أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تحدي التمويل:

تأثير سلاسل التوريد الخضراء في التجارة الدولية

05 ديسمبر، 2023


ظهر مفهوم "سلاسل التوريد" لأول مرة في الأدبيات منذ أكثر من أربعين عاماً، عندما اقترح أوليفر ويبر، في عام 1982 التعريف الأول لإدارة مثل هذه الأنظمة. ومنذ ذلك الحين، شهد مجال إدارة سلاسل التوريد نمواً كبيراً على المستويين البحثي والمؤسسي. ويُنظر إلى سلاسل التوريد، في شكلها الكلاسيكي، على أنها "مجموعة من العمليات التي تهدف إلى تلبية طلبات العملاء، وتشمل جميع كيانات الشبكة المُحتملة مثل الموردين والمصنعين والناقلين والمستودعات وتجار التجزئة والعملاء، الذين يتمثل هدفهم الرئيسي في رضا العملاء بأقل تكلفة". 

ويمكن وصف "سلسلة التوريد المُستدامة" بأنها أنظمة شبكات مُعقّدة تتضمن كيانات متنوعة تدير المنتجات من الموردين إلى العملاء والعوائد المرتبطة بها، مع مراعاة التأثيرات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية. واكتسبت معالجة مثل هذه الأنظمة، في الآونة الأخيرة، أهمية ملحوظة، إذ تواجه الشركات تحدي التعامل مع قضايا الاستدامة الناجمة عن تزايد وعي المجتمع بالمشكلات البيئية والاجتماعية. 

سلاسل التوريد الخضراء:  

يمكن النظر إلى "سلاسل التوريد الخضراء" على أنها "هياكل لوجستية تضمن إنتاج وتوزيع المنتجات عالمياً بطريقة صديقة للبيئة". ولتحقيق هذا الهدف، يتعين على الشركات الاستثمار في التصميم والتخطيط الأمثل لهياكلها اللوجستية، مع مراعاة المفاضلة بين الأرباح والآثار البيئية.

ويمكن تعريف "سلسلة التوريد الخضراء" بأنها "طريقة الإدارة التشغيلية ونهج التحسين لتقليل التأثير البيئي خلال دورة حياة المنتج، بدءاً من المادة الخام وحتى المنتج النهائي". وينبغي أن تؤدي هذه الأنشطة إلى النمو الاقتصادي وحماية البيئة والتقدم الاجتماعي. 

وقد تسبب التحديث الصناعي السريع والعولمة في العديد من المشكلات البيئية، وخاصة انبعاثات الغازات الدفيئة والنفايات. ويمكن لتنفيذ الخدمات اللوجستية الخضراء، من خلال تحسين العمليات وتقليل العوامل الخارجية البيئية، تحقيق توازن مستدام بين الأهداف البيئية والاقتصادية والاجتماعية لمختلف المؤسسات. وكما هو الحال مع انتشار "الروبوت" والذكاء الاصطناعي، تُعد التنمية المستدامة قضية رئيسية للشركات في القرن الحادي والعشرين. كذلك يُعد تحسين سلسلة التوريد الصديقة للبيئة تحدياً كبيراً ستواجهه الشركات في السنوات المقبلة. 

مراحل رئيسية:

يمكن تسليط الضوء على أبرز مراحل سلسلة التوريد الخضراء والمسؤولة بيئياً، بدايةً من الإنتاج، مروراً بالتخزين، وانتهاءً بالنقل والتوزيع، كما يلي:

1- سلسلة التوريد الخضراء في عملية الإنتاج: يبدأ الاهتمام بالتنمية المستدامة في مجال التصنيع باختيار مصادر مدخلات الإنتاج. وستحرص الشركات في المستقبل على استخدام المواد الخام والإمدادات غير الملوثة للبيئة، وسيتعين عليها أيضاً أن تبني اختياراتها في مجال المشتريات على التزام الموردين بالتنمية المستدامة (بالإضافة إلى الجودة، والسعر، ومواعيد التسليم)، فضلاً عن تفضيل الشركاء المحليين سلاسل التوريد القصيرة على سلاسل التوريد الممتدة خارج الحدود. وهنا فإن إعادة التوطين، بإعطاء الأولوية للمنتج المحلي، سوف تقلل بشكل كبير من المسافة والوقت اللازمين لتوصيل الإمدادات، وهذا التيار تحديداً يُشار إليه بـ"الارتداد عن طريق العولمة" (de-globalization).

علاوة على ذلك، فإن إنتاج السلع يؤدي حتماً إلى استهلاك كبير للطاقة، من خلال استخدام الآلات والعمليات المختلفة لتحويل المواد الخام. وفي كثير من الحالات، يتطلب التصنيع أيضاً حرق الوقود الأحفوري (النفط والفحم)، والذي يُعد أهم مصادر انبعاثات الغازات الدفيئة.

ولذلك سيتعين على الشركات التحرك نحو الإنتاج الأكثر مراعاة للبيئة، لتقليل استهلاك الطاقة، واستخدام التقنيات النظيفة للحد من بصمتها الكربونية. ويمكن لتقنيات "الإدارة المحسّنة" (lean management)، على سبيل المثال، أن تُسهم في تقليل استهلاك المياه والكهرباء والموارد المستخدمة في عملية التصنيع. وبهذه الطريقة، يتم الجمع بين الهدف البيئي، والهدف الاقتصادي المتمثّل في خفض التكاليف. 

وأخيراً، يتطلب تحسين عملية الإنتاج زيادة كبيرة في إعادة التدوير، إذ إن إمكانية إعادة استخدام مواد معينة للتغليف في نهاية دورة حياتها، وإعادة حقنها في دورة إنتاج جديدة، تساعد على تقليل تكاليف التصنيع. ويُعد نهج التصميم البيئي هذا، الذي يأخذ في الاعتبار دورة حياة المنتج بأكملها، بدءاً من تطويره وحتى إعادة تدويره، تجسيداً مهماً للتحوّل الأخضر في الإنتاج.

2- التخزين المسؤول بيئياً: بعيداً عن تصنيع المنتجات، فإن التحدي المتمثل في سلسلة التوريد الخضراء يكمن أيضاً، إلى حد كبير، في قدرة الشركات على إنشاء أنظمة لوجستية صديقة للبيئة، تعمل على تعزيز التنمية المستدامة. وهذا يعني دمج المعايير البيئية في نظام تخطيط موارد المؤسسات (ERP) الخاص بالشركة، بنفس طريقة معايير التكاليف أو الجودة وإدارة المخاطر المؤسسية.

وعند التخطيط للخدمات اللوجستية، فإن العناصر الأولى التي يجب مراعاتها هي موقع المستودع وتخطيطه والمواد المستخدمة في تصميمه. ويُعد استخدام مصادر الطاقة المتجددة، مثل الخلايا الشمسية الكهروضوئية، وتوربينات الرياح، ومحطات الطاقة الكهرومائية، وأنظمة تجميع مياه الأمطار ومعالجتها؛ أساساً يمكن للشركات بناء المستودع المستدام عليه.

وإلى جانب المخزن نفسه، يجب أن تدعم عملية إدارة المخزون بأكملها تنفيذ الخدمات اللوجستية الخضراء. ويجب أن يتيح نظام إدارة المخزون تحسين معالجة وإعداد الطلبات لتقليل تكاليف التنفيذ، وكذلك الحد من عدد العمليات المستهلكة للطاقة. ولتحقيق هذه الغاية، فإن استخدام التقنيات المتقدمة سيُمكّن في نهاية المطاف من إجراء عملية مؤتمتة إلى حد كبير.

كذلك يتعين على الشركات أن تتبنى نهجاً عالمياً، يتم فيه دمج التنمية المستدامة في جميع مراحل عملية الإنتاج. وبعيداً عن الالتزام البيئي، الذي أصبح الآن عاملاً رئيسياً في تفضيلات المستهلك، تُعد سلسلة التوريد الخضراء أيضاً فرصة للشركات لمراجعة أساليب الإنتاج والتسويق الخاصة بها بشكل كامل، وفي نفس الوقت تخفيض تكاليفها.

3- التأثير في قطاع النقل: ستتضمن سلسلة التوريد الخضراء المستقبلية تغييرات كبيرة في الحلقة النهائية في سلسلة الإنتاج؛ وهي النقل، سواءً أكان ذلك من حيث تسليم البضائع أم توريدها أم توجيهها. ولذلك ينبغي ترشيد الرحلات ذهاباً وإياباً لتفادي الرحلات غير المُحمّلة بالسلع. وفيما يتعلق بعمليات التسليم، لا بد من معالجة مشكلة "الميل الأخير"؛ وهي ليست مُكلفة اقتصادياً فحسب، ولكنها تُولد أيضاً انبعاثات كربونية كبيرة، وخاصة عندما يتعذر تسليم الشحنات إلى المتلقي من المرة الأولى، بما يتطلب إعادة التسليم. ولتحقيق هذه الغاية، من الضروري توسيع نطاق تسليم المنتجات إلى العميل النهائي في نقاط تسليم. وقد يكون الحل الآخر هو استخدام الطائرات من دون طيار في عملية التسليم النهائية، شريطة أن يتم تذليل العقبات القانونية، وتلك المتعلقة بالتطبيقات العملية والاقتصادية لهذا الاستخدام. 

علاوة على ذلك، ينبغي إعطاء الأولوية للنقل النهري أو بالسكك الحديدية بدلاً من النقل البري أو الجوي. وعندما لا تكون هذه البدائل ممكنة، فإن استخدام الوقود الحيوي (الإيثانول، أو الزيوت النباتية، أو زيوت البذور الزيتية) والهيدروجين الأخضر، فضلاً عن تحسين مسار الشحنات؛ من شأنه أن يُقلل من الانبعاثات الملوثة والبصمة الكربونية للإنتاج والنقل. وسيشمل النقل المستقبلي أيضاً الاستخدام واسع النطاق للمركبات الكهربائية والهيدروجينية، خاصة في مجالات الشحن والخدمات اللوجستية. وهذا جزء مهم من التحوّل الأخضر، إذ يُعد الإلغاء التام لمركبات الديزل خطوة أولى مهمة في تنفيذ هذا النهج المستدام.

وفي عام 2021، قدمت المفوضية الأوروبية، وهي الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، مقترحات بشأن خفض الانبعاثات الغازية المُسببة للاحتباس الحراري في الدول الأعضاء بحلول عام 2030، بنسبة 55% عن مستوياتها في عام 1990. ومن بين المُقترحات المقدمة، تغيير طريقة إنتاج المركبات وسيرها خلال السنوات القليلة المقبلة. فوفقاً للقواعد الجديدة، سيكون على دول الاتحاد الأوروبي بحلول 2030، التأكد من أن عوادم سيارات الركوب والمركبات التجارية أقل بنسبة 55% عن مستوياتها الحالية. وبعد ذلك بخمس سنوات، أي في 2035، سيتم خفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 100% عن مستواها في 2021، وهو ما يعني الوصول إلى "صفر عوادم" في السيارات الجديدة. وستكون تلك القيود حاكمة لواردات السوق الأوروبية من السيارات والعديد من السلع الأخرى التي سوف يشترط تحقيقها لمتطلبات بيئية من شأنها تقييد الاستيراد بشكل كبير أو حث المصدرين ومن ورائهم المنتجين على الامتثال لتلك المتطلبات.

تأثير إيجابي: 

في الاجتماع غير الرسمي الثاني والعشرين لقادة "أبيك" (منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ) عام 2014، دعت الصين إلى بناء شبكة تعاون لسلاسل التوريد الخضراء لدول المنتدى. ونالت هذه المبادرة موافقة الدول المشاركة، وأُدرجت في "بيان بكين"، وكانت موضع التوافق الوحيد حول حماية البيئة في هذا الاجتماع.

وفي عام 2017، ومن أجل دفع مبادرة "الحزام والطريق" الأخضر، أنشأت الصين منصة تعاون لسلاسل التوريد الخضراء لـ"الحزام والطريق"، وتُعد سلاسل التوريد الخضراء رابطة تعاون في التجارة والاقتصاد بين الدول الواقعة على طول "الحزام والطريق".

وقد تناولت ورقة بحثية تأثير الخدمات اللوجستية الخضراء في التجارة الدولية باستخدام بيانات 113 دولة ومنطقة للفترة ما بين 2007 و2014. وأكدت النتائج الأساسية لهذه الدراسة أن الأداء اللوجستي الأخضر للبلدان المُصدرة له تأثير إيجابي في الصادرات، مما يشير إلى أن انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وزيادة إنتاجية الكربون في صناعة الخدمات اللوجستية؛ يعززان حجم الصادرات. وأوصت الدراسة الحكومات والمصدّرين بإيلاء المزيد من الاهتمام لتحسين الأداء اللوجستي، وتعزيز القدرة التنافسية الدولية، عن طريق تحسين البنية التحتية، وتحقيق جودة أعلى للخدمات اللوجستية، وتعزيز تطبيق تكنولوجيا المعلومات الحديثة؛ لتحسين كفاءة قدرات التتبع الجمركية واللوجستية.

فرص وتحديات:

يتجه العالم نحو مزيد من السيطرة على تأثير الخدمات اللوجستية، ليس فقط على البيئة الخارجية (التشييد المسؤول للمباني، والحد من التلوث، ومعالجة النفايات، والإدارة البيئية للطاقة.. وغيرها)، لكن أيضاً على البيئة الداخلية للمؤسسات (رضا العاملين، والآثار الصحية الداخلية.. إلخ). 

ويُعد الاهتمام العالمي بسرعة التعامل مع الاحترار البيئي، وضرورة التقيد بأهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة في عام 2015، وكذلك اتفاقية باريس للمناخ الصادرة عن مؤتمر الأطراف (COP21) في العام نفسه، وغير ذلك من تحركات أممية وإقليمية؛ من الفرص المتاحة أمام التحوّل الأخضر في سلاسل التوريد. 

ويتيح هذا الزخم العالمي منفذاً إلى قدر من التمويل اللازم لتحويل سلسلة التوريد إلى مزيد من المراعاة لجوانب الاستدامة البيئية. وقد أُطلق عدد من المبادرات التي تشجّع المنتجات الخضراء بصورة حصرية مثل مبادرة (RE100) التي تم إطلاقها في عام 2014، وتهدف إلى تسريع التحول إلى طاقة كهربائية خالية من الكربون على نطاق واسع، عن طريق تأسيس تحالف مكون من مجموعة شركات عالمية، تلتزم بتشغيل منشآتها وعملياتها التجارية والصناعية، اعتماداً على طاقة نظيفة وخضراء بنسبة 100%. وبلغ عدد الشركات المنضمة لهذه المبادرة أكثر من 400 شركة من مختلف القطاعات والدول. 

كذلك هناك العديد من المنتجات الداعمة لتمويل التحوّل الأخضر، مثل السندات والصكوك والصناديق الخضراء، وشهادات الائتمان الكربوني، والقروض المسؤولة بيئياً، وغيرها من بدائل تمويل جاذبة للاستثمار المسؤول، الذي يجد طريقه إلى مشروعات تحويل سلاسل التوريد لنشاط متكامل صديق للبيئة.

لكن الفجوة التمويلية المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة كبيرة للغاية، حددها البعض بنحو 4,2 تريليون دولار سنوياً حتى عام 2030. وهذا من أكبر التحديات التي تواجه التحوّل الأخضر بشكل عام، والتحوّل في مجال سلاسل التوريد بشكل خاص. كما أن هناك تحديات تقنية وتشريعية وتنظيمية تحول دون الانتقال الطاقي، المحقق لكثير من أهداف الاستدامة في قطاع النقل، المرتبط كما سلف بسلاسل التوريد. وما تزال التشريعات في كثير من الدول غير مهيئة للدعم الكافي للانتقال الأخضر على المستويات كافة.