كشف الهجوم الأوكراني المباغت على عمق الأراضي الروسية عن ثغرات بالاستراتيجية العسكرية الروسية تجاه حماية حدودها خلال حربها مع أوكرانيا؛ إذ استطاعت كييف، أن تباغت القوات الروسية وتتوغل لعدة كيلومترات داخل الأراضي الروسية؛ وهو ما مثل تحولاً في سير المعارك؛ من حيث انتقال روسيا أيضاً إلى موقع الدفاع، بالإضافة إلى ما يمكن أن يمثله ذلك من تأثيرات سلبية في الجبهة الداخلية الروسية.
انكشاف الثغرات:
يُعد التوغل الأوكراني السريع في منطقة كورسك الروسية؛ أكبر هجوم عبر الحدود تشنه قوات كييف في الحرب المستمرة منذ قرابة عامين ونصف؛ الأمر الذي كشف عن نقاط ضعف روسية تطال الجبهة الداخلية، التي طالما تغنى الكرملين أنها مستقرة ولا تأثير للحرب فيها؛ خاصة أن كافة المعارك كانت تدور داخل الأراضي الأوكرانية، لكن الهجوم الأوكراني دفع الآلاف من المدنيين الروس إلى الفرار من المنطقة؛ وأدى لسحب قوات من خط المواجهة الذي يمتد لأكثر من 620 ميلاً، في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى ما يلي:
• مشاركة واسعة: شاركت في الهجوم الأوكراني عدة ألوية تتألف من مركبات مدرعة، وطائرات من دون طيار؛ إذ توغلت القوات الأوكرانية لنحو 30 كيلومتراً داخل الأراضي الروسية؛ بسبب الكثافة المنخفضة للجنود الروس في هذه المنطقة، وفشلت القوات الروسية التي فوجئت بالهجوم، في التعامل السريع مع التوغل، ومع انخراط الجزء الأكبر من الجيش الروسي في الهجوم في منطقة دونيتسك الشرقية في أوكرانيا، لم يتبق سوى عدد قليل من القوات لحماية منطقة كورسك الحدودية.
• انتقال أوكراني من الدفاع للهجوم: اتضح من الهجوم الأوكراني المفاجئ أنه لم يكن هجوماً اعتباطياً؛ خاصة من ناحية التوقيت والمكان؛ إذ كان توقيت الهجوم حاسماً في ظل التقدم الروسي على خط المواجهة والضغط الكبير على القوات الأوكرانية خلال الأشهر الماضية، كما أن اختيار كورسك بالتحديد يبدو أنه جاء بعد دعم غربي بصور الأقمار الاصطناعية، والتي من المرجح أنها كشفت عن المناطق الحدودية ذات التمركزات العسكرية المنخفضة؛ إذ أشارت تقارير إلى أن القوات الأوكرانية في هجومها لم تواجه إلا عدداً محدوداً من النقاط العسكرية الصغيرة؛ مما سهل مهمتها لاختراق عشرات الكيلومترات داخل الحدود الروسية دون مواجهة تذكر.
• تشجيع غربي: كان رد الفعل الغربي خاصة الأمريكي والأوروبي أحد أهم أسباب استمرار الموقف الأوكراني وعدم إصدار الأوامر بالتراجع؛ إذ لم توجه واشنطن أي انتقادات خاصة بالوضع في كورسك؛ بل أكدت أن قرار الهجوم والاستمرار فيه في عمق الأراضي الروسية هو قرار القادة الأوكرانيين.
دوافع متعددة:
هناك عدد من الدوافع والأهداف التي أدت إلى قيام اوكرانيا بالقيام بهجوم بالداخل الروسي، أهمها ما يلي:
• تأمين استمرار الدعم الغربي: يمكن اعتبار أن الهدف الاستراتيجي الذي دفع كييف لهجومها المفاجئ على كورسك؛ هو خوفها من وصول ترامب للبيت الأبيض، ووقف المساعدات العسكرية الأمريكية؛ مما يضع كييف أمام خيارين أساسيين، وهما: إما الاستمرار في الحرب من دون مساعدات أمريكية، وهي مساعدات جوهرية لضمان موازنة قوة أوكرانيا مع روسيا؛ أو قبول التفاوض تبعاً للشروط الروسية؛ ومن ثم خسارتها لأجزاء من أراضيها لصالح روسيا؛ ومن ثم يجيء هذا الهجوم ليمثل دافعاً جديداً للمؤسسات الغربية بما فيها الأمريكية لاستمرار تقديم الدعم العسكري، وزيادة الثقة في القدرة الأوكرانية على تحقيق تحسن على الأرض.
• تحسين الموقف التفاوضي: أدى الموقف الاستراتيجي والدولي الذي باتت فيه أوكرانيا إلى المقامرة بهجوم مفاجئ وعنيف، ومن المحتمل أنه تم التخطيط له بالتعاون مع دول غربية، وذلك أملاً في تغيير الوضع على الأرض أو على الأقل تخفيف الضغط على الجبهة في وقت يستمر فيه التقدم الروسي بشكل مطرد، وفي أفضل الأحوال القدرة على الصمود والبقاء داخل الأراضي الروسية لحين طرح خيار التفاوض، وحينها يمكن أن تبدأ أوكرانيا المفاوضات وهي في وضعية أفضل كثيراً مع روسيا، ولكن هذه المقامرة تخاطر بدفع روسيا لتصعيد عملياتها العسكرية بشكل أكثر شراسة، كرد على العملية الأوكرانية، كما أن هذه المقامرة قد تخدم بوتين داخلياً؛ إذ يمكن أن يستخدم العملية لإشعار المواطنين الروس أنهم تحت خطر غزو حقيقي؛ ومن ثم زيادة نسبة الدعم الشعبي للعمليات العسكرية.
• رفع الروح المعنوية: أشارت كثافة هجوم كورسك إلى حقيقة أن القيادة الأوكرانية تعلم أن روسيا سترد على هجوم كورسك بشراسة؛ إذ استخدمت القوات الأوكرانية على نطاق واسع طائرات من دون طيار لضرب المركبات العسكرية الروسية، ونشرت أصول الحرب الإلكترونية لقمع الطائرات من دون طيار الروسية وتعطيل الاتصالات العسكرية، كما دفعت بمجموعات متنقلة أوكرانية صغيرة تجوب المنطقة دون محاولة تعزيز السيطرة، فيما تمركزت قوات أخرى حول بلدة سودزا على بعد حوالي 6 أميال من الحدود، وفي بعض المناطق الأخرى. أدت هذه الإجراءات إلى عدم تمكن القوات الروسية من صد الهجوم المباغت، كما ينبئ الهجوم أن أوكرانيا تخطط للبقاء في كورسك لمدة ليست بالقصيرة؛ أملاً في تحسين موقفها التفاوضي من ناحية، وتحسين الروح المعنوية لمقاتليها من ناحية أخرى؛ وضعاً في الاعتبار التقارير التي تشير إلى ازدياد معدل تهرب الشباب الأوكراني من الخدمة العسكرية، وتراجع معدل الثقة العامة في إمكانية تحقيق النصر أمام روسيا.
سيناريوهات محتملة:
هناك عدد من السيناريوهات الخاصة بالتعامل الروسي في ضوء الهجوم الأوكراني على كورسك، أهمها ما يلي:
• تكثيف العمليات العسكرية الروسية (الأكثر ترجيحاً): إذ أدى الهجوم إلى إحراج الرئيس بوتين وكبار مساعديه؛ ومن ثم من المتوقع أن تحاول روسيا صد الهجوم، ومحاولة طرد القوات الأوكرانية وردها إلى داخل اوكرانيا، لكن ذلك لن يكون كافياً؛ إذ ستحاول روسيا الرد على هذا الهجوم عبر تكثيف الهجوم على الداخل الأوكراني، وتصعيد العمليات على الجبهة، وربما محاولة استهداف مواقع ذات رمزية بالعاصمة الأوكرانية كييف.
• الحفاظ على نفس وتيرة العمليات العسكرية: وفي هذه الحالة سوف يعمد الكرملين إلى طرد القوات الأوكرانية من الأراضي الروسية، ولكن من دون أي تغييرات على خطط الهجوم الموجودة حالياً على طول خط الجبهة؛ إذ ستحافظ القوات الروسية على تقدمها البطيء والمستدام من دون تغيير، وقد يقتصر الرد على بعض الهجمات الصاروخية على مواقع داخل العاصمة الأوكرانية كييف.
• إعادة النظر في الموقف التفاوضي: من الممكن أن يدفع الهجوم الكرملين لتسريع خطوات إنهاء الحرب والاكتفاء بالمكاسب التي حققها على الأرض والتفاوض بقوة مع الاحتفاظ بمناطق أوكرانية تؤمن له نصراً سياسياً يحتاج إليه، وذلك انطلاقاً من تأثيرات هذه العملية، والتي أوضحت أن أوكرانيا -خاصة في حال استمرار الدعم الغربي اللامحدود لها- يمكن أن تمثل شوكة كبيرة للنظام الروسي، وقد تثير أزمات عدة؛ إذ إنها لا تزال تحتفظ بإمكانات تمكنها من إلحاق الأذى بروسيا.
ختاماً، يمكن اعتبار أن الهجوم الأوكراني على كورسك محاولة أخيرة من كييف لفرض السيناريو الخاص بها على مسار الحرب والتفاوض على أسس متساوية، أو على أقل تقدير إجبار الكرملين على تحويل الموارد من منطقة دونيتسك الشرقية، حيث ضغطت القوات الروسية في عدة قطاعات وحققت مكاسب بطيئة ولكن ثابتة، بالإضافة إلى ذلك كان الهجوم بمثابة رفض للسيناريو الروسي، الذي كان يأمل في أن تستمر قواته في تطويق أوكرانيا لحين البدء في مفاوضات تكون له فيها اليد العليا؛ بما يضمن إنهاء الحرب وفقاً للتصور الروسي.
من ناحية أخرى، فمن غير المحتمل أن ترضخ موسكو بسهولة لسيناريو كييف، ولكنها قد ترد عبر توسيع أهداف حربها للاستيلاء على المزيد من الأراضي الأوكرانية، وقد تزيد من وتيرة هجماتها على طول خط الجبهة مع احتمالية الدفع بقوات أكثر تدريباً في مناطق القتال؛ خاصة أن شخصية بوتين ومعاونيه على الأرجح لن تقبل الفشل، خاصة مع تأثيرات الهجوم الأوكراني في الجبهة الداخلية الروسية.