الأطراف على أنها دول هشة ومتأثرة بالصراعات". وعلى أي الأحوال، توجد معظم هذه الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات في إفريقيا.

وختامًا فإن عقم المقاربات الدولية لمحاربة الإرهاب، وتركيزها على الحلول العسكرية في منطقة الساحل، قد أفسح المجال واسعًا لعودة الروح للجماعات الإرهابية مثل بوكو حرام وأخواتها. وثمة تناقضات في الروايات الرسمية السائدة حول عمليات التطرف والإرهاب، ولا تزال الروايات الجهادية الكبرى تكسب المزيد من الأنصار في ظل واقع حياتي بائس يعاني منه الشباب الإفريقي. إن الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل، كما هو الحال في أجزاء أخرى من إفريقيا والعالم، تستغل وجود المظالم التاريخية ووجود فئات مهمشة كبيرة بين السكان وتعمد إلى الترويج لرواياتها ذات الإسناد الديني، والتي تحمل معها وعودًا بالخلاص الدنيوي والأخروي. ومن المرجّح أن تستمر الحاجة إلى التدخلات الأمنية والعسكرية للتخفيف من حدة التهديدات المباشرة التي تشكلها هذه المجموعات الإرهابية. ومع ذلك، فقد أظهرت دروس مكافحة الإرهاب الصعبة في العقدين الماضيين استنتاجًا مفاده أن الحلول العسكرية المكثفة، لا سيما في ظل وجود نظم حاكمة تفتقر إلى الشرعية الشعبية، تدفع بالأمور إلى مسار أكثر سوءًا. وعليه يصبح النهج الأكثر فاعلية واستدامة هو ذلك الذي يعترف بأهمية عوامل الحكم الرشيد، واستيعاب فئات الشباب بصورة أكثر تحديدًا.