يبدو أن حرب الأسعار التي اندلعت في أسواق النفط العالمية خلال الأسبوع الماضي، والتي بدأتها روسيا بخروجها من اتفاق تخفيض الإنتاج، ضمن تحالف "أوبك+"، ستفضي لتغيرات عديدة لن تقتصر فقط على تراجع أسعار النفط العالمية في الأجلين القصير والمتوسط، لكنها ستؤدي كذلك إلى تحولات جوهرية بالأسواق على المدى البعيد، وهو ما يقتضي من منتجي النفط التعامل مع الواقع الجديد في الأسواق، عبر وسائل وأدوات غير تقليدية، تمكنهم من ضبط حركة السوق، وتجنب المزيد من الأضرار، وتقع المسئولية الأكبر في ذلك على روسيا، صاحبة الشرارة الأولى في حرب الأسعار تلك.
أهمية تحالف "أوبك+":
مارس تحالف "أوبك+" منذ تشكيله دوراً مهماً في تعزيز استقرار أسواق النفط العالمية، فالتحالف، الذي يضم أعضاء منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، بجانب منتجي نفط تقليدي رئيسيين آخرين، وعلى رأسهم روسيا، كان بصفة دائمة على استعداد للتدخل بقرارات تتعلق بتقليص أو زيادة الإمدادات النفطية، وفق احتياجات السوق، وفي أوقات الضرورة، لدى انخفاض الأسعار أو ارتفاعها بشكل غير مبرر، وبما يساعد على استعادة الأسعار لتوازنها واستقرارها عند مستويات مقبولة من جانب المنتجين والمستهلكين.
لكن تحالف "أوبك+" واجه تحدياً كبيراً خلال الأيام الماضية، حيث أن روسيا، وهى أكبر منتجي النفط من غير أعضاء منظمة "أوبك" داخل التحالف، قررت التخلي عن المزيد من التعاون مع باقي دول التحالف، لاسيما بعد أن تسبب الانتشار السريع لفيروس "كورونا" المستجد "COVID-19"، في تراجع مقلق لأسعار النفط، نتيجة الضغط غير المسبوق الذي وجهه إلى الأنشطة الاقتصادية العالمية، حيث توقفت بسببه آلاف المصانع في الصين، وأُلغيت آلاف رحلات الطيران حول العالم، ووضعت مناطق عديدة حول العالم، بما في ذلك في بعض الدول الأوروبية، تحت الحجر الصحي، وتم تقييد حركة السكان، الأمر الذي قلص الأنشطة الاقتصادية بها إلى الحدود الدنيا.
وقد أدت هذه التطورات السلبية إلى تنامي المخاوف بشأن مستقبل الطلب العالمي على النفط، وتوقعت العديد من المؤسسات والمراكز البحثية تراجع الطلب لأول مرة منذ سنوات، ودفعت كذلك بمنظمة "أوبك" إلى بحث سبل تعزيز الاستقرار في أسواق النفط، من خلال تمديد خفض الإنتاج القائم، وإضافة خفضٍ جديدٍ له بدايةً من مطلع شهر إبريل المقبل، إلا أن روسيا لم تؤيد الخفض الجديد، وقصرت موافقتها فقط على تمديد الخفض القائم.
لكن ذلك لم يكن ليكفي من أجل استعادة الاستقرار في أسوق النفط، أو انتشال أسعار النفط من القاع الذي وصلت إليه بفعل فيروس "كورونا" المستجد. كما أن رد فعل روسيا على التطورات اللاحقة لم يكن إيجابياً أيضاً، وهو ما تسبب في أضرار أخرى للسوق، ودفع أسعار النفط العالمية إلى مستويات هى الأدنى منذ سنوات، حيث انحدرت الأسعار إلى ما دون 30 دولار للبرميل، في غضون أسبوع واحد من بداية حرب الأسعار التي أشعلتها روسيا، لتخسر بذلك الأسعار أكثر من 50% من مستوياتها قبل التطورات الأخيرة.
لكن حرب الأسعار لم تكن هى السبب الوحيد الذي أدى إلى هذا التراجع الكبير والسريع في أسعار النفط، حيث ساهم الانتشار السريع لفيروس "كورونا" حول العالم والمخاوف الشديدة التي أثارها بشأن مستقبل الطلب العالمي على النفط في ذلك، إلا أن تلك المخاوف برغم إسهامها في ذلك التراجع في الأسعار، ظلت في مرتبة ثانية بعد الآثار الدراماتيكية التي نتجت عن تلك الحرب، ودفعت الأسعار إلى النزول إلى قاع جديد لم تكن لتصل إليه في ظل فيروس "كورونا" بمفرده.
وقد حاولت منظمة "أوبك" التفاهم مع روسيا من أجل إيجاد سبيل للخروج من الأزمة الراهنة، عبر تشجيعها على تأييد الخفض الجديد، إلا أن روسيا تخلت عن جميع التزاماتها السابقة بمقتضى اتفاقها مع المنظمة، في إطار تحالف "أوبك+"، ودخلت في حرب أسعار مفتوحة مع منتجي النفط الآخرين، بدعوى أنها لا تقلق من أسعار نفط منخفضة، مبررة ذلك بأنها تتمتع بقدرات مالية كبيرة تمكنها من تحمل تلك الأسعار، وباعتبار أن سعر النفط الذي يضمن لها تحقيق التعادل في موازنتها العامة هو 42 دولار للبرميل، بما يعني، في رؤيتها، أنه حتى مع الأسعار المنخفضة لن تعاني الموازنة عجزاً كبيراً.
ما يجب فعله؟:
لكن في كل الأحوال، فإن التراجع الذي شهدته أسعار النفط العالمية، بوصولها إلى ما يقل عن 30 دولار للبرميل، بينما كانت تدور حول 66 دولار للبرميل قبل نحو عام، بل إنها وصلت إلى 74 دولار للبرميل في نهاية شهر إبريل 2019، عندما حققت أعلى مستوى لها على مدار الإثنى عشر شهراً الماضية، بما يعني أنها خسرت نحو 57% من مستواها قبل عام، ونحو 62% مقارنة بأعلى مستوى لها خلال العام، هذا التراجع سيكون له ثقل كبير على قطاع النفط العالمي، وذلك قبل أن يكون له تأثير سلبي على الموازنات العامة للدول المنتجة للخام.
وما ينطبق على جميع منتجي النفط سينطبق على روسيا وقطاعها النفطي بطبيعة الحال. فرغم أنها، ووفق بياناتها، تتحمل أسعار نفط منخفضة، إلا أن تراجع الأسعار إلى 28 دولار للبرميل، وانخفاض متوسط الأسعار المتوقع طوال العام إلى مستوى 30 دولار للبرميل يعني أن الموازنة الروسية نفسها، والتي تُعوِّل عليها الحكومة بتحمل الأسعار المنخفضة، سوف تتعرض إلى عجز، بعكس ما تتوقع، وفي تلك الحالة فإن قطاعها النفطي لن يكون قادراً على الإنفاق على المشروعات الجديدة المتعلقة بتطوير طاقته الإنتاجية، ولن يكون قادراً على ضمان استمرار إنتاجه بالمعدلات نفسها، وهذا يتوافق مع توقعات الوكالة الدولية للطاقة مؤخراً.
وفي ظل هذه المعطيات، وبعيداً عما تفعله روسيا أو تسعى إليه، وفي ظل التوقعات التي تشير إلى أن الطلب العالمي على النفط سوف يشهد تراجعاً غير مسبوق خلال العام الجاري، بسبب فيروس "كورونا"، وما نتج عنه من انخفاض كبير في مستويات النشاط الاقتصادي على المستوى العالمي، بما يدفع إلى خسارة هذا الطلب نحو 10 مليون برميل يومياً، وفق أحد التقديرات الصادرة عن وكالة "بلومبيرج"، فإن منتجي النفط الآخرين عليهم التقارب والتعاون فيما بينهم من أجل الحد من انحدار السوق ووقف تدهور الأسعار والبحث عن سبيل لتفعيل تحالف "أوبك+"، وذلك من دون التعويل على دور فاعل لروسيا في هذا الصدد على الأقل في الأجل المنظور.